«طويل هذا المنتصف» لمحمد أعروش ذاكرة تشحن الحلم لاحتواء هوامش طائشة

 

من هامش أطلسي منسي يقع في منتصف المسافة الرابطة بين شمال الذاكرة، وبين جنوب الحلم ينبثق صوت أدبي محتشم، ولو أنه على قدر غير يسير من التميّز، ليعلن أمام عشاق الفوضى الخلاَبة في عالم الكتابة المفتوح أن هذا المنتصف طويل …طويل بالنسبة إلى خطوات الكاتب المتعبة قبل، وفي أثناء مخاض الكتابة، لكنه جميل بالنسبة إلينا كقراء يحثون الخطى نحو كل نصّ بلّوري يعثرون فيه على ومضات ذاكرة توشك على الانطفاء، وبقايا أحلام تكاد تتشوه في عالم ناصل القيم، خفيض الجاذبية..

1 – كمين العنوان وزئبقية التجنيس :

أ – ولأن العنوان ليس مجرد مظهر تطريزي لواجهة الكتاب، وليس لعبة إيحائية مفتعلة إلى ما ستحوزه النصوص المركزية من مواقف، ووقائع، وقيم وأبعاد فقط، بل هو تعاقد قرائي بدئي مسؤول أيضا يقرّ فيه الكاتب بأنه يتنازل عن سلطته الرمزية ليغدو رفقة القارئ طرفين متكافئين في بناء المعنى، ونسج الصور وتشكيل الإيقاع، وتوليد الأسئلة ..لأن العنوان بهذه الحمولة الكائنة والممكنة نصيا، فإننا سنفسح المجال لفضولنا القرائي كي ينطلق من التساؤلات التالية :
-إذا كان هذا المنتصف طويلا، فكيف سيكون الأمر مع تجربة عبور المسافة كلها – وهي تخييلية على الأرجح – من بدايتها إلى نهايتها؟.
-إذا اكتفينا بهذا المنتصف في عملية القراءة/ التفاعل مع النصوص، ألا يحق لنا أن نرتدّ إلى ماقبل المنتصف، أو نتوجه إلى مابعده لنكون كقراء سيميائيين قد ساهمنا بواجبنا الإبداعي في استكمال مكونات الهوية النصية التي اختار الكاتب أن يحجبها عنا عبر لعبة التركيب المقلوب في العنوان،والمتمثلة في تقديم الخبر/الصفة عن المبتدأ / الموصوف (طويل هذا المنتصف //هذا المنتصف طويل )؟.
-هل يتقصَّد الكاتب دفعنا، بدهاء الساحر الأنيق، إلى الإحساس ببعض الطمأنينة ونحن نترقب لحظة الإمساك بطرف الخيط الذي سيحدد لنا الوجهة السالكة في مغامرتنا القرائية، من خلال توظيف اسم الإشارة الدال على القريب (هذا) ، والحال أن المشار إليه لايخلو من غموض (المنتصف)، وانفلات من التعيين؟.
ب – وإذا ربطنا العنوان بلعبة تجنيسه «نصوص»، ألا يبدو أن عملية ترتيب إجراءات التدليل (signifiance) ستتمدد ، وتنداح، وتغتني أكثر مادام أن الكاتب اختار أن يحرر هذه النصوص من أي تقييد معياري وفق خلفية تجنيسية تنتظر رسم ملامحها في ما بعد القراءة العمودية للكتاب / أضمومة نصوص؟.
قبل الاقتراب أكثر من الحمولات الفكرية والنفسية والفلسفية للنصوص، وما يلازمها من صيغ تعبيرية، وأشكال تخييلية وتشكلات إيقاعية، يجدر بنا أن نفتح القوس للحديث عن سؤال المسافة الممكنة بين الأجناس الأدبية، أو عبورية الأجناس بما أننا أمام اختيار تجنيسي متحرر، وزئبقي يسقطنا منذ البداية في ارتباك قرائي موزع بين التشويق، والتيه في الوقت نفسه.
فنحن عندما ننتقل من العلامات البصرية السيميائية، والخطية المؤثثة لواجهة الكتاب بصفتها عتبات نصية نحو النص المركزي الذي هو مجموع النصوص المشكلة للكتاب، والتي يشتغل معمارها بما يوحي أنها كتابة شعري، أو كتابة قريبة من الشعر (طوبوغرافية الفضاء النصي – تباين مسافات الأسطر – توزيع علامات الترقيم)، في حين أن كاتبها يدرجها ضمن خانة «النصوص» من جهة، وحين نلقي نظرة خاطفة على بنية العناوين (35 عنوانا)، لاسيما تلك التي لا تخلو من ظلال انزياحية (ذاكرة العيون – اصمتوا ! إنها تكرهني بحب عظيم – خمرة الأحلام – زهرة وحيدة في حديقة منسية – مرة مثل الغياب – حين ترتعش الذاكرة …).
من جهة أخرى نجد أنفسنا منجرّين إلى إعادة ترتيب علاقتنا المعتادة مع حدود هوية الكتابة الأدبية ككل، والكتابة الشعرية الحديثة بشكل خاص .. ويزداد الأمر حدّة عندما نقرأ مقتطعا مثبتا في خلفية الكتاب يكتسي طابعا استفزازيا متولدا عن ورود صيغتين استفهاميتين «هل يعلم الذين نحبهم …؟ كم عدد الذين اختنقوا بدخان الحسرة …؟ حاملتين لشحنة وجدانية عالية مفرغة في قالب تأملي، حواري ذي مظهر درامي، وسردي.

