في الشعر الفلسطيني المعاصر

لقد مثل الشعر الفلسطيني المقاوم بأنساقه واتجاهاته، ظاهرة جديدة في الحركة الشعرية العربية المعاصرة، بدءاً من مطالع ستينات القرن الماضي، هو الذي فتح أفقاً جديداً للشعر، وحدّد معالم تيار شعري بالغ القيمة والثراء .
لقد سعى شعراؤه، كل بطريقته، لصياغة رؤيته للواقع الفلسطيني، وإن كانوا يشتركون في العديد من الملامح والمواقف، منها إيمانهم بأن الخلاص لن يتحقق إلا عن طريق كفاح الفقراء المسلح، ودفاعهم عن فكرة التحرير واحتضانهم قضية الحق ومناصرة الإنسان المظلوم على وجه الأرض في دعوته إلى الحرية والانعتاق، ومنها رد الاعتبار لقيمة الالتزام كقيمة تُغني وتُثري الإبداع الفني ولا تفسده، دون أن يكون هذا، بالطبع ، على حساب المستوى الفني لشعرهم ، ولقيم الجمال المطلوبة فيه؛ من هنا كنا نلاحظ ذلك النزوع الدائم لدى بعضهم لتطوير أدواته الفنية، وهو ما تحقق من خلال العديد من التجديدات الفنية الجريئة والعميقة في بناء /أبنية قصائدهم، لتكون مسعفة لهم للتعبير عن ثراء الزمن الفلسطيني / العربي بمستوياته السياسية والاجتماعية والوجدانية، والتفاعل القائم بين هذه جميعها.

 

قبل أن أشرع في تقديم جملة من المقالات الخاصة برموز هذا الشعر، أي من عرفوا بشعراء المقاومة الفلسطينية، فإنني، في هذا المدخل سأعرض بعض الخصائص والسمات التي ينطوي عليها الشعر الفلسطيني المعاصر بعامة، مستفيداً من مناقشتي لآراء أدونيس حول هذه الظاهرة الشعرية، ومن خلاله جماعة « شعر» التي كان هو أحد مؤسِّسيها، وقد كان ذلك في فصل خاص بعنوان (حول الشعر والثورة) [ضمن كتاب انتهيت من إنجازه عن إبداع أدونيس وتنظيراته الشعرية].
فمن المعلوم لدى الباحثين المختصين أن مواقف وأفكار هذه الجماعة كانت سلبية حول مفهوم الشعر الثوري عامة والشعر الفلسطيني بالأرض المحتلة بشكل خاص. ومن المعروف، كذلك، أن جماعة « شعر» كانت ترفض كل أشكال الالتزام في الشعر، وقد أكدوا على هذا في أكثر من مرة وجهة ، بدءاً مما جاء في تنظيرات مؤسس الجماعة يوسف الخال.
فمفهوم الالتزام كما كان يتداوله النقد العربي في الخمسينات والستينات من القرن العشرين، كان ضمن الممنوعات والمرفوضات لدى جماعة «شعر» اللبنانية .
وفي هذا السياق سأقدم، بإيجاز، بعضا من أهم ما سبق لي أن قدمته من أفكار حول طروحات أدونيس وجماعته في هذا المجال، وهي كالآتي:
الشعر الثوري ليس فعلا يؤدي إلى تغيير الواقع مباشرة أو التمهيد المباشر لتحقيق التغيير، وإنما هو صورة لهذا الفعل المؤدي إلى تغيير الواقع أو الممهِّد للتغيير، صورة نستعيد بها ومن خلالها إبصار قدرتنا نحن القراء على الفعل والتغيير.
