“مجتمع اللاَّتلامُسَ”: سيلفي لعالم آيل للانهيار» لفرانسوا سالتييل 23 . .الفصل الخامس الموت وما وراءه، البحث عن الخلود

كان عليَ، بدءا من 17 مارس 2020، أن أغادر أجواء الحانات الباريسية الصاخبة لكي أنصرف إلى الكتابة في فترة الحجر الصحي. مثلكم، ومثل أكثر من نصف البشرية، استشعرت هذا الإحساس الغريب، وهذه اللحظة التي تحولت فيها المنازل إلى سجون حميمية، وباتت الإقامات الأفق الوحيد الممكن. لقد عرفنا تقنين التموين في السوبرماركت، والخروج المقيَد بالرخص الإجبارية، ورأينا حدود قريتنا العالمية وهي تنغلق أمام أعيننا. كنا في حرب ضد فيروس غير مرئي، كما صعق بذلك آذاننا رئيس الجمهورية. حرب تتولى فيها التلفزة كل مساء، تقديم قوائم مثيرة للقلق تخص المرضى الذين جرفهم كوفيد 19. كان الموت يقتحم الشاشة. جسدت هذه الجائحة، أكثر من أي وقت مضى، مفهوم مجتمع اللا تلامس.
اتصالنا الرقمي الفائق الضروري، امتزج بعزلة حادة. كنا وحيدين لكن داخل الحشود. حتى الحداد كان لزاما أن يعاش عن بعد. مات الأشخاص في دور رعاية المسنين (les EHPAD) وحيدين وكان الحضور في الجنازات محدودا، إذاك، في كمشة أقارب مرخص لها بالتنقل. ذكرتني هذه الوضعية السوريالية وبالوصلة الإشهارية الخاصة بالمقاولة الأولى في مجال التعهد بدفن الموتى عبر النت. كنت رأيتها في ميترو باريس، أسابيع قليلة، قبل الحجر الصحي. أدفيتام، Advitam، جنازات دون تجشم لعناء التنقل. إعلان اشهاري نبوئيّ لا محالة. نضع موت الآخرين، في مجتمع اللا تلامس، على مسافة منّا، مع سعينا إلى تجاوز حدودنا الخاصة، عبر الانخراط في الوعد بالخلود الذي تقدمه الكافام المتقدة حماسا.

