ما لا تجمعُه الكلمات، وهجٌ اسمُهُ: فلسطين كنفاني !

أحمد المديني

فلسطين تفتح بابها وتمد يدها للعرب جميعا، ولمن يحبها ويؤمن بقضيتها الوطنية المشروعة، خاصة. فلسطين ليست هوى قوميا وشعارا في لافتة، وهتافا عابرا في الفضاء؛ هذا قائم لا شك، وهو صدى نداء، لكنها قبل هذا قضية شعب اغتصبت أرضه ـ كلما جاء اسمها ليتذكر المستقر في بلده أن شعبها احتلت بلاده، وطرد شعبه، واجثت من جذوره، وتشرد في بقاع الدنيا، ومنذ نكبة 1948 التي يسميها الإسرائيليون عيد الاستقلال وهو يكافح لاسترداد حقوقه كافة، بصمود لا مثيل له ورغم الخسارات والخيبات ما أكثرها ـ؛ ولم يستسلم لسطوة الغزاة، وأشكال المنع والخنق والحصار صمد أبناؤه في نطاق التراب الذي توجد فيه السلطة الوطنية الفلسطينية وخارجها يناضلون لتجسيد الممكن من كيان الشعب في جميع المجالات، من أبرزها المجال الثقافي باعتبار الثقافة من ركائز هوية الشعوب، والفلسطيني سليل حضارة عميقة الجذور.
من أجل إدامة التعريف والتجسيد لهذا المكون الأساس عقد برام الله بفلسطين الملتقى الخامس للرواية العربية. كنت قد حضرت الملتقيين الأولين، والثالث والرابع فرضت ظروف الوباء أن ينظما عن بعد. وتجدد الملتقى الخامس برام الله من 19 إلى 21من شهر يوليوز الجاري، وخصص دورته الجديدة للروائي والمناضل الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني في الذكرى الخمسين لاستشهاده. كما تميزت الدورة الحالية بتخصيص الملتقـى وللمرة الأولى جائزة للرواية العربية ستمنح سنويا بتساوق مع هذه المناسبة وتتوبجا لها.
وقد دعي للمشاركة في ملتقـي فلسطين للرواية العربية عدد بارز من الروائيين والنقاد من بلدان عربية مختلفة وضيوف من بلدان أجنبية، لم يتمكن قسم منهم من الحضور لعدم تيسر الحصول على تصاريح الدخول، وهو عائق يواجه دائما الأنشطة الثقافية التي تجري في الأرض المحتلة. لكن هذا لم يحل دون تحقيق التحدي وانعقاد ملتقـي راهنت عليه وزارة الثقافة والأدباء الفلسطينيون، وتوفرت على برنامج محكم ومشاركات فاعلة ومميزة ضمنت نجاحه وإشعاعه، باعتماد مقدرات أطرها الشابة، وتعبئة الأدباء والأكاديميين في الداخل الفلسطيني، وكذلك بجعل خط أعمال الملتقـى أفقيا فانتقل من رام الله إلـى أغلب مدن التراب الفلسطيني وشاركت فيه جامعاتها وهيئاتها الثقافية الأهلية، ليكتسي صبغة تظاهرة وطنية عربية ودولية.
هي تظاهرة إبداعية وفكرية متعددة المحاور ومتنوعة التيمات جدية في مقارباتها بعيدا عن حمية المناسبات، عالجت ثلاثة محاور: الأول، تراث غسان كنفاني الروائي والفكري بالدرجة الأولى، علما بـأنه، كما جاء في شهادة الروائي الفلسطيني رشاد أبو شاور، كاتب متعدد المواهب، أبدع في فنون شتـى، الرواية والقصة القصيرة والمسرحية والتشكيل والمقال الصحفي الذي واظب على تحريره باسم مستعار، إلـى جانب نضاله السياسي الذي قض مضجع الأعداء اعتبروا قلمه وكفاحه الوطني والقومي والأممي جبهة دفعتهم إلى عملية إجرامية حين تفجير سيارته في بيروت في الثامن من يوليوز 1972.
