هكذا تكلم جلالة الملك وهكذا تكلم ساركوزي

عبد السلام المساوي

 

ما قاله الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، في حواره مع « لوفيغارو « ، وفي مذكراته، أيضا، للرئيس الحالي ماكرون، عن علاقة فرنسا بالمغرب، والجزائر، كلام مسؤول سياسي مسؤول حقا، يعرف من منطلق قيادته للجمهورية الفرنسية ذات خمس سنوات خلت، المعنى الفعلي والحقيقي للعلاقتين معا .
ساركوزي بوضوح كامل أكد أن العلاقة مع فرنسا بالنسبة لمن يقودون الجزائر هي علاقة مشجب مع صاحبه.
الحكام هناك يرون أن الحل الوحيد أمامهم لتبرير إخفاقاتهم في تسيير هذا البلد منذ 1962 وحتى الآن هو …فرنسا، وهم هناك، حسب الرئيس الفرنسي الأسبق، غير مستعدين للتخلي عن هذا المشجب، لأنهم لا يملكون غيره أمام شعبهم .
ساركوزي قال بالحرف: «دعونا لا نحاول بناء صداقة مصطنعة مع قادة الجزائر فهم يستخدمون فرنسا بشكل منهجي كبش فداء لتبرير إخفاقاتهم وافتقارهم للشرعية»، قبل أن يضيف متحدثا عن هاته الصداقة التي اعتبرها مصطنعة : « سيرفضون على الدوام. إنهم بأمس الحاجة لتحويل الانتباه عن الفشل الذي أغرقوا فيه بلدهم من خلال تحميل فرنسا بانتظام كل الشرور»، وأعرب ساركوزي عن قلقه أيضا من تأثير هذه الجهود تجاه الجزائر على العلاقة مع المغرب التي تمر أيضا بصعوبات، وقال : « هذا التوجه يبعدنا عن المغرب. نحن نجازف بخسارة كل شيء. لسنا نكسب ثقة الجزائر ونحن نفقد ثقة المغرب».
ساركوزي المتحدث من موقع العارف بالدولة العميقة في فرنسا، دق باسم أغلبية الطبقة السياسية الفرنسية ناقوس خطر حقيقي حول العلاقة مع المغرب، التي يعرف الجميع هناك أنها كانت دائما استثنائية من طرف بلادنا، رغم كثير من الاهتزازات التي كانت تصدر بين الفينة والأخرى عن باريس، وأن هاته العلاقة لم تفتر إلى الحد الذي وصلته اليوم إلا بعد أن رفضت فرنسا تطبيق كلام ساركوزي الذي كان يقال في الصالونات المغلقة هناك منذ أشهر عديدة، قبل أن يخرج إلى العلن الإعلامي اليوم، وعلى لسان رئيس أسبق يشترك مع كل رؤساء فرنسا الذين مروا في الاقتناع بأن التضحية بالعلاقة مع المغرب من أجل علاقة وهمية مع الجزائر هو أمر غير ذكي كثيرا، لئلا نتمادى ونقول أشياء أخرى – من صميم الأحداث، جريدة الأحداث المغربية عدد 7975 –
ساركوزي اختار أن ينصح ماكرون بتغيير بوصلته الدبلوماسية نحو شاطئ الأمان والحفاظ على أقل الخسائر في علاقة فرنسا بالمغرب، مقدما رؤية مختلفة وسط ذلك الضجيج السياسي والإعلامي الرسمي، رؤية تقترب مما يشترطه المغرب منذ سنوات.
إن فرنسا في حاجة إلى مثل هذا الصوت العاقل والمتزن، خصوصا بعد هذا الانشطار العميق الذي تعيشه باريس بسبب سياسات اجتماعية واقتصادية فاشلة، ورطت المجتمع الفرنسي في صراع اجتماعي غير مسبوق، ناهيك عن فقدان فرنسا لكل امتداداتها التاريخية جراء دبلوماسية متعجرفة بنفس استعماري .
يبدو أن الأصوات العاقلة في السوق السياسي الفرنسي تجاه شعبوية الرئيس ايمانويل ماكرون، بدأت تفرض نفسها على مستوى الإعلام بعدما حذر الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي نظيره الحالي من مغبة السياسة التي ينهجها والمتسمة بالتقارب مع الجزائر على حساب المغرب ، معتبرا أن سياسة الرئيس الفرنسي ستبعد باريس عن المغرب ولن تكسب ثقة الجزائر.
أن يصدر هذا التنبيه عن أحد رؤساء فرنسا السابقين ورجل دولة تمرس في كل المناصب الوزارية والبرلمانية قبل أن يصل إلى قصر الإليزيه فهذا له أكثر من دلالة سياسية.
إن هاته الصرخة السياسية التي سبقتها صرخات حزبية وبرلمانية وإعلامية، تطالب ماكرون بأن يتوقف فقط عن سياسة الغراب الذي أراد أن يتعلم مشية الحمامة وبعد فترة لم يتقن المشية الجديدة وخسر مشيته القديمة، وهذا ما حصل بالضبط لماكرون بسبب الانعراجية الدبلوماسية التي قام بها، فلا هو كسب علاقات وثيقة مع الجزائر ولا هو احتفظ بعلاقات شراكة متينة مع المغرب.