التوصيلات الجنائزية، الموت خلف واجهة زجاجية

ادفيتام، Advitam، دور لتنظيم الجنازات، تيسر ما استعصى عليكم. على مبعدة من عشرين قدما، داخل النفق تحت الأرضي، في الميترو، عاد بي الذهن إلى خدمة هذه المقاولة الفرنسية الخاصة بمتعهدي الدفن عبر الأنترنت، والتي تقترح على الشخص، في حالة حداد، أن تتولى هي تسوية كل شيء عبر البث الحي المباشر (en ligne) فقط، مقابل 1999 أورو. تتيح لك هذه المقاولة اختيار نعشك عبر شاشة متداخلة، مانحة إياك إمكانية القيام بكل الإجراءات رقميا.
تقترح الشركة «أدفيتام» حتى إغلاق حسابات الفقيد على مواقع التواصل الاجتماعي، وهذه بادرة سليمة، لأن بموجب هذه الوتيرة التي نحن عليها الآن وفي أفق سنة 2070، طبقا لما أوردته مؤسسة أنترنت التابعة لجامعة أكسفورد، سيكون ثمة مزيد من البروفايلات الفايسبوكية الخاصة بمن قضوا نحبهم أكثر مما هي عليه الحال بالنسبة إلى بروفايلات المستخدمين الأحياء.
ستخاطر منصة «زوكربيرغ» بالتحول إلى مقبرة رقمية عملاقة. ثم فلتعلم، يمكنك بالفعل إقامة بروفايل خاص بك، يتحول، بعد موتك، إلى حساب تخليد يعنى بك. أبدا لم نكن بمثل هذا القدر من الاستشراف. ستتراكم هذه البروفايلات الأشباح داخل نوع من المتاحف عبر النت. وأراهن في المستقبل ستحل هذه الفضاءات المضيفة محل الأضرحة. لو أنَ الفايسبوك قام بتنزيل هذا الخيار، فلا أحد يمكنه أن يشكك في وجود سوق يتعين اغتنامها.
لمقاولة «أدفيتام» حدودها، فهي لا تستغني عن حضورك الجسدي أثناء مراسيم التشييع، حتى وإن كانت بعض مقاولات الدفن تنزع، شيئا فشيئا، إلى اقتراح شرائط مسجلة بالفيديو لتكون موضوع متابعة من بعد. ثمة صعوبة نستشعرها آن مواجهة موت الآخرين، ومجتمع اللا تلامس يمنحنا إمكانية تحدي الموت حتى ونحن على أريكة في الصالون أو في السيارة!
البدايات الأولى للتوصيلات الجنائزية، كان قد تم الشروع في العمل بها، داخل اليابان في ولاية «ناغانو/ ‘’ Nagano، وهي قائمة منذ سنين عديدة، في الولايات المتحدة الأمريكية، كما هي الحال في ولاية «ميشغان».
تماما كما هو الشأن بالنسبة إلى «توصيلة الوجبات السريعة / drive de fast-food» تتقدم إلى أن تبلغ لافتة، هناك حيث، بدلا من أن تطلب شطيرة «Big Mac»، تتواصل مع مقود سيارتك، وما إن يستشعر جهاز كشف الحركة وصولك، حتى ينفتح الستار لمدة ثلاث دقائق حاسرا عن نعش معروض خلف واجهة زجاجية، ومانحا إياك فرصة إلقاء الوداع على الفقيد، وأنت على متن سيارتك، قبل أن يعاود الستار انسداله بصفة نهائية.
مع «التوصيلة الجنائزية»، لا وقت لأحد يضيعه مع الموت. تسمح هذه الخدمة بانسياب مرن في حركة مرور الجنازات، وتستهدف، في المقام الأول، الأشخاص المعاقين والذين يجدون صعوبة في الحركة، لكن الجميع يمكنه، في الحقيقة، الاستفادة من ذلك حتى يواصل استئناف حياته المزدحمة وفي السياق نفسه، يقدم موقع «لذكراه / en samémoire.fr إمكانية أن تزين بالأزهار نعش أحد الأقارب دون أن تتجشم عناء التنقل. من على الأنترنت، تنتقي الباقات ثم يتولى مختص القيام بالباقي، حتى أنه يرسل إليك صورة عربونا على إتقان العمل الذي أنيط به. هكذا، بثلاث نقرات، تريح ضميرك. يتصرف الناس، في مجتمع اللا تلامس، كما أن الموت غير موجود، وما إن يختطف أحد أعزائنا، حتى ننزع، أكثر فأكثر، إلى استدعاء معجزة التكنولوجيات كيما نحافظ على حضوره الوهمي.