عني المحور الثاني بموضوع الهوية في الرواية الفلسطينية، ومستويات حضورها وتمثيلاتها في الرواية العربية عامة. وهو موضوع تناولته مداخلات أغلب الدارسين الجامعيين الفلسطينيين، ويمثل قطب رحى جميع الكتابات السردية يستجمع خصائص شعب الممثلة لجذوره وتقاليده وثقافته ومجمل ما صاغه منذ أعماق التاريخ وهو يعيش فوق أرضه ويسوسها قبل أن تغتصب منه ويتعرض للتشريد. إنها سردية تاريخية وأدبية عريقة وثمينة، والفلسطيني صنع له مكانة ذات اعتبار هام في الرواية العربية.
ويمثل المحور الثالث قضية أدبية ونقدية خالصة وتقع في صلب الإبداع الروائي، عنوانها كما حددته في بحث لي : المدارس النقدية والتيارات الروائية، التفاعل وأنساق العلاقات. هي قضية مركبة تجتمع فيها مكونات التاريخ والفكر الفلسفي والأدبي والتحولات السوسو اقتصادية والأيديولوجيا، من جهة، والرؤية الخصوصية لجماعة الكتاب الذين وعوا تحولات زمنهم انطلاقا من شعور فردي، وابتكروا لغة وأساليب وطرائق للسرد ووضعوا الإنسان في قلب معركة الوجود ومحور الصراع الاجتماعي في التراجيديا الإنسانبة الجديدة بعد الملحمة القديمة، فكانت وجاءت الرواية، من جهة ثانية. نصها سباق على التنظير وهذا مجنس لها ومقعد، هما في مجمل التحليل متفاعلان متلاقحان. وضعت مداخلات هذا المحور ملتقى الرواية في فلسطين في مرتبة المنتديات الرصينة وتقديم أطروحات جامعة بين تاريخ الأدب والنص الخاص، النص الروائي عربيا وفلسطينيا على حد سواء، ليقرأ هذا الأخير بحمولته وفي إهابه الجماليين وليس بالصفة النضالية التي سجن فيها طويلا ووصف قسرا وحصرا بأدب المقاومة، فقط، وقد حررناه.
وكما ذكرت في البداية، فإن ملتقى فلسطين الخامس للرواية العربية تميز بإعلان جائزته للرواية التي تحمل اسم غسان كنفاني اعتمدت لجنة تحكيم أعضاؤها من أهل الاختصاص والدراية بهذا الفن منزهة عن أي خدش والتباس، ترأستها الدارسة والناقدة رزان إبراهيم، وفاز بالجائزة بـإجماع التحكيم السوري المغيرة الهويدي عن روايته» قماش أسود»، قرأت الرواية وأشهد أن الهويدي فاز بها باستحقاق تام، يليق بالعلم الذي تحمل وتجدد روحه وذكرى أدبه المجيد بـأقلام عربية جديدة تدق الخزان اليوم بقوة.
وإذ نختم هذه الرسالة المباشرة من رام الله عن أهم حدث ثقافي عربي في مطلع صيف هذا العام، ينبغي التنبيه إلى حمله لأكثر من رسالة في مقدمتها إبراز وتأكيد الحضور الفلسطيني في الميدان الثقافي الأدبي بكل جدارة بل وتفوق. حضور منتظم وفاعل في قيمته الخلاقة يعزز من دور الثقافة أداة ناجعة لشعب يناضل من أجل استرحاع أرضه وامتلاك حق دولته المستقلة الكاملة. ثالثا، أبان هذا الملتقـي، مرة أخرى، عن موقف المشاركة العربية والأجنبية في ثقافة المقاومة ونصرة الشعب العربي الفلسطيني، فلا أدب وفكر يستحقان اسمهما بغير التزام ودفاع عن قيم الحرية والحقوق الشرعية للإنسان والشعوب. لا عجب إذن أن يحمل الملتقى الخامس للرواية اسم غسان كنفاني من استشهد من أجل هذه القيم، وستصبح جائزته في مستوى رفعته ومرتبته الروائية العالية المعترف بها مغربيا وقوميا وعالميا، أيضًا.

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 27/07/2022

التعليقات مغلقة.