وبانتظار أن يصيب ماكرون بعض الرشد ويعيد حساباته من جديد، فإن الخطأ الأكبر الذي سيرتكبه هو أن يركب دماغه ويصر على تأزيم العلاقات المغربية الفرنسية على حساب علاقته غير الموثوقة مع الجزائر، وحينها سيطلق رصاصة الرحمة على العلاقات بين البلدين ، وآنذاك سيندم ندما شديدا على عدم استفادته من نصيحة زميل سابق في رئاسة الجمهورية.
يقول جلالة الملك في الخطاب السامي بمناسبة الذكرى التاسعة والستين لثورة الملك والشعب «وأمام هذه التطورات الإيجابية التي تهم دولا من مختلف القارات، أوجه رسالة واضحة للجميع: إن ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط، الذي يقيس به صدق الصداقات، ونجاعة الشراكات.
لذا، ننتظر من بعض الدول، من شركاء المغرب التقليديين والجدد، التي تتبنى مواقف غير واضحة، بخصوص مغربية الصحراء، أن توضح مواقفها، وتراجع مضمونها بشكل لا يقبل التأويل».
كنا متأكدين أننا سنسمعها بكل الوضوح الممكن على لسان عاهل البلاد باسم المغرب والمغاربة : لا تفريط في صحرائنا ، ولا التباس نقبله ولا غموض ممن نعتبرهم شركاء لنا، ولا نظرة واحدة إلى الخلف .
الهدف السير إلى الأمام خطوات مغربية إضافية أخرى مع أصدقائنا الحقيقيين وشركائنا الفعليين لأجل بناء وتنمية هذا الوطن من أقصى شماله وشرقه وغربه حتى أقصى جنوبه وصحرائه، صحراؤنا التي لا تفريط فيها، والتي تعني لنا جميعا كل الأشياء…
الرسالة هنا تقول للجميع لقد حل زمن الفرز الديبلوماسي وأن المواقف الرمادية لبعض الدول والمنظمات تجاه قضية وحدتنا الترابية، أصبحت غير مقبولة بالمرة، ولن تخدم أي علاقة دبلوماسية أو اقتصادية ذات مصداقية، لأن تساهل المغرب لسنوات مع المواقف الرمادية لبعض الشركاء التقليديين ساهم بشكل غير مباشر في تغذية أوهام الانفصال، وبالتالي لا يمكن للمغرب أن يبني مستقبلا علاقات ومصالح إلا مع من يؤمنون ويدافعون عن وحدتنا الترابية بالأقوال والأفعال، أما موقف المتردد من صحرائنا وموقف الضعيف هو ترجمة لنظام متردد لن نتعامل معه .
فالذين يتهربون من الفرز في مواقفهم الدبلوماسية تجاه قضية المغرب الأولى، والذين يأخذون موقع الوسط في اللحظة التي تحتاج إلى تحديد الموقف وإظهار الاصطفاف بين من مع وحدتنا الترابية أو ضدها فسيكونون الخاسرين في النهاية ، لأن المغرب لن يقبل من الآن فصاعدا بموقف اللاموقف لأنه ذروة الانتهازية .
إن شراكة رابح – رابح لا تعني جني الأموال وأرقام المعاملات الضخمة من عمليات الاستثمار في الصحراء، بل تعني أيضا ربحا سياسيا للمغرب، حين تتضح المواقف، ويعرف العالم أن ما يجري الآن في بعض الدواليب الصغيرة مجرد نزاع مفتعل من دول حاقدة .
لقد انتهى زمن الابتزاز الذي كان عملة رائجة في الصحراء المغربية، حين كانت بعض الدول في أوربا على الخصوص، تخير المغرب بين ” أنصاف المواقف “، وبين الاستثمار المتوحش، دون قيد أو شرط في خيرات البر والبحر والجو .
لقد طوى المغرب قضية سيادته الكاملة على الصحراء المغربية إلى غير رجعة، ولا يمكن لأي شبر من التراب الوطني أن يكون مجالا للتفاوض والبيع والشراء مع أي طرف مهما كان : فإما أن تنخرط جميع الدول في هذا المنطق وتعبر عنه بوضوح كامل، وإما أن تتنحى جانبا إلى موعد لاحق .
فمن لا تزال في قلبه ذرة شك في مغربية الصحراء، التي تعتبر قضية ملك وشعب وتاريخ وشرعية دولية، عليه أن يراجع أوراقه قبل أن يفكر في ربط الاتصال مع المغرب، وهي رسالة موجهة بالأساس إلى بعض الدول في أوروبا …
