فِكر المَهدي المنجرة وإرهاصاته المُبكِّرة عن فلسطين : وفي اللّيلة الظّـلماء يفـتقـد الـبَـدْرُ !

من نافلة القول أنّ عالم المستقبليات المغربي الذائع الصّيت الرّاحل المهدي المنجرة رحمه الله، كان المفكر الأمريكي المعروف «صمويل هنتنغتون»، قد اعترف له بالتألق، والتفوّق، والنبوغ ونوّه به وبأعماله وبقصب السّبق الذي أدركه في مجال تخصّصه في كتابه الشهير»صدام الحضارات».
آهٍ لو كان المنجرة بيننا اليوم، ورأى ما آلت إليه حالة أمّ الهُمُوم، وأمّ القضايا العربيّة العادلة قضية فلسطين،وما أمسينا نراه ونعيشه على مضض في أيّامنا هذه الرديئة لما يحدث في هذه البقعة الطيبة الطاهرة في الوقت الراهن من إبادة جماعية ، وتصفية عِرقية وتقتيل وتنكيل وقهر ووحشية، وتدمير بدون رحمة ولا شفقة، حيث أصبحنا نرى ويرى العالم معنا بعيون جاحظة غارقة في الدموع وبقلوب حزينة منفطرة أطفالاً صغاراً أبرياء ،ونساءً مُسالمات مَعازيلُ ، وشيوخاً طاعنين في السنّ، وشباباً يافعاً نضراً في مقتبل الحياة، وشرخ العمر، ومساجد ومآذن وكنائس، وبيع، ومستشفيات، ومستوصفات، ومؤسّسات وعمارات، ومدارس ومعاهد وجامعات ،ومتاجر وأسواق، وتكايا وزوايا كلّها رأيناها تتهاوىَ،وتتساقط، وتتداعى وتغدو رماداً متناثراً وسخاما أسود مميتاً، فضلاً عن الأضرار الجسيمة التي طالت أمّنا الطبيعة،من أشجار، وأحجار وغابات، وأنهار وبحار، وبشر وطيور وعصافير التي هجرت أوكارها بعد أن تلاشت أعشاشها ، ومن حيوانات أليفة أصبحت حيرىَ هائمة تجري ملتاعةً بين بقايا الرّكام والزّحام والسّخام،وشظايا الحِمام ..هذا المعتدي الآثم ،الغاشم ،الظالم ، وكأنّ قلبه قد اقتُدّ من حجرٍصلد..الواقع الذي لا مراء ولا شكّ ولا ريب فيه أنّ المهدي المَنْجْرَة لو كان بين ظهرانيْنا اليوم لتألّم وتحسّرواعتصر قلبه كمداً على ما يجري ، وعلى ما آلت إليه أمّ الهموم العربية وهو الذي حذّر و تنبّأ منذ زمنٍ مبكّر بعيد بهذه المخاطر والأهوال جميعها وفنّدها وبسطها في إرهاصاته، واستقراءاته، وكتبه ،وتآليفه، ومقالاته ،ودراساته المستقبلية التي حيّرت العالم، وأبهرت العلماء، وما فتئ تأثيرها البليغ يفعل فيهم وفينا فِعلَ العُجْب .