2 – تفاصيل ووقائع مهملة، وشخوص وأمكنة منسية ..

إنها الماء السحري لحياة النصوص:
«إنّ الحدّ الذي يفصل الأثر الشعري عن كل ماليس أثرا شعريا هو أقلّ استقرارا من الحدود الإدارية للصين . لقد كان نوفاليس ومالارميه يعتبران الحروف الأبجدية أعظم الآثار الشعرية. وكان الشعراء الروس يعجبون من الطابع الشعري لبطاقة الخمور فيازيمسكي، ومن قائمة أثواب القيصر (غوغول) ، ومن مؤشر السكك الحديدية (باسترناك ، بل ومن فاتورة الصبان (كروتشينيك)»
استئناسا بهذه القناعة المشتركة بين عدد لافت من الشعراء بخصوص أهمية جزئيات الأشياء وتفاصيل اليومي، وبساطة الوقائع والشخوص، وألفة الأمكنة في شعرية الكتابة، نستطيع أن نتتبع داخل النصوص تراكما وافرا للوحدات المعجمية التي تؤشر على نزوع الكاتب إلى الاغتراف من التجربة الحياتية في تجلياتها اليومية (غرفة- شرفة- الرسالة – السيجارة – المدن الساحلية – مجلة حديثة –القهوة – المدينة- النادلة- الجدران- قهوة المساء- لاعبة التنس- الفناجين- البيرة- الأرصفة- الدروب – المسافرون- بطاقات حب- البيوت- ماسح الأحذية – مثقف المدينة – الفقراء – الأغنياء – السياسيون – الكادحون- العاطلون.. النافذة- إشارات المرور- المقاهي – قيثارة- الخبز – الأحياء الراقية – سعر البنزين – السيارات – مساحيق التجميل – الأكشاك – المكتبات – حبوب منع الحمل- محلات التغذية العامة – رواتب شهرية – قطع الحلوى – بائعة الهوى – تجارة الرصيف – سيارة أمن – دراجة طائشة – لعبة الشطرنج – بائعة الحرشة – بائع اللبن – الدورة الشهرية – نسوة الحي – الشوارع الحارس الليلي – غرفة الإنعاش – خطأ طبي المستشفيات – الجنازة – عمود كهربائي – ماية أطلسية – القطة – السروال الوحيد – السروال الجديد أو المستعمل – أطفال الجبال والقرى النائية – قناة إخبارية – فقراء العالم الثالث …) . فعلى الرغم من ان قدر أي كاتب أصيل أن يكون معزولا عن الآخرين لكونه يحس – دوما – بأنه مغترب، وشقي في عالم لا يتواصل معه إلا بصعوبة ، ولايفهمه، فإنه مسؤول على أن يعطي معنى لما يبدو عديم المعنى ..
وهذا ما يفسر الحضور القوي لذاتية الكاتب في استهلالات معظم النصوص (20 من مجموع 35 نصا)، وابتعاده عن النظر إلى الشخوص الحاضرين معه في نصوصه كمرايا عاكسة لمحنة الواقع المتصدع، بل حرصه الملحاح على الاندغام فيهم بوصفهم كينونات إنسانية لها من الاقتدار ما يكفي لنسج علاقات إيجابية ، ومتجددة، وحميمة مع هذا الواقع العنيد الذي يبدو مغرقا في السلبية، والبشاعة ..
علاقات تتجادل فيها الذاكرة والحلم لترويض عنف التراجيديا الخبيء في الهوامش المنسية والمنبوذة ، وتحويله – بقوة الكلمة البسيطة ، والموحية في آن واحد ، وبكيمياء التخييل المتقشف – إلى عالم مغمور بالمفارقات المفضية إلى جمالية الالتباس Esthétique de l’ambiguïté ، عالم – كما يرى بودلير – يتولد عن شعورين متناقضين : الشعور برعب العالم ، وبنشوته Extase في الوقت نفسه ..وبهذا الحضور الفاقع لذاتية الكاتب ضمن الذات الجمعية كاختيار فلسفي، وليس كاختيار اجتماعي فحسب تكون النصوص قد قلصت مسافة التوتر بين مرجعها الواقعي، وبين التخييلي بشكل يضفي عليها مظهرا غنائيا ذا رواسب سيرذاتية …

(°) قاص وناقد


الكاتب : محمد عياش (°)

  

بتاريخ : 18/11/2021