وحيث أن الواقع مترابط ترابطا جدليا في الزمان والمكان، فإن صورة الشعر الثوري تكتسب صفات عامة تميزها على مدى التاريخ الإنساني. وحيث أن الواقع جزئي وخاص يحدده الزمان والمكان فإن صورة كل شعر ثوري تنبع من واقع معين تكتسب صفاتها الفريدة المرتبطة بتميز ذلك الواقع الإنساني الخاص.لذلك يكون من الخطأ تقويم الشعر الثوري بقياس قدرته على تغيير الواقع على نحو مباشر لأن ذلك ليس من وظيفة الفن ولا في قدرته إن شاء. كما أنه لا يعد شعرا ثوريا ذلك الذي لا يقدم صورة الفعل الإنساني المؤدي إلى تغيير الواقع أو الطامح إلى تحقيق التغيير. ولا يعد شعرا ثوريا ذلك الذي يهيم بمناطق الغموض في الحياة والإنسان- مع تسليمنا بوجود هذه المناطق واستحقاقها لجهود المبدعين- ولا يعمل على إضاءتها وإنما يضاعف غموضها. وكذلك لا يعد شعرا ثوريا ذلك الذي يستنفد طاقته في التجريب الشكلي مهما حقق ذلك من مكاسب فنية بالغة الأهمية بتجديد حيوية اللغة واكتشاف تراكيب جديدة مادامت صورة الفعل المؤدي إلى تغيير واقع الحياة والإنسان مختفية أو موجودة على نحو غامض سقيم لا يمنح كشوفهم الهامة إلا قيمة شكلية محدودة.
2 – من الملاحظ أن كل السياقات التي أوردها أدونيس عند حديثه عن الشاعر الثوري والثورة في الشعر وفي اللغة، تحيلنا، بلا شك، إلى مقتضيات الحداثة الشعرية كما نظَّر لها لاحقا. إن أدونيس، في هذا المجال، يتصور بأن ما نظَّر له ودعا إليه هو الحداثة ذاتها، هو الحداثة « العميقة». من هذا المنطلق فهو لا يعترف بتعددية الحداثات في شعرنا العربي المعاصر، وينفي، كذلك، عن الآخرين إنجازهم لأي شعر ثوري، سوى ما يكتبه هو تحت مسمى « شعر الرؤيا الثورية».
إن مفهوم أدونيس للشعر الثوري، لم يكن بعيدا عن تصورات جماعة «شعر» التي تعتبر الشعر حقيقة قائمة بذاتها مقفلة تماما، ومصدر حقيقتها في ذاتيتها، وهذا الموقف الأيديولوجي منها مصدره مقترن، كما نتصور، بفلسفة محددة، بحيث لم يكن منظورهم بعيدا عن المفهوم الهيدغري للغة الشعر، وعن الموقف المثالي.
إن الثورة التي ينادي بها أدونيس داخل الشعر ( ثورة في الشعر، في بنيته الداخلية)، والتي تبحث باستمرار عن نظام آخر للكتابة الشعرية، هي غربة بالشعر عن الحياة والإنسان والثورة. إن للشعر قوانينه الخاصة بغير شك، التي تختلف وتتميز عن قوانين الواقع الحي، ولكن الاختلاف والتمايز لا يعني الاستقلال والانفصال.
ما قيمة التجديد في جماليات الشعر والفن، بحيث يصبح عجزا عن التعبير عن ما يمور به الواقع العربي من قبح وظلم وقهر وهوان واستبداد، والتعبير عن الحياة والإضافة إليها.
فليتجدد الشعر بقوانينه وأساليبه ومناهجه، في غير انقطاع عن الاتصال بالحياة، والفعل الخلاق فيها.