فلسطين في وجدان المهدي المنجرة

يشير الصّديق الأديب والإعلاميّ محمد عليّ فقيه عن تغلغل فكر المهدي المنجرة وانشغاله منذ نعومة أظفاره وريعان عمره بقضية فلسطين، وعن إرهاصاته المبكّرة بما يحدث في الوقت الراهن على أرضها الطيّبة الطاهرة، وما آلت إليه أحوال أمّ القضايا العربية العادلة، وما حيك من خبايا وخفايا ، ومكائد ودسائس من أجل اغتصابها واحتلالها منذ الأربعينيات من القرن الفارط ،فقال محقّاً :» لفلسطين مكانة خاصّة في وجدان المنجرة، فهو صرّح، في أكثر من مناسبة، بأنه يعدّ نفسه محتلاً ما دامت فلسطين محتلة، وما دام الفلسطينيون لم يسترجعوا كرامتهم. يرجع اهتمام المنجرة بالقضية الفلسطينية إلى عام 1948، عندما صادف قدومه إلى الولايات المتحدة الاعتراف بقيام الكيان الصهيوني، ووقوع الحرب العربية الصهيونية.
إنّه يقول في هذا الصّدد : «ذهبتُ إلى أمريكا سنة 1948 وعمري 15 عاماً. بالصدفة وصلتُ في الشهر نفسه الذي خلقت الأمم المتحدة فيه إجحافاً «إسرائيل» بقرار. بعد مدّة قليلة جاء بن غوريون، وعقد اجتماعاً مع أثرياء اليهود في فندق ضخم، وقال لهم : أنا لا أريد مالكم، أريد أن يشتري كلُّ واحدٍ منكم محطة تلفزة، إذاعة، استوديو للأفلام، جريدة «.
وهكذا إذن يؤكّد المنجرة أن قضية فلسطين ليست سياسية وعسكرية واقتصادية فقط، وإنما هي أيضاً قضية حضارية، في الدرجة الأولى، تدخل في إطار فرض قيم مغايرة على المنطقة.واستشرف عالِم المستقبليات منذ ذلك الإبّان السّعي الحثيث للكيان الصهيوني لفرض هيمنته داخل المنطقة، من خلال عمليات التطبيع، ويعارض أيّ مساومة على القضية الفلسطينية، مؤكداً أن تحرير فلسطين من أيدي الصهاينة أمر واجب. يقول المنجرة في هذا المضمار : « إن الذين يظنّون أن الطريقة الدبلوماسية على شاكلة «كامب ديفيد» ستفضي إلى جلاء المغتصب واهمون، فـ»إسرائيل» تثير الرّعب والقمع داخل صفوف الفلسطينيين، وخصوصاً داخل القدس. والمتتبّع لبرامج العدوّ الصهيوني وخططه يدرك أن «إسرائيل» يتملّكها الفزع من المستقبل.. ولا تطمئن على حال إلّا من خلال المساندة الغربية لعملياتها، والنّصرة الأمريكية على وجه التحديد لحركاتها، واستجماع أكبر قوة في المنطقة». وهذا ما أمسينا نراه يحدث الآن نصب أعيننا ، وأمام أنظار العالم الذي لا يحرّك ساكناً حيال هذه المظالم الوحشية المتكرّرة التي ترتكبها إسرائيل بدون رحمة ولا شفقة في حقّ إخواننا الفلسطينيين الأبرياء العُزّل.

مثقف متعدّد
الاهتمامات

وتجدر الإشارة بالمناسبة الى أنّ عالم المُستقبليات المفكّر المهدي المنجرة كان مُثقفاً حصيفاً ذا عقلٍ راجح بشهادة علماء ومفكّرين أجانب مرموقين، إلاّ أنه قوبل بنوعٍ من الجُحود، والنسيان، والنكران، والتغاضي من طرف بعض أبناء جيله وجلدته، وبني طينته، وقومه، ولا غرو، ولا عَجب فلا كرامة لنبيٍّ بين قومه..! كما نُسِجتْ أباطيل، وحِيكتْ مزاعم، وأشيعت ادّعاءات حول مدى صحّة ومصداقية تكوينه العلمي، ومستواه الأكاديمي الرفيع، إلاّ أنه مع ذلك أمكنه أن يتبوّأ أسمىَ المراتبَ، وأن يُدرك أرقىَ المنابر العلمية على الصّعيديْن الوطني والعالمي، كما أمكنه أن يتسنّم منازلَ رفيعة، وأن يحظى بتقدير الأوساط الثقافية، والعلمية، والفكرية، والسياسية في مختلف أنحاء المعمور.
هذا الطائر الصّقر الذي حلّق فوق أزيدَ من مئة وأربعين بلداً عبر العالم في تجربته الغنية مع الحياة، والمعرفة، واستقصاء، واستغوار واستبطان واستكناه الحقائق والأخطار والأسرار التي تحيق وتحيط ببني البشر، حاور مختلف الثقافات، وجاور العديد من المعالم الحضارية، ولامس أفكاراً، وناظر عقولاً، وعاد ليجلسَ على كرسيٍّ صغيرٍ متواضع وأمامه طاولةٍ بسيطة تحوطها كتب كثيرة مُبعثرة بكلّ اللغات، إنه يذكّرنا بالطاولة الخشبيّة الصّغيرة التي جعل منها الزّعيم محمد بن عبد الكريم الخطّابي مكتباً له بمركز قيادته بأزغار بأجدير الحَصين خلال حرب الرّيف التحرّرية الماجدة التي خاضها ورفقاؤه ببسالةٍ منقطعة النظير ضدّ الاستعماريْن الإسباني والفرنسي، إنه المهدي المنجرة المثقف الفريد الذي نراه اليوم ويراه العالم معنا، رجلاً مُفرداً ولكنه بألف رجلٍ في صيغة مُنتهىَ الجُموع .
عاشق الأندلس
يروق لي في العديد من المناسبات أن أدغدغ ذاكرتي وأن أتذكّر أنّ الصديق المهدي المنجرة كان يداوم على زيارة مدريد في الثمانينيات من القرن الفارط، حيث كنتُ أعمل مستشاراً ثقافياً بسفارة المغرب في ذلك الإبّان، وفي هذه المدينة الفسيحة كانت لي حظوة التعرّف عليه، كان يشطّبنا الحديث فيها عن تاريخ هذه الحاضرة العريقة، وعن إشعاعها المُبهر، وماضيها التليد، نظراً لكونها تتميّز بخاصّيةٍ فريدة في تاريخها باعتبارها العاصمة الأوربية الوحيدة التي تحمل إسماً عربيّاً أو أمازيغيا، كما أنها أسِّستْ من طرف المسلمين تأسيساً، وكان الحضورالعربي- الأمازيغي فيها على امتداد العصور حضوراً قويّاً وزاخراً، وقد أمست تُعتبر اليوم من أكبر المدن الأوربيّة وأجملها، الأمير محمد بن عبد الرّحمن الثالث، خامس الأمراء الأموييّن في الأندلس هو الذي أسّسها في القرن التاسع الميلادي تحت إسم «مجريط» كما يؤكّد ذلك العلماء الثقات من إسبان ومغاربة أمثال بيدرو مارتينيث مونتافيث ورودولفو خيل بني لأميّة، ونجله الذي وضع كتاباً كبيراً عن هذه المدينة بعنوان : ( مجريط الإسلامية) ومن علمائنا الأجلاء أذكر المتضلعيْن في تاريخ الاندلس محمد الفاسي ،ومحمد بنشريفة رحمهما الله . كان المهدي المنجرة مولعاً كذلك بزيارة منطقة الأندلس لإلقاء بعض المحاضرات عن العلاقات الدّولية، والعلوم المستقبلية، أو المشاركة في العديد من المناظرات، والندوات والملتقيات الثقافية الدولية وسواها التي كا يُدعى للمشاركة فيها، ولقد كتبتُ عنه إبّانئذٍ، وعن أنشطته، ومشاركاته في بعض هذه التظاهرات في جرائد عربية دولية كبرىَ كانت تصدرفي لندن والتي كنتُ أكتبُ فيها بانتظام في ذلك الأوان، كتبتُ عنه إيماناً واقتناعاً منّي بفكره النيّر، وإعجاباً بعلمه المستنير، وبنظره الثاقب الى مجريات الأحداث في عصره، وبمداخلاته القيّمة، وإسهاماته الرّصينة في هذه الندوات .

همُوم التحرّر
من هيمنة الشمال

يشير المهدي المنجرة في احدى مقالاته في مجال الدفاع عن حقّ ما يُسمّى اعتباطاً بالعالم الثالث في قضايا التنمية والتطوّر، مفنّداً عيوب النظام الدولي الذي ينأى عن مفاهيم العدالة وقيم الإنصاف وحقّ الكرامة لكلّ شعـوب الأرض، فيقول :»الغرب متغطرس ثقافياً لأن فضاءه الزمني التاريخي محدود. حين تذهب إلى العراق أو الصين أو إلى أمريكا الجنوبية تجد ثمة ثقافة متجذرة ومتطوّرة. في الولايات المتحدة تجد بالمقابل الأكلات السريعة (الفاست فود). إن التقدم العلمي لا يعني آلياً امتلاك ثقافة التواصل مع الآخر. أنا أعتقد أن العالم يعيش حالة انفجار، وهنا أعود لمصطلح «الانتفاضة». فالانتفاضة انفجار يحدث حين يبلغ السّيل الزّبى. ثمة ظلم هائل في العالم، ومن اللّازم إيجاد الحلول كي يكون كلّ الناس رابحين وكي لا يكون هناك خاسر…»كما يتمحور فكر المنجرة حول ضرورة تحرّر الجنوب من سيطرة الشمال بواسطة التنمية وإصراره ومنادته بضرورة محاربة الأمية، ودعم البحث العلمي، واستعمال اللغة الأم، إلى جانب دفاعه المستميت عن قضايا الشعوب المقهورة وحرياتها، ومناهضته للصهيونية ورفضه للتطبيع، ولهذه الغاية سخّر المنجرة معظم كتاباته ضدّ ما كان يطلق عليه» العولمة الجشعة». وكان شغوفاً في دراساته المتعددة الأكاديمية بالشؤون الاقتصادية، وعلوم السوسيولوجيا، وقضايا التنمية المستدامة.

إضاءات على كتابه
«قِيمةُ القيَم»

وفي إطلالة عاجلة على فكر، وبعض تأمّلات المهدي المنجرة في المجتمع، والتنميّة، والحياة، ومستقبل الثقافة، والإقتصاد، والعلم، والتعلّم الذي يُعتبر من المقوّمات الاساسية في حياة الفرد والجماعة في محيطه الإجتماعي، كان يقول في كتابه» قيمة القيم» : «… وعلى الرغم من كثرة البرامج الدولية للتنمية، لاسّيما في أفقر الدول، حيث يزداد الإهتمام الدّولي، فإنّ المساهمة الوطنية نادراً ما تمثل أقلّ من سبعين في المائة من المجموع، وتبقى المساعدة الدولية التي تنتج عن هذا التعاون ضعيفة من ناحية الكمّ، إذن يصبح من الضروري القيام بمقاربة منظومية في التحليل لتقييم جودة التفاعل الثابت بين المستوى الوطني والمستوى الدولي، والمهمّ في هذه المساعدة الخارجية هي الأفكار، والتصوّرات الناتجة عنه والتجارب الصّادرة منه . وبربط هذا المحتوى بالأحداث الراهنة خصوصاً بما يتعلق بدول صُنفت إقتصادياً بـ (دول نامية) أو (في طور النموّ)، فإنّ إشكالية تبعية الدّول النامية للدول (المتطوّرة) مستفحلة كلما ارتبطت بما يُسمّى «مساعدات» من هذه الدّول، وجعلت معتمدها الرئيسي عليها بالرّغم من ثبوت ضآلة مساهمتها في النهوض، خصوصاً بقطاع الإقتصاد الذي أصبح ركيزةً أساسيةً للاعتراف بوجود الدّول في معالم القوة. إذ أنّ أهمّ ما يمكن أن يساهم في «النهوض» إنطلاقاً من التعاونات بين الدول مرتبط بعالم الأفكار، والتصوّرات الناتجة عنها «.

مستقبل الثقافة
في حوض المتوسّط

وحول أهمية «الثقافة المتوسطية» التي تربط بين بلدان حوض البحر الأبيض المتوسطيقول المهدي المنجرة في هذا الكتاب : « إنّ ربط مستقبل هذه الدول ومستقبل قضاياها رهين بمستقبل الثقافة بها، على إعتبار أنّ الثقافة لها إرتباط عريق، وصلة وثقى بجميع جوانب الحياة، ولا يُمكن نسخ ثقافة مجتمع مّا، أو دولة مّا، في حيّز آخر تحت مُسمّى «نقل الثقافة «، لأنّ التعدّد وارد بحُكم أن لا شمولية لثقافة مّا من جهة، ومن جهة أخرى باعتبار الثقافة نسبيّة، والموروث الثقافي هو مفتاح من مفاتيح التنمية، وبالتالي فإنّ أيَّ محاولة لتعميم ثقافة مّا، أو نقلها، أو استنساخها، وإجبارها ما هي إلاّ محاولة للتشتيت، والتفرقة، والهدم وليس البتّة البناء».
وفي هذا المجال وذات السياق يقول أيضاً :» إنّ إحدى القضايا الأساسية بالنسبة لدُول حَوْض البحر الأبيض المتوسط، تتعلق بمستقبل ثقافاتها، لأنّ هذا المستقبل مرتبط بجميع الجوانب الأخرى للتنمية الإستراتيجية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية إلخ..أضف إلى ذلك أنّ هذا المستقبل غير قابل للإنقسام، لأنّ هناك ثقافة متوسطيّة بكل ما تحملُ هذه الكلمةُ من معانٍ سامية»”، وعليه فإنّ مفهوم الثقافة، بما تضمره من أبعاد – حسب المنجرة –» لها وقعٌ عميق على مستقبل الشعوب ووجودها وارتباطاتها في ما بينها، وذلك نظراً لما لها من جذور ضاربة في عمق التاريخ، وما تكتنزه لواقع المستقبل»، ويؤكّد المنجرة في هذا القبيل : « إن الفرَضية السّابقة قد يظهر فيها شئ من المبالغة بالنسبة لأولئك الذي لا يهتمّون بالماضي، ولا بالإطّلاع على كتب التاريخ، وحسب تجربتي، فإننّي أدرك أنّه كلما ازددتُ اهتماماً بالدراسات المستقبلية، زادني ذلك الشعور بالحاجة لترسيخ رؤيتي على أسس تاريخية صلبة «.

الهويّة الثقافية ومنظومة القيم

وفي مَعْرِض حديث المنجرة عن «الهويّة الثقافية» التي يعتبرها سبباً في وجود «منظومة القيم» وبغيابها تفشل المجتمعات في إثبات ذاتها أو هُويّتها يقول :»بأنّ هناك فترات يؤدّي فيها الانفتاح التلقائي وليس الإنتقائي إلى غزو كبير، وإضعاف أعزّ ما للإنسان وهي هُويته الثقافية». ويركّز المنجرة على ضرورة صَيْرُورَة حَرَكية “التعلّم” من المهد إلى اللّحد، منبّها إلى ما يُمكن أن يجابه أو يعوق المسيرةَ العلمية بين هاتين المحطتين مستقبلاً، مشدِّداً على أنّ أهمّ عنصر من عناصر التعلّم هي (القيم)، مشيراً في هذا المضمار: « وأهمّ عناصر التعلّم هي القيم، وعندما نشير إليها كعناصر، فإنّنا نؤكّد على دورها الفعّال في عملية التعلم، فقيمة البقاء مع الكرامة يمكن أن تكون ذات آثار مباشرة في التوجيه، وأنّ ظهور القيم هو ظهور الحدّ الفاصل بين الذاتية، والموضوعية، وبين الحقائق، والأحكام، وبين ما هو كائن، وما يجب أن يكون، وبين العلم والأخلاق، والأحكام وبين العلوم الحقة والعلوم الإنسانية، وبين الغايات والوسائل، وبين المعقول، واللاّمعقول».

