أعادوا لنا كرامتَنا، وهذا البلدُ يجب أن يستحقَّ أبطالَه

أحمد المديني

1
من نِعَم يوم الأحد أن تكون وحدك مع لا أحد. نفسَك ذاتها تصرفها بعيداً حيث لا يوجد أحد. أن تتخفّف منك ومنها ومن كل ما يقيم فيك ويوجد حولك وتسبح في فراغ مطلق كأنك لا أحد. يمكن لشيء من هذا، لإحساس عظيم بالبدد، أن يحدث لو استعدت مجلسك في فيينا محظوظاً بمقعد وثير في الأوبرا وتنصت متبتلا لدانييل برينبويم يعزفSonate au Clair de Lune لبتهوفن، مع كل نقرة لأنمله على البيانو ترتجف والإيقاع سُلّمٌ يرقى بك إلى السما، وسقف الأوبرا بالنجوم هما، والعزف على وتر القلب دما؛ يا أنت ليس قبلك بعدك اليوم أحد.
2
لا توجد فرديةٌ ولا أنانيةٌ ومثلهما من الحصريات القسرية تسجن الإنسان في قفص الصفات، هو حقّه في الوجود، بما يسمح له أن يحسَّ ويفكرّ ويؤمنَ ويحسم في مصيره بدون وصاية من أحد. هذا لم يفهمه المستبدون وأصنام الدكتاتورية عبر تاريخ البشرية ظنوا بل قرروا ربما في لحظة جنون كتلك التي تصيب المتفردين بالسلطة مدى الحياة بأنها تُجسَّد فيهم وبهم ومن دونهم أبدا لا يمكن أن يعيش يسعد ويحزن أحد، هكذا لا يجرؤ من يتهمهم بالشرك بالواحد الأحد.
3
حين أقرر أجرّب أتمنى أن أنفرد بي يوم الأحد فلمأرب وحيد فقط، بسيط لا يكلف شيئا، فأنا لا أمدُّ يدي لجيب غيري، ولا أشمت في صديقي بعدُوِّي. كل همّي أن أُنتَزَع من جميع المشاغل والهموم والحسابات والمساومات والمضاربات والمطامح كبيرة وصغيرة دانية وعالية ممكنة ومستحيلة، الأدب الذي أفنيت فيه نصف عمري هو أيضا أتنازل عنه نافلا خلفي أليَق بي عندما صار الرحم العقيم ينجب الكلام اللقيط غثاء السيل، أن أثوي في ظلي، أتنازل لقاماتٍ عجافٍ أحبذ أن تقفز قدامي فليس أمتع من رؤية الأقزام والقردة وهي تمشي.
4
سيقال، أيُّ ترف هذا وإنك لمن المترفين. نعم، وماذا لو جربنا هذه الهواية بين وقت وآخر، أن نسكن لما في الروح من مجهول وسديم، ونأخذ نقشّر مثل خوخة كِسوتَها الناعمة كي نُبصر ما في الداخل، الخوخة الطيبة ناعمة ولذيذة ومن استعذبها غرق في أنانيته المفرطة، ومن ماعت في يده واكتشف دودة في الداخل ربما عاين مدى هشاشته، فتعلم أن يتريّث لا يجمع المال حُطاما، والكلام السائبَ طعاما، وغثّا، يَطري به نفسه ويلمُّ حوله الأغرار ذبابا.
5
في يوم الأحد، إذا قررتَ أن تصوم صُم عمّا لك ان تحدده، لا تتنازل عن قرارك عضّ على إرادتك وحريتك بالنواجذ، تعلّم أن تتحدث بضمير المتكلم مشبعاً بثقة ونخوة واعتزاز بأنك أنت، فقد نهبوا حقك وداسوا طويلا على كرامتك، فلم تعد تتحكم في صحوِك ومنامِك، صمتِك ونطقك، مفرداتُك تُملى عليك، ولسانُك محشور في جوفك، لذا تحتقن غضبا وتصرخ في أحشائك فقط، وإما رجالا ينتقمون من زوجاتهم أو مرؤوسيهم ويصرخون بنزق في الشارع.
6
هذا الأحد كنت نويت، على وشك أنذر للرحمن أن لا أكلم إنسيا، وأن أهبط إلى قعر ذاتي وأتمدد في اتساع الطّرة وعلى سرير الحاشية، خير مكان للمرء حين تتضخم الأجسادُ وتتورّمُ النفوسُ وتقلُّ المروءةُ ويخشوشنُ اللسان، ويشِحُّ الشعر، آه كم أحِنّ إلى القصيدة، عُشّ الوحدة ولفظ الحنين. كنت نويت، لكن خطابا توصلت به من مرسِلٍ مجهول اختارني لأمر ما وكأنه يرغب أن يذيع بواسطتي، وحين قرأته بالفرنسية وجدت من حقه هذا أترجمه لكم كأنّي كاتبه:
7
« لقد سالت الدموع، لكن ليس ما تعتقدون. لم تنكسِر قلوبُنا لأنكم هُزمتم من أبطال العالم. نحن حزينون لأننا نشتاق إليكم منذ اليوم. لقد اعتدنا على إعداد أمسياتنا للمباراة، أن نرتدي القمصان الوطنية، أن نصبغَ وجوهنا بالأحمر والأخضر، نحتفلَ بما تنجزون، أن نتقاسمَ صوركم. أنسانا هذا الكثير، شفانا من أدوائنا، صالَحنا مع أنفسنا وجيراننا، منطقتنا، مع قارتنا. أنسانا كيف أننا لطالما اكتفينا بالقليل، بلا شيء، بالمرتبة الأخيرة، بالمقعد الصغير، بالتحمّل دائما، الاختفاء، بأن نخجل، وأن لا نستخف بالمسؤولية. معكم نسينا الضّعف السائد، النفاقَ، الخطرَ، غيابَ العدالة، ملفاتِ الفيزا، طوابيرَ العمالة من السابعة صباحا لتجديد بطاقة الطالب، طابور» جوازات أخرى» في مطارات تنتظر فيها عشر مرات أكثر من الأوروبيين الذين تخصص لهم شبابيك أكثر. وأنتم مجّدتم عاداتنا وألبسَتنا، تقاليدَنا رجعت مستحبّة، لغتَنا على كل الشفاه، علمَنا يرفرف في كل مكان، نشيدَنا الوطني مترجَماً لجميع اللغات. لمرة، مغربيتنا تصنع قوتنا، لم نقلد أحدا كي يقبلوننا؛ لقد أحبونا لذاتنا.
ليتنا نملك حدا أدنى من نصف نهاية كأس العالم في كل مجال: في الحياة، في اختياراتنا، في الصحة، التعليم، الثقافة، الاقتصاد، السياسة، المجال الاجتماعي…
ليتنا نتوفر على نظير لوليد الركراكي في كل مواقع المسؤولية والإدارات، في هذا البلد، في الأبناك، والبريد، حتى المقاهي والأزقة، والمجاري المختنقة بعد قطرتَيْ مطر، في المدارس والجامعات، آه، في القلوب.
هذا ما ينبغي أن يصبح حدَّنا الأدنى، الحدّ الأدنى! كل هذا نحن مدينون به للأسود، لقد أعادوا لنا كرامتنا، فلنعتز بهم، أيضا. هذا البلد يجب أن يستحق أبطالَه».

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 21/12/2022

التعليقات مغلقة.