إن نزع صفة الثورية، من طرف أدونيس، عن الشعر العربي المعاصر الذي كان سائدا في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وعلى الأخص شعر المقاومة الفلسطينية، يجعلنا على اتفاق كبير مع أحد الباحثين الذي يرى أن «أدونيس ينطلق من مواقف الجمود، من مواقع « الجدانوفية»- التي يقول إنه ضدها- عندما يتهم الشعراء الآخرين بأنهم « غير ثوريين» وأنهم « محافظون» و «إصلاحيون».. لمجرد أنهم ليسوا على طريقته ومذهبه ولا يتبنون تصوره هو، الخاص، للشعر وللفن! وهو يعلم – ويعلن- أن الفن ليس له طريقة واحدة وإلا بطل أن يكون فنا، فضلا عن أن يكون ثوريا… وهو يعلم كذلك- ويعلن- أن محاولات فرض شكل واحد على النتاج الفني، ونظام واحد للرؤيا الشعرية، كثيرا ما أدت وتؤدي، إلى تجميد الفن وإلى قتل الشكل نفسه، وإفقار الشعر والفن بقدر ما يمارس فرض الشكل الواحد والتصور الواحد للشعر والفن من تعسف يبعد الفنان عن الصدق مع نفسه وأدواته الفنية وواقعه، وفعله في الناس. ولعل موقف أدونيس من حركة الشعر الفلسطيني المقاوم، يمثل ذروة الجمود في هذا المفهوم، وهو جمود نابع بالضبط من الفهم النخبوي لحركة الشعر وحركة الثورة بعيدا عن الواقع الديالكتيكي لوحدة الشعراء والثورة، ولتفاعلهما، وللتأثير المتبادل بينهما. وهو بالأساس، تعبير عن موقف من الجماهير»[ محمد دكروب ـ الأدب الجديد والثورة ـ ص 103/104].
3 – لا يمكن الحديث عن الشعر الفلسطيني بصيغة واحدة أو تصنيف واحد، نظرا لما ينطوي عليه من موضوعات وقضايا بأبعادها المختلفة، ومن شتى الأساليب الفنية عبر مراحله المديدة، سواء قبل النكبة أو بعدها، داخل الأرض المحتلة أو في المهاجر العربية. من هنا لم يكن الشعراء الفلسطينيون منتمين إلى قبيلة الشعر المتحدة، إذ تميّز، على العموم، كل جيل شعري لديهم برؤاه وتجاربه ومعالجته الفنية، وارتباطه بحركة الواقع الفلسطيني بأحداثه وانتفاضاته، وارتباطه، فنياً، بمجرى الشعر العربي الحديث والمعاصر، وهذا ما تؤكده تجاربهم النصية.
لقد وقف أدونيس عند الشعر الفلسطيني في الأرض المحتلة وكأنه منجز واحد، في حين يستطيع الباحث المتابع تقديمه- باستثناء مرحلة الستينات- كالآتي:
شعراء ما قبل النكبة، وهم، على سبيل المثال، إبراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود وعبد الكريم الكرمي، إذ كانوا يتحدثون وكأن النكبة أمر لا ريب فيه، ويتوقعون ضياع الوطن، فكانوا يرصدون مراحل هذه المأساة ويسجلون أطوراها في حرقة وتفجع، ليؤلبوا الرأي العام الفلسطيني والعربي، وليجعلوا منها القضية الحيّة أو الجرح الدائم النزف في نفس كل عربي.
يأتي بعد ذلك كوكبة من الشعراء الذين أنضجتهم النكبة فغلب الطابع القومي على شعرهم، ومنهم فدوى طوقان ومحمود الحوت وكمال ناصر. على أن الشعراء الفلسطينيين الذين خلقتهم النكبة واكتووا بنارها، وهي أشد ما تكون وهجا وتأججا، فكانوا أصدق في تعبيرهم عنها، بكل ما خلقته من مآس إنسانية، وفجائع نفسية، ونذكر منهم هارون هاشم رشيد ويوسف الخطيب وسلمى الخضراء الجيوسي.
أما نحن، هنا، فسنبدي رأينا في تقييم أدونيس، بالموافقة أو الاختلاف مقدمين الشعر الفلسطيني في الأرض المحتلة عبر مرحلتين واضحتي المعالم وهما:
أولا – لقد استطاع شعراء الجيل الذي نشأ إبداعيا بعد نكبة 1948، وما نتج عنها من مآس وعذابات ومعاناة، أن يعبروا عن كمية هائلة من الألم والرثاء النابعين من تأثر عميق بالنكبة، تأثر صادق ومخلص وصادر عن إيمان وحرارة وجدان، لكن شعرهم كان دائما انفعالا مباشرا لم يستطع أن يحمل أبعاد القضية بمجملها في صيغة تصل إلى المستوى التاريخي لتلك النكبة.
