فاطمة عدلي يَضْبِط كَلَامي شَفَتَيْهِ فلا يتلعثم فِي لَمْحِ بَصَر عبارتها

(1)
«في انتظار الشروق
يتلكأ
عباد الشمس».
في كمها، كما في كيفها، هي ذات متكلمة لا حد لسرودها في نص مآله البرق الشعري. هي تحكي داخل النص كما لو أنها تخط حبكة على صفحات دفتر الأنا.
ثمة أحداث، ثمة مصائر، وأرواح، تتهادى في مخابئ شعر مأهول بها، ومنظور لنا. وهنا، لا منجاة من السؤال الذي في إغوائه ندرك الخيط الأبيض من النسيج الأسود:
هل فاطمة عدلي تكتب برقا يلوذ بالشعر ؟ أم هي تلجأ إلى رعد يمتح من أفق قصصي ؟
إنها ساردة في شعرها، لأنها من الواقع تأتي، وإلى الحلم تنتهي. وإنها شاعرة في سردها، لأن حبرها مزيج خلاق من جامد متحرك، ومتحرك جامد.
«الأشجار تخلع ثيابها
آتية إليك
يا زهر اللوز».

(2)
«في العتمة
كيف أهتدي إليه
زر النور».
كَأَنَّ الحبر بِهَا صار وَجْدا، وكل جِهات المعنى تنثال، تباعا، في اشتِعالِ ماء العبارة، تنسكب في جَوْفِ الْكَأْس المترعة بشهوة الانطفاء. ثم كَأَنّي بي أنزل إلى غمرها، لكي يَضْبِط كَلَامي شَفَتَيْهِ، فلا يتلعثم فِي لَمْحِ بَصَر عبارتها !
وَيَـحْـدُثُ أَنْ أَلْـتَـقِـيـها عند أطراف الومض، أو أفارقها فِي منتصف الكثافة، فلا هي تتخلى عني، ولا أنا أتركها. وكلانا، نصها وولعي، يمسك بصنارة أفول كي يصطاد إشراقا. بينما النَّهر صامت حد الْكَلَام الْكَثِير.
«مهلا أيها الليل
نصف الحلم
لا يكفي».
أتراها لا تكتب إِلَّا فِي حلكة النَّهَارِ ؟! أم أن يد جُنُونها تولج خيط المساء في إبرة الليل، مُذْ ذاقت هسيس المسافة بين غسق وشفق ؟!
وحدها فاطمة عدلي تملك مفتاح ولوج السَّرَابْ، حيث واحة الوهم المنصوب في عراء الجملة. وما عداها هي لَيْسَ سِوَى شروخ في مرآة السؤال.
«على موقد الشوق
أطارد
دخان الكلمات».

(3)
«خالية الوفاض
إلا مني أعود إلي».
إذا عادت إليها عادت إلينا. قد نبتعد قليلا عنها كي نقترب أعمق. وقد تقترب كثيرا منا كي تغوص أبعد. وبيننا تنأى تفاصيل الأشياء وتتدانى رؤوس أقلام السرائر. ولا دلالات تظل على ألوان حالها، لفرط تأجج الألفاظ في سيرورة ما تيَسَّر من كلامِ الدخائل.
فاطمة كِبْرِيَاء نص يَجْعَلُكَ تُخْطِئُ إذا لم تقرأها بعين روحك، بألق وعيك الباطني، بجماع أنفاسك. ذلك لأنها لا تكتب وهي مضمخة بأَغْلَى الْعُطُور، بل تبدع وهي عابقة بأَغْلَى الأحبار. من هنا، سر ذاك الضوع الآسر الذي يكاد يرى، ويكاد يلمس، في فلوات نصوصها.
«في العتمة
يبدو واطئا
سقف الحلم».
لو أني سألتها:
– كيف تأتيك العبارة جاهزة لولوج تداعيات المعنى، لحظة انسكاب القلب ؟
قد تجيبني، بوحي من نبضها المتقد، قائلة بكثافة الأنوثة الفاخرة، واختزال الكتابة الوامضة، البراقة:
– هي لا تأتي من تلقاء وهجها. وأنا من أستدعيها من رحم برزخها، الذي فيه تتناسل جينات يراعي !
«يوم قائظ
بظلك يستظل
ظلي».
(4)
«وجها لوجه
أمام المرآة
أتصبب عرقا».
وحِينَ أَرَى هَذَا العرق وهو يرشح من جبين البيان، أَرَاني جملة تائهة بين يدي بلاغتها، أَرَاها لغة مُضْرِبة عن الجاهز، وقاطنة في الشقوق، ومفردة الجَنَاحَيْن على حَدِيقَة ذات أرومة تحتفي بمغايرتها.
وحينذاك، يصيبني يقين الشك بأني في حضرة شاعرة تنهل من الكثيف كي تقبض على اللطيف. وإزاء امرأة تبحر في يابسة المجاز. لا النَّهر الملغوم يفلت من رؤى بها كانت، ولا أرصفة التشبيه تنأى عن ذاك الذي عبره هي صارت، وعبره هو القارىء يصير.
«ينساب
عرق المرآة
على حافة الفنجان
يترك الأثر
أحمر الشفاه».

(5)
«يا لبشاعة الريح
يرفع دون حياء
تنورة الحسناء
من يحاسب
الريح ؟».
أجل، وطبعا، يا فاطمة الإشراق:
ثمة في فصاحة ومضاتك الثرة ما يجعل فؤاد الدوال يلتفت دهشة، لفرط تلك الفداحة الشعرية الكامنة في تضاعيف هذا الاختزال المثير.
ثم أنت، حسبما أَرَاك، وكما ترينني، تجتازين الشارع الرئيسي للاستعارة دون أن تتركي، لا خلفك ولا أمامك، ما يدل على ممْشى التعبير.
إنها فراسة دواتك، بل هي دواة فراستك.
وها أنا – في لحظتي المكتظة بها – أتملى بعض هبوب عبره تعتلي بي أنا، حتى تنزل هي إلى غورها:
«هبة ريح
بشيء منك
يذكرني هذا العطر».

(6)
«على سطح الماء
أخطو
أضغاث أحلام».
توشي النصوص بجلبة الماء. تتجشم الموج كي تؤازر الموج النازل من شاهقات الغرق. في البحر دوما إبهام لا يزول إلا عبر ممحاة الكلم.
هكذا، تركب فاطمة بحر ذاتها، تيمم دخائلها شطر ريح بلا شراع. ودونما إشعار، تأتي نحونا وهي مثقلة بعشب مخيلة، به / فيه تكتب اخضرار الماء في المدى.
«في العتمة
كيف أهتدي إليه
زر النور».


الكاتب : حسن بيريش

  

بتاريخ : 30/10/2021

أخبار مرتبطة

يقول بورخيس: “إن الفرق بين المؤلف والقارئ هو أن الكاتب يكتب ما يستطيع كتابته، بينما يقرأ القارئ ما يشاء”. فالكتابة

  “لا معنى لمكان دون هوية “. هكذا اختتم عبد الرحمان شكيب سيرته الروائية في رحلة امتدت عبر دروب الفضاء الضيق

  (باحثة بماستر الإعلام الجديد ، والتسويق الرقمي -جامعة ابن طفيل – القنيطرة) حدد الأستاذ عبد الإله براكسا، عميد كلية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *