قصاصة قصص من ورق

 

تعد فاطمة الزهراء المرابط مثقفة أديبة قاصة صحفية وفاعلة جمعوية من أصيلة، وهي الكاتبة الوطنية للراصد الوطني للنشر والقراءة (رونق) ومديرة النشر ورئيسة التحرير لمجلة «الصقيلة» في النقد والإبداع، وهي أيضا منشطة دؤوبة لمحترفات تقنية الكتابة الأدبية في مؤسسات المجتمع المدني والسياسي وكذا في المعارض الجهوية عبر التراب الوطني.
كنت دوما أطمع في قراءة عمل من أعمالها ..لكنها أبت ولم تستكبر ..اقترحت عليّ قراءة «اللعب مع الزمن»للقاص والشاعر مصطفى ملح وتم ذلك… ثم اقترحت عليّ «قاف صاد» للقاص محمد الشايب مؤخرا ..وكانت لنا لقاءات عديدة في زاكورة ثم في أصيلة وطنجة أكثر من مرة إلى اليوم .
اليوم أخيرا، أشرقت مجموعتها القصصية «أتراك تشرقين غدا…؟ (رونق.سليكي أخوين.طنجة 2019).
هذه المجموعة القصصية تتكون من خمسة عشرة أقصوصة. ختمتها قصة تحت عنوان «من نافذة القطار»(ص109).
ربما كنت حاضرا على متن ذلك القطار وفي ذات المقصورة لمّا كتبت هذه الأقصوصة في ست لوحات،أو الأصح لمّا تبلورت في ذهنها: تحكي فيها عن طفولتها وذكرياتها وعن فرسها الأشهب وعناده وعن فارسها صاحب السيجارة الشهباء المنتظر في أول محطة من أصيلة إلى وجدة (كنت متوجها إلى فاس)وتحكي عن مفارقة الزوج مابعد الحداثي وحرمه المنقّبة وعن الحلم بالحياة والحرية وكيف كاد يفوتها القطار الذي كان سيفوّت عليها فرصة التعرف عليّ ..لقد رمقتني من خلال الكتاب الذي كان بين يدي بدل الهاتف النقال كما هو سائد اليوم في القطارات.
بعد ذلك كشخص من شخوصها القصصية، اقتحمت لقاءاتها الأدبية وتعرفنا على بعضنا كما يجب.
«أتراك تشرقين غدا..؟ ليست عنوانا من عناوين الأضمومة كما هي العادة ،إنما هي عبارة تساؤلية تحمل ما يكفي من التحدي حتى يكون جوابها:»لن أكون إلا أنا.»(ص25)
أوّل تحد في هذه المجموعة بعد هذا التحدي هو، ضمير المتكلم فيها لا ينحاز لجندر ضد آخر،فهو ذكر في قصة»كأس واحدة» وأنثى في قصة»الرقصة الأخيرة»… وبه لا نعثر على وصف للشخوص لا من حيث المظهر ولا من حيث الباطن النفسي إلا ما يلزم ليس فقط لأن الجنس جنس قصة قصيرة وإنما لأن الشخوص هي أقرب إلى كونها شخصيات مفاهيمية تحمل في طياتها أفكارا أكثر منها شخصيات خيالية ورقية فقط.
التحدي الثاني هو أن هذه المجموعة تبدو وكأن لاشيء يجمعها ، فهي أحداث متنوعة مستقلة بذاتها وموضوعاتها وحتى تقنياتها ولا توحي بأنها تخضع لسلسلة تحكم تسلسلها أو توجه يوجهها..إلا أن هناك في رأيي ناظما مشتركا يوجد بسبق إصرار أو بدونه ينظّم سيرها وتطورها ويحدد نوعية كتابتها، وهذا الناظم يوجد منذ البداية في(الاستهلال) ألا وهو «قصاصة ورق بيضاء»ترافق الصمت والذكريات..ويوجد بعد ذلك في كل وحدات المجموعة قويا بارزا هنا وضعيفا هيّنا هناك. في(المعطف الأسود)يأخذ شكل «حروف مكتوية على الورقة البيضاء»أو»المذكرة السوداء»وفي (كأس واحدة) «قصاصة ورقة مهملة على طاولة المقهى»وفي (الرقصة الأخيرة)»لملمة الأوراق المتناثرة على الأرض»ثم «تمزيقها» وفي (هلوسات منتصف الليل)»ورقة الامتحان ..والخوف من لعنة السؤال» وفي (لوحة المفاتيح) «الصفحة البيضاء على الجهاز»، وفي (معايدة) «المجلة القديمة» وفي (ماسح الأحذية)»الورقة النقدية»و «حلم ولوج المكتبة «وفي (شجرة العرعار)»الحكي والرسالة»، وفي (تماثيل)»الكاتب الكبير والكتابة»، وفي (اغتراب)»كتبت على ورقة صغيرة وتركت السؤال مفتوحا» وفي (مخاض)» الممرضة تملأ ورقة بين يديها» وفي (الطاولة الأخرى)» جلست في المقهى لعلي أتمكن من رسم بعض الأفكار «وفي (أصوات)» سأخترع يوما ما لغة تليق بكل نساء العالم»، وفي (موناليزا) «جعلت المداد (كناية عن الكتابة)يسيل لملامسة السحر الكامن في عينيها»، وأخيرا (من نافذة القطار) حيث كنت من ضمن المسافرين، تتساءل الساردة «هل كان عليّ أن أدوّن تلك الحروف اللعينة التي أخفيتها هنا، خوفا من أن تقع في يد أحدهم [مثلا أنا القارئ الآن]فيكون فيها هلاكي».
طبعا بين قصاصة الورق والكتابة والحروف واللغة والمفكرة وأنواع الورق والأوراق الإدارية والعدلية وورقة الامتحان وصفحة الحاسوب الفارغة والمجلات والورقة النقدية والمكتبة وأوراق الشجر(الشجرة كتاب كما نعلم) والكاتب والسرد والرسم بالكلمات وشائج استعارية تشبيهية مفاهيمية عدة، تشكّل حقلا إشكاليا استفهاميا لتتحول بعد ذلك إلى مفاتيح لقراءة المجموعة القصصية،كهذه.
طبعا، مرة أخرى، هناك فرق واضح بين قصاصة من ورق وبين ورقة الطلاق العدلية وبين المكتبة وأوراق الشجر..لكنها كلها في المبتدأ وأخير الخبر أوراق وفيها كتابة ما، ولها كاتب أو سارد و تخضع لقوانين وضوابط الكتابة أو السرد…………………
ثم وجب التنويه أن هناك حضورا قويا لهذه المفاتيح في مضانّ (كقصة المعطف الأسود وكأس واحدة ولوحة المفاتيح وتماثيل) وحضورباهت إلى حد الانعدام مثلا في(ماسح الأحذية ومخاض) فماسح الأحذية لا علاقة له بأوراق الكتابة والحروف إلا كحلم أو ندم. أما الساردة في مخاض فلا تزال في كيس الولادة فهي فيما قبل الكتابة وما تستلزمه..الحلم والخيال كتابة لهما لغة هيروغليفية لابد من تفكيكها لفهم دلالاتها..
في الواقع يوجد القارئ (أنا مثلا الآن)ضمن أفق هذه الكتابة القصصية، فهو جزء لا يتجزأ من الكتابة منذ الأصل .فكل قصة تفترضه أمامها أو خلفها هذا علاوة على كونها منذورة له أساسا لقراءتها، فإذا انحاز إلى هذا الأفق بما وفّره من عتاد للقراءة والتأويل، يمكنه إدراك المبتغى أو على الأقل جزءا منه..
لنجرب هذا الانحياز ويمكننا القول هذا الانزياح، على القصة الأولى:»المعطف الأسود»:
حين تنحبس الكتابة وتجفّ حروفها في منابعها وتهرب الكلمات من الكرّاسات والقصاصات فلا مجال لاستدرارها إلا بتخيل السماء تمطر حروفا.تمطرها حروفا لأننا جعلنا بيننا وبين السماء اللغة كوسيط بدونه لا ندرك المطر ولا الحروف. وحين يتحول المطر إلى نوّ تغرق الكلمات في يمّ المطر ، لولا وجود قصاصات الورق وقد تحولت توا إلى قوارب صغيرة، كتلك التي كنّا نصنعها للأطفال لمرحنا بلعبة الزوارق الورقية الممتلئة والمبتلة بوابل من الحروف المائية،لتربط بين ما يأتي من السماء بالأرض.حروف تفيض علينا كالوحي في عقر دارنا لتملأ المكتبات والمكاتب بالغيث الحروفي الذي لا يجود به سوى الوحي أو ما يشبه الوحي لدى الكتاب .. هكذا لا نحتاج إلى معطف غوغول لنقي كلماتنا وحروفنا من المطر، وهكذا نحوز قصة صغيرة في شكل زخّة مطر.
ثم لنجرب الأمر على القصة الثانية: «كأس واحدة».
المشترك بين قصاصة الورق وبين الكأس الأخيرة في هذه القصة هو «الانتشاء». أقصد بين الكتابة على الورق وبين كأس الترياق. هذه الأخيرة كلما زادت كلما كان مفعولها أنجع وأنفع.أما انتشاء الكتابة فيبدو في الابتهاج الذي يشعر به الكاتب حين يبلو بلاء حسنا في إبداع ما هو بديع وبلوغ قمة البلاغة في الصور والتشبيهات، وكلما أتقن الأمر زاد انتشاؤه انتشاء.لكن حين يتعدى الكأس العاشرة يرى كيلوبترا تنادمه وحين يمعن النظر في فهم ما وقع له، يجد ذاته في إحدى المصحات.كذلك الكاتب حين يبالغ في البحث عن الانتشاء الفكري والأدبي يلف نفسه في دائرة الحمق والجنون.كما حصل مع الشاعر هولدرلين والفيلسوف نيتشه والمسرحي أرطو..
أما القصة الثالثة والتي منحت نفسها أو جزءا منها كعنوان للأضمومة برمتها، والموسومة بـ «الرقصة الأخيرة» فأوراقها كلها أوراق قضائية عدلية لا علاقة لها بالأوراق الأدبية لأن حبكة القصة لها علاقة بالطلاق بين سعاد ومحمد. يبدو أن هذه الأقصوصة لا تستجيب بما يكفي للمفاتيح القرائية المقترحة سابقا،لولا هذا التساؤل المصيري على فم سعاد بطلة القصة: «ما الذنب الذي اقترفته لأقف هنا أمام هؤلاء،منكسرة، لا حول لي ولا قوة .أ لأني لم أخضع لرغبة رجل يغيّر مواقفه كما يغيّر ملابسه الداخلية ـ هي قالت أقمصته ـ أم لأني أطمح لحياة لا توجد إلا في خيالي..؟
وفي خيالها يوجد كل شيء جميل بما فيه الكتابة ولم أقل الكفاية شريطة :
ـ عدم زيارة السي الحسين (مشعوذ)
ـ عدم الندم على تمزيق الأوراق القضائية أو الأدبية إن كانت مجحفة
ـ و«ألا تكوني ـ من الآن فصاعدا ـ إلا أنت».
سأختم بقصتين هما «لوحة المفاتيح» و»تماثيل» ربما لاستجابتهما القوية للوحة المفاتيح المقترحة.
تنفتح القصة الأولى على صفحة بيضاء في شاشة الحاسوب.والنية معقودة من طرف بطل القصة ـ وهو كاتب طبعا ـ على أن يبدع نصا لا مثيل له. لكن الكتابة حرونة أحيانا ولا تستجيب دائما. فهو يحتاج «إلى فكرة أعمق و أقوى و أكثر تأثيرا في القارئ و المتتبع.. عليّ الخروج من جلباب هؤلاء الذين سبقوني..» يقول جرّب الكتابة عن سعاد الحسناء صديقة العائلة وعن ابنتها فرح كما جرّب الكتابة عن المطر والأجواء الرومانسية ..وتعجب من أولئك الذين تتناسل في أياديهم وجدرانهم النصوص القصيرة والطويلة . ثم قرر إطلاق العنان للحروف حتى تتساقط كالمطر.. ففرضت عليه الكتابة عن حب الوطن والهجرة كما تجسّد ذلك في مأساة المعطي.فانطلقت الحروف في حرث الصفحة حتى أخذته سنة من نوم رأى نفسه فيها متوجا بالدرع الذهبي في جائزة من مجلة عربية رائدة تحيطه الأضواء من كل جهة….لما رفع رأسه عن لوحة المفاتيح ألفى نفسه أمام لغة هيروغليفية لا معنى لها كحلمه البئيس.
القصة الثانية: ترصد أصناف الكتاب والمثقفين،في أوهامهم وهلوساتهم وفانطازماتهم في أربعة تماثيل أو قل أمثلة أو الأصح ممثلين.
الأول يهتم بهندامه كثيرا ليظهر ذاته كمثقف ويلوّن شعره ،يرتدي قبعة غربية يملك غليونا يملأه بجمع أعقاب السجائر الملقاة في المرمدية، يتهادى في مشيته ويحلم بأمسية خيالية فوق القمر.
الثاني يعتبر نفسه كاتبا كبيرا، لكنه يتلصص على القاعة والحضور.حين يقف أمام الميكروفون يمتصه مصا ولا يتركه إلا مكرها . يعتقد أن امتعاض الحضور تشجيعا له فيريد الاستمرار.ثم يختفي عن الأنظار.
الثالث يرى في صحن وجبة العشاء ميدانه الخاص لوحده يجوبه طولا وعرضا.ولا يلتفت لمجاوريه.يأكل بشراهة محدثا أصواتا كتلك التي يقرأ بها شعره.ولأنه كاتب كبير يجوز له هذا الإنجاز.
الرابع وهو عصارة ما سبقه من أصناف،يمضي وحيدا غانما بعض الفواكه، التي يعود إليها الفضل في ملء بؤس حقيبته المثقوبة.
أجل من حق الكاتب أن يفرح بنفسه وأن يعتز بمنجزه، لكن في حدود الأدب (بمعنييه) أن يهتم بلسانه و بلباسه و صحته لا بالمظاهر المغشوشة ، فيكون كبيرا حين يتواضع و محبوبا حين يصارح ويصافح ويكون قنوعا مؤدبا حول المأدبة وفي الكواليس.. ومن حقه الحلم بنصوص قوية وبجوائز ثرية خارج الهرولة حول الملتقيات وابتذال لجان الدعم الوهمية وتفصيل اللجان على مقاس الرداءة وعليه في كل الأحوال حين يؤول إلى مأواه أن يبدأ بقراءة «النقد الذاتي»للزعيم علال الفاسي.
قصارى القول لا يمكن للبراديغمات القرائية مهما كانت إجرائية وتحليلية أن تشبع نهم القصة مهما صغرت.


الكاتب : إدريس كثير

  

بتاريخ : 17/02/2023