إحياء الموتى
أو الاشباح الرقميون

كنت حزينا أول ما رأيت هذه الصور، اختلطت مشاعري بإحساس من عدم الارتياح، شعرت بالحزن قدر ما أحسست بالذنب وأنا أرى هذا المنظر الكئيب. يتعلق الأمر بمشهد لقاءات مميزة للم الشمل بين أم من كوريا الشمالية (jean ji-sun) و (Nayean) ابنتها الصغيرة ذات السبع سنوات، والتي وافتها المنية، سنة 2016، إثر مرض عضال. هذه التجربة المرقمنة مع عالم ما بعد الموت، تم تصويرها ضمن إطار فيلم وثائقي لفائدة قناة تلفزية وطنية مزودة بسماعة الواقع الافتراضي وبقفازات متصلة (gants connecté). عاشت الأم، مجددا، أمام شاشة خضراء، ولمدة قصيرة، لقطات افتراضية صحبة الصورة الرقمية الرمزية لنايون (l’avatar de nayeon) ابنتها الفقيدة. اقتضى الاستحداث الافتراضي للفتاة الصغيرة ثمانية أشهر من عمل فريق من المهندسين لإعادة إنتاج صوت وملامح «نايون»، وتمت الاستعانة بممثلة من نفس العمر لمحاكاة حركات الجسد، كان مشهد اللقاء داخل حديقة اعتادت الفتاة الصغيرة، في جنباتها، ممارسة جملة من طبائعها الخاصة. تعاجل الطفلة، بهيئتها فائقة الواقعية، أمها بهذا السؤال: «أين كنت أمي؟ هل فكرت بي؟ «تنفجر الأم «jean ji-sun»باكية وتجيب أنها افتقدتها بشدة، أيضا تحاول، يائسة، أن تحضنها بين ذراعيها، لكن «نايون» تبقى بعيدة المنال. ثم بعد ذلك تدعو الفتاة الصغيرة أمها لأن تتقاسم وإياها كعكة عيد الميلاد داخل كوخ صغير، قبل أن تهديها باقة من الورود مخبرة إياها أنها لم تعد مريضة. يستمر هذا المشهد السوريالي ما يقارب عشر دقائق. ختاما تطلب «نايون» من أمها أن تضطجع، خلال النوم، إلى جانبها مقسمة لها أنها ليست خائفة وأنها تحبها بكل ما لديها من قوة. تنتهي «نايون» إلى أن تتحول عصفورا قبل أن تتلاشى داخل السماء المرصعة بالنجوم. مصدومة صرحت الأم، عقب هذه التجربة من الانغمار، أنها كانت كما لو تم «نقلها إلى الجنة».
كنت أثرت، سابقا، مخاطر الآلات الناطقة (Machines parlantes)، وروبوتات المحادثة (Robots Conversationnels) في ما يتصل بالتلاعب بالذهن البشري وخلق وهم الحضور الإنساني. لنتصور، إذن، في أي حالة شعورية كانت الأم التي لا يمكنها أن تتعافى من الفقدان القاسي لصغيرتها. الأم لم تكن في مواجهة برنامج محادثاتي معلوماتي بسيط، ولكن أمام تجربة واقع افتراضي قوية ومؤثرة. حتى وإن كانت الأم هي من زود قصدا المهندسين بجميع المعلومات لكي يصمموا، قدر الإمكان، الصورة الرمزية على نحو يبدو أكثر واقعية عندما تجد نفسها أمام «نايون» الافتراضية، فإنها مع ذلك تنسى كل شيء وتنسى أنها هي من قام بتقديم المعلومات، وتفكر، طبعا في أن تتلمس، عن قرب روح طفلتها. لقد دفعت نفقات فريق كامل من الأخصائيين لتكون قادرة على نسيان صغيرتها بشكل أفضل. تسعى هذه المبادرة الفريدة إلى تحدي تراجيديا الموت. في مثل حالة كهذه، كم سيكون عدد الذين سيجربون، منا، المغامرة؟ مع هذا، يتحفظ، على الأصح، أخصائيو التحليل النفسي أمام تجربة من هذا النوع، لأنها لا تسمح بالتحقق السليم لكل مراحل الحداد. دوما، سيظل الناس رهائن «مرحلة البحث»، وفي سعي دائم وراء الفقيد، وفي وضعية عجز عن تقبل الفقدان. «لا يعرف الاتصال الرقمي الألم الذي يسببه نشدان القرب من البعيد» كما يوجز، ذلك، جيدا زميل»jean ji-sun» في المواطنة، الفيلسوف الكوري-الجنوبي «byune – chulhan» في كتابه «داخل السرب / Dans la nuée «.
في فرنسا، تبقى خدمات الرعاية الصحية أكثر تحفظا إزاء ممارسات کهذه. مع ذلك توجد بعض التجارب الاختبارية كما هـو الشـأن بالنسبة إلى مستشفى «ليل» الخاص،والذي حقق، سنة2018، سابقة وطنية مقترحا على مرضاه الميؤوس من شفائهم الاستجابة لآخر أمنياتهم بفضل الواقع الافتراضي، بل لذلك كان بمقدور هؤلاء المرضى السباحة، جنبا إلى جنب، مع الدلافين، كما كان باستطاعتهم أن يعيشوا، مجددا، رحلة سفر إلى فينيسيا/ Venise. راهنا، يستحيل الذهاب إلى أبعد من ذلك، مثلا، باقتراح مشاهدة أفلام من الأرشيف لأقارب قضوا نحبهم.نحن، فقط،في بداية هذه المحاولات المزعجة.

 

 


الكاتب : ترجمة: محمد الشنقيطي / عبد الإله الهادفي

  

بتاريخ : 06/04/2024