غواية الفلسفة

في كثير من الأحيان يتم ربط الأدب بالأفكار ، غير أن هذه العلاقة لا تزيغ عن بعدها السيميائي، إلى درجة أنها قد تأخذ أشكالا رمزية . إن الحديث عن أفكار الأدب، غالبا ما يجرنا الحديث عن الفلسفة . ففي سنواتي الأولى من الجامعة كانت أستاذة السرد العربي الحديث تشدد على الطلاب أن يقرأوا مراجع فلسفية لدهاقنة الفكر الفلسفي الأوروبي الحديث أمثال : دوركهايم ، و سبينوزا ، وجون جاك روسو و جورج بطاي و جون بول سارتر ، وغيرهم كثير … لا لسبب إلا لأن الفلسفة معطف غوغولي للأدب .
وبعد تخصصي في السرد القصصي ، في سلك الدكتوراه ، اكتشفت أن ما ذهبت إليه أستاذةُ السرد العربي كان صحيحا . ومن ثم تنشأ علاقة توأمة بين الأدب و الفلسفة ، لا لشيء إلا لأن هذه الأخيرة تغار على الأدب حتى أصبح وليدها الحميم . وبالمقابل تأتي مسوغات الأفكار لتعبر عن حالات إنسانية عاشها ويعيشها بطل السرد في غلاف فلسفي أنيق . لذا كانت العودة إلى الفلسفة ، في منظومة من الخوارزميات ، تتعالق فيها الأحداث وتتوالى بغية بناء صرح العمل الإبداعي .
فالمتخيل الفلسفي يكون حاضرا وراء انتقاء المتواليات الزمانية والمكانية ، التي تتحدد وفق نمو الشخصيات ، ولعب أدوار تسرع من وتيرة الحكي . تماشيا مع ذلك ، تأتي قصة « أكلة الجن « لمحمد أنقار من مجموعته « مؤنس العليل «، بمجموعة من التصورات الفلسفية التي حاول من خلالها أن يجمع بين الفكر والفلسفة . يحكي محمد أنقار في « أكلة الجن « عن طفل نحيل بالبادية أصطحبه أبوه ليعود عمه المريض، وهو في نزعه الأخير بالمدينة ، حيث إن هذه الأخيرة صورها أنقار مجلى التيه والفقد والألم والحزن ، يقول السارد : « تراءت لنا من بعيد معالم المدينة البيضاء ، التي دخلتها من يدخل مغارة لأو ل مرة … إلى أن ذبنا في الدروب العتيقة بسقوفها المنحنية ، والتواءاتها الضيقة ، وأضوائها الباهتة … حينذاك تملكني شعور عارم بالبعد عن قريتي .».
غالبا ما يعود رفض المدينة ، في السرد القصصي ، إلى موقف سلبي من مظاهر التمدن بصفة عامة ، بما هو وجه آخر للحضارة ، وما وصل إليه الإنسان من تقدم و ازدهار تقني و حضاري حاول من خلاله ــــــــــ أي التقدم ـــــــــــ السيطرة على العالم . وبهذا يمكن وضع الصلة الأساسية بين الفكر والفلسفة وهو ما يراه الشاعر البريطاني تي . إس . إليوت صاحب القصيدة الشهير « أرض اليباب « حول شكسبير و دانتي أنهما لم يقوما بأي تفكير حقيقي ؛ لأن الشعر يتعزز بالكذب والفرار . فالفكر القصصي يتدرج في بناء أفكاره ، وبالتالي يتحايل ألا يسقط في الجاهز ، بل يضع مسافة كبيرة بين القارئ و النص . فالموقف من المدينة موقف تأملي فلسفي يبعث على إعادة تنظيم العالم ، والأخذ بزمام المبادرة لتشكيل رقعة فسيفسائية، تتسع للجميع ، على اختلاف الأعراق و الأجناس . علاوة على ذلك، تأتي « أكلة الجن « لتملأ حفر ا لا تكف عن الامتلاء من خوف واضطراب نفسي و عاطفي للسارد، والإيمان الجازم بالقوة القاهرة للجن ، لذلك فأهل المدينة يغدقون عليه، ويقدمون له ما طاب ولذ من الأطعمة ، مقابل العفو ، و إبرام السلام والأمان . فصورة المدينة، حسب أنقار ، مازالت تعوم في مستنقع الخرافة و الزيف والنفاق الاجتماعي ، رغم تلك الشعارات الرنانة التي يتغنى بها الإنسان المتحضر .
بالمقابل كان البديل الذي طرحه أنقار في « أكلة الجن «هو العودة إلى القرية ، و هو عبارة عن هروب وفرار من عوالم الجن والموت و الفقر ، خصوصا و أن عم السارد ظل يحتضر فوق قطع من الكرتون في بيت حقير بالمدينة . إن العودة إلى القرية ظلت هاجسا متقدما في وعي السارد ، وهذا ما دفع به إلى التفكير مليا بالعودة إلى زمن الطفولة الأولي . يقول الساردة ، بعدما تفطن إلى الخوف الذي تملكه، وهو يسامر الرجل المحتضر ، « … حينذاك تملكني شعور عارم بالبعد عن قريتي … « فلسفة العودة إلى الأصل الطبيعي دأب عليه الفلاسفة الطبيعيين، عندما أقروا أن الأصل هو الصفاء، هو الطهر من أدران المجتمع الذي يؤثر سلبا على الإنسان . فالفيلسوف الفرنسي جون جاك روسو إلى جانب ديدرو كانا من بين الفلاسفة الذين شقوا هذا التوجه .
فالفرار إلى فسائح الطبيعة سطره روسو في كتابه الشهير « إميل « ؛ لأن العودة ، إلى الصفاء الروحي ، تراهن على تأمل الذات والروح بهدف التعالي و التسامي على الواقع ، واستحضار البديل القاضي بالتجديد المستمر في الزمان والمكان . إن الأدب بهذا المنطق الاجتماعي ، يطل من شرفة المحاكاة للحياة على تفاصيل ذات انتماء و أصول فلسفية ؛ لتظل هذه الأخيرة المعطف الغوغولي للأدب .


الكاتب : ذ . رشيد سكري

  

بتاريخ : 29/11/2023