لكننا إذا أخذنا بنظر الاعتبار ظروفهم البالغة الصعوبة من جميع الجوانب، فإننا نجدهم قد قاموا بدورهم الوطني الذي كان منوطاً بهم، فقد كان الشعر، في مثل تلك الأوضاع، وسيلة حياة وتحدٍّ، وأداة نضال دون أن يذهب أبعد من ذلك.
كان الشاعر يتوجه بشعره إلى إيقاظ الشعب وتنبيهه، وإلهاب الحس الوطني في وجدانه، من خلال دعواته المتكررة للجهاد والدفاع عن البلاد، وتمجيد البطولة والفداء في سبيل الوطن، وتصوير أعداء البلاد وأطماعهم فيها.
لقد وظفوا شعرهم في خدمة الحياة الملتهبة من حولهم، من هنا طغى لديهم الأسلوب الخطابي والمباشر بصورة عامة. لأنه، بكل تأكيد، أسهل الأساليب التي يمكن تقبلها أو تفهمها من قبل عامة الشعب. خاصة، إذا علمنا، أن هذه الأشعار، أو معظمها، كانت تلقى في المناسبات والمحافل والنوادي والجمعيات العامة، إذ كانت هذه المنتديات بمثابة دور النشر بالنسبة للشاعر، آنذاك، وهذا يتطلب نمطا معينا من الشعر، لتلبية الحرارة العاطفية المطلوبة وتحقيق غايته الفكرية، التي هي نضالية في الدرجة الأولى.
لكل ما سلف، لم ينشغل هؤلاء الشعراء بقضايا الإبداع الشعري فنيا، إذ تميزت كتاباتهم الشعرية بالمراوحة بين تشبعها بالشعر العربي القديم ونزعتها الرومانسية، مع ما مسَّ شكلها من تنويعات (شكل المقطعات- تنويع في الروي- التشطير- الأناشيد- سياق قصصي….).
في هذا المجال، وعلى المستوى الفني، فإننا نرى أن ما قدمه أدونيس من ملاحظات، حول الشعر الفلسطيني داخل الأرض المحتلة، يصدق في مجمله على شعر هذه المرحلة فقط.
ثانيا : في مطالع الستينات، من القرن الماضي، وخاصة بعد تلك المأساة الضارية لنكسة يونيو، طلعت علينا، خلال تلك الفترة، من داخل الأرض المحتلة حركة شعرية على غاية من القيمة والخطورة، وقف في طليعتها، على سبيل المثال، توفيق زياد وسميح القاسم ومحمود درويش وراشد حسين وسالم جبران، وغيرهم. وقد تلقف القراء العرب، آنذاك، أعمالهم بمزيج من الفرح والدهشة والإكبار، ورأوا فيها شعاع الأمل القوي يشد إلى مشارف الضوء الواعد الوجود العربي كله داخل الأرض المحتلة، وذكَّرتها أن البقية الباقية من شعب فلسطين في الأرض المحتلة مازالت مصرة على الاحتفاظ بذاتيتها ووطنيتها وقوميتها، وأنها تكافح ضد أشد القوى الاستعمارية قسوة ووحشية، بالرصاص وبالإضراب وبالجوع والتشرد، وبالكلمة المقاومة كأسلوب من أساليب النضال الجماهيري.كما أثارت هذه الحركة الشعرية اهتمام الكتاب والنقاد في أماكن مختلفة من الوطن العربي.