المهدي المنجرة وحاسُوبه «يَطّو» !

من أطرف ما يُحكىَ عن المهدي المنجرة أنه كان يستعمل باستمرار، منذ ذلك الإبّان، حاسوباً صغيراً يستخرجه خلال محاضراته، ويسجّل فيه مداخلاته وملاحظاته، سواء كان مُحاضراً، أم مُشاركاً، أم مُستمعاً، ولم يكن يفارقه أبداً، كان قد وضع له إسماً أمازيغيّاً طريفاً إذ كان يسمّيه وينعته ب « يَطّو « تيمّناً بإسم الفتاة الرّيفيّة التي ذكرها العالم الجليل الأستاذ عبد العزيز بنعبد الله في كتابه (شقراء الرّيف) الذي أفردنا له دراسة مستفيضة نُشرت في كلٍّ من مجلة « الدوحة» القطرية، وفى صحيفة «القدس العربي» اللندنية، هذه الفتاة الريفية لعبت دوراً كبيراً في مساعدة الجيش المغربي على استرداد مدينة طنجة من قبضة الإنجليزعام عام 1648 م بقيادة أحد كبار قادة المولىَ اسماعيل المناضل عليّ بن عبد الله الرّيفي .
الحديث عن المهدي المنجرة في العمق هو حديث ذو شجون يجرّ بعضُه بعضاً، وممّا كنّا قد سمعناه من أحبّائه ومريديه : أنه كان في مقتبل عمره فتىً نشيطاً، يقظاً، ذكيّاً، مشاكساً، منذ أن كان صبيّاً طريَّ العود، غضَّ الإهاب، في شرخ الشباب، وريعانه خلال المرحلة الطلاّبية، كان يشارك في مختلف التجمّعات الشعبية التي كان ينظمها الوطنيّون، كما أنه كان يؤمّ المدرسةَ الحديثة و مدارس»الكُتّاب» (تُسمّى في المغرب المسيد)، و يحكىَ عنه أنه عندما التحق لمتابعة دراسته العليا بجامعة “كورنيل” في الولايات المتحدة الأمريكية كان لمّا يَزَلْ في ربيع حياته، كان شغوفاً كعادته بحبّ المعرفة والإطّلاع والإستطلاع، مُشبَعاً بالفضول العلمي، والخوْض في مختلف حقول العلوم ، والتطلّع نحو إستكناه وإستقراء المستقبل، وسَبْر آفاق المجهول، وكان فضوله المعرفي المبكّر يدفعه دائماً إلى السُّؤال والإستفسار المتواصليْن عن كوامن الأشياء، وعن أسرار الحكمة، وعن حقول المعرفة بدون انقطاع، كان لا يتورّع من أن يسأل عن كلّ ما كان يخطر بباله ويدور فى خلده، أو يعنّ له في دروب الحياة التي كانت تملأ رأسَه، وذات مرّة ضاق به أستاذه ذرعاً في هذه الجامعة لكثرة تساؤلاته وفضوله العلمي فصاح فيه مُنبهراً متسائلاً عمّن يكون هذا الفتى قائلاً له: مَنْ أَنْتَ..؟ وأردفَ الأستاذ الأمريكي باسماً :» تساؤلاتك المتوالية الدقيقة، وإصرارك العنيد سيعودان عليك بالكثيرَ من المعارف، ولكنهما قد يجلبان لك معهما كذلك الكثيرَ من المتاعب والمُنغّصات».. وصدق أستاذه وأصاب ..!