الخطاب الملكي كان واضحا بخصوص علاقات المملكة بمجموعة من الدول في تعاطيها مع قضية الوحدة الترابية للمملكة، وبذلك شكل مرحلة جديدة في مسار القضية الوطنية الأولى، كان واضحا بخصوص التوجه السياسي وتصريف السياسة الخارجية المغربية في بعدها الاقتصادي ، والتي أصبحت مشروطة بالقطع مع المواقف الغامضة في ما يخص وحدة المغرب الترابية .
فمن يريد الاصطفاف إلى جانب المغرب، عليه أن يبرهن على ذلك فعلا وقولا، كما فعلت الولايات المتحدة التي أعلنت موقفا مشرفا، وكما فعلت دول كثيرة من مختلف القارات، وكما فعلت دول عربية وإفريقية فتحت تمثيليات دبلوماسية لها في العيون والداخلة .
أما من يريد الاصطفاف مع الأعداء، فعليه أن يكون شجاعا للتعبير عن ذلك، دون لف أو دوران، في سياق دولي لم يعد يقبل بوضع رجل هنا وأخرى هناك .
هذا البلد لا يرتكب خطوات غير محسوبة .
هذا البلد متأكد أن تلك الصحراء جزء منه وأنه جزء من تلك الصحراء .
ثورة الملك والشعب ثورة مستمرة ومتجددة، وليست مجرد ذكرى وطنية نحتفل بها والسلام. هي درس مغربي متواصل على امتداد الأزمنة والأمكنة يجدد نفسه دوما وأبدا ويمنح إمكانية الاستفادة منه لمن كان ذا عقل سليم …
نقولها بالصوت المغربي الواحد : الصحراء مغربية …الصحراء عنوان هويتنا وكينونتنا، في الحاضر والماضي والمستقبل، بالأمس واليوم وكل الأيام …لنا نحن هذا الوطن الواحد والوحيد، وهاته البلاد التي ولدتنا وصنعتنا وصنعت كل ملمح من ملامحنا، والتي تجري فيها دماء أجدادنا وآبائنا وأمهاتنا، والتي تجري دماؤها في مسامنا وفي العروق .
نفخر بهذا الأمر أيما افتخار، ونكتفي أننا لا ندين بالولاء إلا للمغرب. وهذه لوحدها تكفينا، اليوم ، وغدا في باقي الأيام، إلى أن تنتهي كل الأيام ….الصحراء جزء منا ونحن جزء منها …الصحراء مغربية…
لا يكفي أن تكون اليوم، مجرد دولة لها حدود وحكومة وجيش وإدارات وشعب، بل يجب أولا أن تكون لك مقومات هذه الدولة، تاريخيا وتنوعا ومؤسسات وتداولا ديموقراطيا للسلطة، وبناء سياسيا ومجتمعيا ودستوريا صلبا يسند ظهرك في المواجهات الكبرى، ويصد عنك الأطماع والمؤامرات ومخططات الهيمنة، التي تستعمل فيها وسائل استخباراتية قذرة .
يقول جلالة الملك ” يبقى حجر الزاوية في الدفاع عن مغربية الصحراء، هو وحدة الجبهة الداخلية والتعبئة الشاملة لكل المغاربة، أينما كانوا، للتصدي لمناورات الأعداء …”
لم تعد الدعوة إلى تحصين الجبهة الداخلية ترفا نخبويا أو خطابا سياسيا يردد في المناسبات ، بل أصبح ضرورة وطنية لإسناد الموقف المغربي الرافض لكل الصفقات التي يتم عقدها لإخضاعه بالقوة لمصالح الآخرين، أو التهديد بالمس باستقراره وأمنه، فالجبهة الداخلية كانت وما زالت هي الحصن الحصين لهذا البلد عبر مختلف المراحل، التي شهدتها المعركة الوطنية من أجل وحدتنا الترابية وبناء دولة المؤسسات، حيث كانت قوة البيت الداخلي هي أقوى ورقة يمتلكها المغرب في مواجهة خصومه، وبدون شك سيستمر هذا المعطى حاضرا إلى اليوم، مهما تغيرت السياقات الوطنية الدولية والإقليمية الحالية، لذلك فإن المهمة الأكبر للأحزاب والحكومة والبرلمان والنقابات والإعلام بشقيه العمومي والخاص، هي تعزيز الجدار الوطني كل من موقعه، فالجبهة الداخلية القوية هي أفضل سلاح دفاعي ضد الأخطار الخارجية ….
إن خطاب ذكرى ثورة الملك والشعب خطاب مؤسس منتزع للموقع المغربي في المضمار الجهوي والدولي، خطاب يعيد المغرب لما هو منذور له : الريادة ولاشيء غير الريادة . فالمغرب كان في فترات طويلة من تاريخه جزءا من النظام العالمي، حيث كان ملوكه وإمبراطورياته يجسدون لقرون محور الغرب الإسلامي، وكانوا يعتبرون قيادة روحية لإفريقيا .

الكاتب : عبد السلام المساوي - بتاريخ : 24/08/2023

التعليقات مغلقة.