لقد استطاعت الأعمال الشعرية لهؤلاء الشعراء في نماذجها الصادقة والأصيلة، وهي عديدة، أن تكون رفيقا فنيا لحركات المقاومة والتحرير التي جرت فوق الأرض الفلسطينية المحتلة، وأن تكون شاهدة على مجازر العسف والإرهاب، شاهدة تُسجل وتحفز، تُسجل هذا الواقع الضاري بصورة تدعو إلى تجاوزه وتخطيه، وتكشف لا إنسانيته وتفضح زيف المغتصب الصهيوني وإدعاءاته، وتحفز الإنسان الفلسطيني على النضال والمقاومة، وتبذر في داخله الإحساس اليقيني بأن الأرض أرضه والوطن وطنه، برغم كل الأوضاع الجائرة والحواجز المختلفة.
إن هذه الحركة الشعرية لم تنبت، بالطبع، من فراغ ولكنها امتداد للشعر الفلسطيني الثوري الذي كُتب من قبل فوق الأرض الفلسطينية أو في المنفى، وهي امتداد يحمل طابع الظروف الجديدة التي تصدر عنها. هذا الاختلاف الذي يعطي لشعر الأرض المحتلة طعمه الخاص والمميز، والذي لا يجعله مجرد تكرار لأسلافه الشعراء، ولكنه مواصلة للرحلة بعدهم واجتياز للمرحلة التي عبروا عنها وللرؤية التي انطلقوا منها، لأنه صدور عن واقع شديد المغايرة للواقع الذي صدر عنه معظم الشعر الثوري العربي. ومن السمات الأخرى التي تعطي لشعر هذه الكوكبة الشابة صدقه وحرارته، فناجمة عن تفجر هذا الشعر من قلب المعركة، وعن ملامسته الحسية لكل الهموم والقضايا التي يتناولها ومشاركته فيها، مشاركة بكل ذرات كيانه في مختلف تفاصيل المعركة وفي أدق شؤونها. فقد وقف شعراء الأرض المحتلة في الصفوف الأولى من المعركة، وتعرضوا لأقسى الإجراءات الاضطهادية، والأعمال الانتقامية. فقد لوحقوا وسدت في وجوههم أبواب العمل المناسب، وشجت رؤوسهم هراوات الشرطة أثناء المظاهرات، وتعرضوا للسجن، وللتوقيف في الزنزانات وحجرات الإقامة الجبرية المحددة، ومآس أخرى كثيرة تروى في هذا الصدد.
من هنا استطاعت متونهم الشعرية أن تضع لها خندقا في الصف الأمامي لأدب المقاومة العالمي، الذي ساهم به مبدعوه في العديد من الحروب والمآسي وصنوف الاحتلال التي عاشتها العديد من الشعوب، فقاموا أثناءها بشتى الأدوار، سواء بالانضمام إلى المقاومة المسلحة، أو بالإنتاج الأدبي لاستنهاض الهمم ومؤازرة جهود المقاومين، ويعلق بالذهن بعضهم، مثلا، الفرنسيون:» أراغون» و«إيلوار» و«أبو لينير»، ومن الشيلي «بابلو نيرودا»، ومن إسبانيا: «رافائيل ألبرتي» و«أنطونيو متشادو» و«خوان رامون خيمينيث» و«ميغيل إيرناندث»، ومن بلغاريا: «فابتزاروف» و«أنطون بوبوف».
ومن الشعر الوطني الأفريقي: «زغوا شارل نوكان» (ساحل العاج) و«دينيس بروتوس» (جنوب أفريقيا) و«دافيد ديوب (السنيغال) و«توماس راهاندراها» (مدغشقر) إلى غير هؤلاء من أدباء فيتنام وأوروبا والاتحاد السوفياتي.
ومن جهة أخرى، فقد شهدت المسافة التي قطعها هؤلاء الشعراء منذ انطلاقتهم الأولى في مطلع الستينات وحتى خروج محمود درويش عليهم في بداية سنة 1971، أقول، شهدت، على أيديهم، تطوراً في الشعر واضحاً وملموساً، حيث أولوا اهتمامهم لأدواتهم الفنية، وبحثوا عن صيغ أفضل قادرة على تجسيد معاناتهم الخاصة و العامة. وممّا يلاحظه الدارس أن هذا التطور أملته ظروف الحياة واتساع تجارب الشعراء ونمو مواهبهم، وتأثير الشعر العربي المعاصر.