«قصّرنا» في ليالينا معه ولم «نُقصِّر» في محبّتنا له !

المهدي المنجرة الذي نذكره، ونذكر تعاليمه، ودراساته، وتنبّؤاته في هذه الأيام العصيبة التي نعيشها بمشاعر الضّيم والمَضض، والنكد والكدر لما يحدث لإخواننا الفلسطينيين من مظالم فادحة لم يشهد التاريخ نظيراً لها من قبل ، عشنا معه أيّاماً سعيدة وكان قد نزل علينا ذات مساء في مدريد ضيفاً كريماً على طعام مُزٍّ، وشرابْ مُرٍّ، ( كما كان يقول الشاعر الضرير- البصير بشّار بن بُرد !)، بحضور صديقيْنا الرّاحليْن الأديبان محمد العربي المساري ومحمد شقور رحمهما الله، حيث قضينا سويعات رغيدة في جوٍّ انساب بين فِكرٍ خلاّق، وأدبٍ رّفيع، ومع فيضٍ من قبسات، وقفشات، ولمزات، وهمسات، وإشارات، وإرهاصات، واستكناهات، واستقراءات، واستغوارات، خبايا وخفايا «مِهنة» أو بالأحرى «مِحنة» السياسة في بلادنا ولدى جيراننا والعالم …!
ومرّت الأيّامُ- كما كانت تصدح كوكب الشرق أمّ كلثوم – خلسةً، سريعةً، و»قصّرنا» في ليالينا ( في العامية المغربية أيّ سهرنا وجعلنا ليالينا قصيرة) مع رفقته الطيّبة، ولكنّنا لم « نقصّر» قطّ في صفاء صداقتنا، ونقاءعِشرتنا، وبهاء أنسنا، حافظين له الودّ الجميل، والعهد النبيل، راعين حريصين على استحضارهذه الذكريات وصَوْنها في كلّ وقتْ وحين ما حيينا…! وأنستنا هذه الأمسيات اللطيفة الحافلة باللحظات الرغيدة، والهنيهات السعيدة، والأحاديث الهانئة ، أنستنا ليالي مدريد الشتويّة القارصة في شتاء عام 1985، وعوّضتها بدفء الصّداقة التي مدّ الله حبلهما طويلاً ومتيناً بيننا إلى أن وافاه الأجل المحتوم في 13 يونيو(حزيران) من عام 2014 وما فتئنا نحافظ على شعلتها المتّقدة إلى يومنا هذا المشهود .
قيل ذات مرّةٍ عن هذا العالِم المستقبلي الفذّ : «من حُسن حظ المغاربة أنّ المهدي المنجرة هو واحد منهم، وإذا كانت لدى جنوب افريقيا مناجم الذهب، ولدى مصرالأهرام، ولدى البرازيل القهوة، فلدى المغرب الفوسفاط والسّمك والمهدي المنجرة.كان يرى بعيداً مثل صقر، ويحلّق عاليا كطائر، ويتكلّم مثل حكماء الجبال الشاهقة في الصّين القديمة» .وقال عنه وزير الخارجية الفرنسي السابق «ميشال جوبير» في إحدى المناسبات : «إنّ الجلوس بجانب هذا»المنذر بآلام العالم ومآسيه» لساعاتٍ طويلة يترك لديك انطباعاً بأنّك أمام رجل يشتغل في شباب كامل، مثل تلميذ يعالج واجباته المدرسية كما يليق.»

(*)كاتب وباحث ومترجم من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية – الأميركية للآداب والعلوم -بوغوطا- كولومبيا.
(**) تحريراً في غسَق يوم السبت 25 نونبر 2023 بمدينة « بُرج الطواحين» (Torre Molinos ) بالأندلس الفيحاء.


الكاتب : د. السّفير محمّد محمّد خطّابي

  

بتاريخ : 30/11/2023