نفوذ المعنى ومركزية التشظي في رواية «الحجر والبركة» لعبد الرحيم جيران

 

تجدد رواية “الحجر والبركة” لعبد الرحيم جيران طاقتها التواصلية عبر طبعة جديدة عن دار فاصلة للنشر بطنجة. الرواية المتوجة بجائزة المغرب للكتاب تخاطب المتلقي عبر متخيلها الروائي المخصوص، والمتخيل ليس بوصفه قابلا للتحقق، بل بعده حدثا حقيقيا في واقع النص الروائي.

1 . التخييل السردي وصناعة الحكاية:

تتأطر الرواية زمنيا في فترة ما بعد الاستعمار من خلال سيرة سليمان الثُّنائي الذي يكشف لنا في وصيته أسرار التسمية وتعالقاتها ومعاناته مع الانقسام كنتيجة لتجاربه القاسية مند نشأته في مدينة الراموزة محروما من الأب، وفي أحضان والدته الحاجة لويز الشيخة التي تحترف الرقص والغناء، وتقدم المتعة لطالبيها من زوار البيت المبارك، فطاردته سيرتها السيئة وكانت سببا في سخرية زملائه منه في المدرسة، ثم إنه سيضطر إلى مغادرة الراموزة بعد أن قبض على الحاجة وحكم عليها بالسجن ثلاث سنوات.
انتقل سليمان إلى العيش في كنف خاله آدم بالدار البيضاء، والذي كانت له هو الآخر مأساته الخاصة، إذ قبض عليه في زمن الاستعمار بالدار البيضاء بتهمة الانتماء إلى الفدائيين. وعانى سليمان من الكثير من الأمراض التي دمرت جسده، بداية بمرض جلدي يشبه الجرب ومرورا بالرعاف وداء رئوي، وانتهاء بمرض السرطان المدمر الذي أنهى حياته،إذ أمام معاناته من هذا المرض سيظهر الانقسام في شخصيته بين سليمان الواقعي اليائس الذي يحسب السويعات المتبقية من عمره، وبين سليمان المثالي الحالم الذي يرى أن جسمه يستجيب للعلاج وأن المرض لن يخضعه، لذلك تحفر بحيوية شاب عشريني لكتابة سيرته الذاتية قبل انطفاء الجسد.
علاقة سليمان بالمرأة يحكمها الانقسام نفسه من خلال علاقته برحمة بائعة الهوى، ثم صباح جارة خاله في حي كوبا، و بنحاس التي تشبهه في ازدواجية شخصيتها. وكان سليمان عضوا في المنظمة اليسارية السرية وكانت خيباته مع النساء متتالية بداية بتخليه عن نجية، والفاتنة الاسبانية صبرينا التي حالت تشوهاتها الجسدية الخفية دون ارتباط سليمان بها.

2 . الكيان الاجتماعي:

رواية ” الحجر والبركة” للأديب عبد الرحيم جيران ظاهرها اجتماعي نفسي وباطنها سياسي، وتعددية البطل سمة مميزة لهذه الرواية، حيث العلامات اللغوية تتحول غلى علامات دلالية تغير مدلولاتها تبعا لسياقها التدولين وتبعا للعلاقات الفاعلة في الرواية. وتتفاعل الحكاية الإطار بحكايات أخرى تحيل إلى منطوق تاريخي من قبل التصورات الاجتماعية عن الفدائي والخائن بما يستدعي إعادة ترتيب الشخصيات تبعا لأدوارها الاجتماعية وأفعالها السردية، ومايرتبط بها من أحلام أخلاقية تؤشر على الخانات الفاعلة والعلاقات في بنيات النص الروائي بوصفه تجسيدا لإرادة تتوخى إعادة كتابة التاريخ كصورة ذهنية لدى المتلقي. مادام سليمان معاصر لذاته، إنه شخصية تحاكي نفسها لواقع التشطي ولالتباسات الحياة في ممكناته الاجتماعية والسياسية والأخلاقية.
سليمان تسكنه شخصية أوديب، فهو يتمنى موت أبيه، وهذا مايفسر تداخل الحلم بالذاتي في معهود الحياة، فهو متهعطش للحقيقة يمتلك إرادة العيش رغم وضعيته الصحية، وفي الآن نفسه يرفض هذه الحياة. يعيش معاناته التمرد يعيش صراعا داخيا حادا. سليمان الثنائي، شخصية مهيمنة في الرواية وموجهة لمجريات الأحداث والتوثر السردي، والراصدة لمختلف الأبعاد الأخلاقية، ومجادلة القيم عبر منظورات سردية، بيد أن نمو الخطاب السردي وتقاطعاته الاجتماعية، لايتم عبر المحكي السردي لشخصية سليمان الثنائي فحسب بل عبر مكونات نصية مختلفة مثل نجية بلمعلم المرأة الشبيهة بالفيلسوفة حنا أرندت لكونها هي الأخرى درست الآداب والفلسفة، لذلك فهي تجمع على نحو مدهش بين الجمال  والنباهة وقوة الشخصية.
الرواية تكشف قوة المرجعيات الإيديولوجية، والفكرية والبصرية المساهمة في تشكيل بنيات الرواية، حيث نجد أنفسنا في محاكمة علنية للمرجعيات اليسارية في ضوء فشل مشروعها المجتمعي، كما نجد حضورا للذاكرة السينمائية  (الممثلة الأمريكية جون فوندا)، بيد أن المتخيل السردي في هذه الرواية لا يربط بنسق نصي واحد، بل بأنساق مختلفة مادام سليمان الثنائي شخصية مركبة إلى حد الإلتباس. هذه القصدية ساهمت في نجاعة التأويل السردي من خلال كشف  مختلف الأنساق في سياق تحولاتها الأخلاقية والسياسية والثقافية، تزامنا مع ولادة سليمان الثنائي في  أربعينيات القرن الماضي اي في المرحلة الكولونيالية وصولا إلى عام 2012 المرتبط بموت سليمان، وبالتالي موت الواقع بتعبير الفيلسوف الفرنسي جان  بودريار Jean Baudrillard ونشوء وضعيات جديدة، فماهية الرواية لاترتبط بالحبكة والمتواليات السردية، ولا بالدلالة الخطية للأحداث، بل بسوء فهم الإنسان والحياة، والاعتقاد الساذج أن الخير هو المنتصر في النهاية، الشر المجسد في الرواية في مختلف السلط لا يتمظهر كمنتصر، او كمنهزم.
الرواية أرادت أن تجعل من تجديل الحياة أطروحة رئيسة  لأن الحياة ترتبط بتلازم الخير والشر ومشاركتهما في دينامية المتخيل السردي لرواية” الحجر والبركة” لعبد الرحيم جيران، لندرك في الأخير  أن تأويل الحياة سرديا لايحتاج إلى أنساق الفلسفة العامة فحسب، بل إلى فهم عميق لفن العيش، وإلى وعي يدرك الحياة في ماهيتها كتجربة تعاش على نحو ماعاشه سليمان الثنائي.

3 .ترتيب الفوضى:

الانقسام موجه للسرد التغاير والاختلاف، استحضر في هذا السياق ناقد فرنسي رصين لكنه لم يكن مكرسا من لدن الإعلام الثقافي الفرنسي على وجه التحديد رغم حديث رولان بارت عنه في أكثر من مناسبة ، خاصة ماورد في حوار مشهور بمجلة Débat النقدية الفرنسية، ويتعلق الأمر بالناقد بول بنيشو Paul Benichou الذي كان يشترط لإنجاز أي عمل أدبي أو نقدي قدرا كبيرا من المعرفة والدقة والبحث المتواصل والاهتمام بالجماليات البنائية والفنية للكتابة.
ويحقق المكان في رواية “الحجر والبركة” تحققا للانتماء المشترك، في منعطفاته تبدأ الحياة وإليها تؤوب. وثراء المكان لا يرتبط بثقله العاطفي فحسب، بل بممكناته بوصفه كاشفا لصلة الوجود بالإنسان، وصلته بما تشكل في الماضي وما يعاد تشكيله عبر تخييل الذاكرة وهي تُمِدُّ الحياة بمنطلقاتٍ التفكير في آفاق رحبة. بيد أنه من الصعب معاودة كتابة تاريخ المكان كملحمة تشكلت في الماضي، لكونه ليس ميتافيزيقيا، ولا يخضع – في الآن نفسه- للتفسير العقلاني.
والكتابة عن المكان بتعالقاته وأنساقه المختلفة مغامرة تتسم بقدر كبير من الغموض، وربما لهذا السبب كانت مهمة الكتابة عنه تشبه تعاليم الشاعر الإغريقي هِسْيُود Hesiod. المكان لايحقق حضوره كجزء من تربة الوجود فحسب، بل كصيرورة تتحقق داخل الذات. الفرد هنا في مواجهة المكان لايصفه على نحو فنومينولوجي، بل يحاوره ويجادله بصوت الذات بوصفها نتاج وعي فردي يستند على الجدل المشروط بسياقات مخصوصة. ووفق هذه الرؤية يمكن القول أن المكان بممكناته الأنطلوجية يتحول إلى تراث الذات.
إن الأمر إذن يرتبط برغبة في إدراك الزمان كمدخل لفهم الحياة والوجود. والحالة هذه فالسرد ليس بنية جامدة ، بل حرية متحولة ” حاضر الماضي،و حاضر الحاضر، وحاضر المستقبل” ولأنه كذلك فهو يسمح بتعميق الرؤية السردية وفي تنوع المصائر ارتباطا بهذ الفاعلية الممتدة عبر صفحات الرواية وهنا نستحضر فهم بول ريكور لهذه الفاعلية بقوله: ” تتمثل فرضيتي الأساسية في أن بين فعالية سرد قصة، وبين الطبيعة الزمانية للتجربة الإنسانية، تعالقا ليس بالعرضي، بل يمثل شكلا ثقافيا متبادلا من أشكال الضرورة. بحيث يصير الزمن إنسانيا، فيصاغ بصيغة سردية، ويكتنز السرد بمعناه الكامل حيث يصير شرطا للوجود الزماني”.
وتبعا لسياقات الرواية فإن الشخوص تتسم بفاعليتها السردية، وقدرتها على تكوين العوالم التي بدونها لا يستقيم السرد ولا يتطور لأن الممارسة السردية بفاعليتها البلاغية تتوسط المسافة الكامنة بين الذات و العالم الخارجي. وهي تكشف في قدراتها التعبيرية عن مرجعياتها الفكرية سواء منها الفردية أو الجمعية، ومن خلالها تتحقق الذاتية داخل الزمن السردي، كزمن مشكل لهوية السرد في الرواية. ومنتج للسنن الثقافية عبر ما يسميه أمبرتو أيكو في كتابه”العلامة: تحليل المفهوم وتاريخه” بالممارسة الإنسانية.
إن السرد ليس استعادة لزمن ما، وليس رغبة في خلق عوالم تخييلية، ولا تعويضا عن الفراغ الهائل في الذات الإنسانية. السرد في رواية ” الحجر والبركة” إقامة في الزمن، وفي الخطاب تبعا لرؤية إدوار سعيد طالما أن الخطاب هو ” تشكيل عالم متماسك متخيل، تحاك ضمنه صور الذات عن ماضيها، وتندغم فيه أهواء، وتحيزات، وافتراضات تكتسب طبيعة البديهيات، ونزوعات وتكوينات عقائدية يصوغها الحاضر بتعقيداته بقدر ما يصوغها الماضي بتجلياته وخفاياه، كما يصوغها بقوة و فاعلية خاصتين، فهم الحاضر للماضي و انهاج تأويله له، ومن هذا الخليط العجيب، نسج حكاية هي تاريخ الذات لنفسها و للعالم، تمنح طبيعة الحقيقة التاريخية، وتمارس فعلها في نفوس الجماعة و توجيه سلوكهم وتصورهم لأنفسهم وللآخرين، بوصفها حقيقة ثابتة تاريخيا” .
تشابك الاجتماعي والسياسي في رواية ” الحجر والبركة” لعبد الرحيم جيران مرتبط بمكونات الهوية التي تجد في السرد أحد تحققاتها الجمالية لتبلغ ما يسميه بول ريكور بالهوية السردية. ومن ثمة فالسرد في هذه الرواية هو صيغة فاعلة في الوجود تنظيم العمل وفق علاقات جديدة بين الشخوص والمصائر والإبدال الدلالي، والوسائط الرمزية التي تربط المتلقي بمجموعة من الممارسات الأفعال والقيم والمعتقدات والمؤسسات والكيانات الثقافية والأنظمة الأيديولوجية ومختلف الخطابات الفاعلة في الثقافة. وإذا كان من المتعذر استعادة التاريخ واقعيا، فإن الوعي السردي لدى عبد الرحيم جيران مكننا من تملسه تخييليا عبر فاعلية زمانية مرتبطة بقدر كبير من الحرية في الحركة داخل حيوات النص الروائي في أحداثه وإبدالاته النصية، وقدراته التخييلية بوصفه إنصاتا لحيوات ممكنة.


الكاتب : عبد السلام دخان

  

بتاريخ : 17/11/2021