لقد شمل تجديدهم الانتقال من نسق القصيدة التقليدي بتلويناته إلى نسق القصيدة الجديد، فتعددت في إطاره الأشكال الفنية، كما استخدموا الرَّمز الذي تعددت مصادره عندهم، من مصادر ذاتية وأخرى تراثية حين وظفوا التراث الشعبي والديني والتاريخي والأسطوري، وسعوا إلى إثراء وتغذية قصائدهم الغنائية بالكثير من الطاقات البنائية الجديدة والعناصر الدرامية المستعارة من المسرح والرواية والسينما. لكن، وبالمناسبة، من قال بعدم أهمية الغنائية وقيمتها في التعبير عن أشد المسائل تعقيدا بالذات والحياة؟.
ومما يلفت النظر، من الناحية الفنية، هو تميز وانفراد محمود درويش، فبالإضافة إلى موهبته الطاغية والتزامه الذي رد الاعتبار لقيمة الالتزام كقيمة تغني العمل الإبداعي ولا تفسده، هو سرعة تطوره التي تشبه ضربة عصا سحرية، من النادر أن حدث مثلها لدى شاعر معروف، حيث استمر في تجاوز ذاته الشعرية من خلال بحثه الدائب عن آفاق فنية جديدة، وقد تحقق له الكثير من هذا في منجزاته التالية.
لقد حاول ثلة من شعراء الأرض المحتلة أن يقيموا توازنا معقولا بين التزامهم بقضيتهم المصيرية الكبرى، وما يتطلبه الإبداع من قيم جمالية ومزايا فنية، فجسدت، من ثمَّ، أبعاد التجربة الفلسطينية بشكل رائع.
على ضوء ما سلف يمكننا الإقرار أن ثمة نماذج عليا راقية في هذا الشعر استطاعت أن تزاوج بين الثورة في الشعر ( في بناء القصيدة وفي التعامل مع اللغة وفي التراث، وغيرها من أشكال العلاقات داخل القصيدة) وبين الشعر الثوري وهو موقف من الحياة والصراع. فاستطاعت هذه الأعمال المدهشة أن تحقق هذا الانسجام بين المفهومين بعلاقة أكثر عضوية.
بل إن بعض الشعراء منهم استطاع، كذلك، أن يحقق المزاوجة بين الشعر الجيد والفعل، وذلك عند انغماره في تجربة النضال والعمل الفدائي، فمثل نماذج فريدة لمعايشة الفعل الثوري والتعبير عنه. وهكذا، وبعد وقوفنا على أهم آراء أدونيس ومحاورتها، خاصة المتعلقة بشعر المقاومة الفلسطينية فترة الستينات، من القرن الماضي، فإننا نعتقد أن معاينته لهذا الشعر قد جانبها الصواب، دون إغفال منا للمرحلة التي كتبت فيها ملاحظاته.
4- لم تنج الحركة الشعرية الفلسطينية في الأرض المحتلة، كذلك، من موقف مجلة « شعر» العدائي للنضال الوطني والقومي العربي وللثقافة المعبرة عن مضامين هذا النضال، يقول الشاعر محمود درويش عن هذا الموقف: « لقد قدمت مجلة « شعر» أقسى هجاء لحركتنا الشعرية بإصدارها عددا خاصا عن شعرنا تضمن أسوأ ما كتب في تاريخ الأدب العربي من شعر. إني أعترف هنا، وبصوت مسموع، بأن مجلة «شعر» كانت جارحة الذكاء. إنها لم تكتب كلمة واحدة في طعن شعرنا، وقد تظاهرت بأنها تنسجم مع حركة الاهتمام العربية فأصدرت عددا خاصا عن هذا الشعر يخرج القارئ الواعي منه بموقف شديد السخرية» [ محمود درويش – شيء عن الوطن – ص: 317/318 – ط 1/1971 – دار العودة – بيروت].


الكاتب : د. حسن الغُرفي

  

بتاريخ : 10/02/2023