هل يمكن إحناء رأس الديمقراطية؟

 مصطفى خُلَالْ

تحتلُ عقولَ الناس فكرةٌ ثابتة تقول إن الديمقراطية إذا ما كانت راسخة فإنه يستحيل المساس بسيرها، والحال أننا في كل مرة نعايش محاولات للتدخل وبصور سافرة في سير المؤسسات الديمقراطية. ففي إسبانيا بداية ثمانينيات القرن الماضي قاد عقيدٌ فيلقا من الحرس ودخل بهم بناية الكورتيس والبرلمانيون مجتمعون من أجل التصويت على رئيس حكومة جديد. أُمِرَ البرلمانيون تحت تسديد الأسلحة النارية بأن ينبطحوا على الأرض، وهو ما فعلوه باستثناء اثنين منهم هما فيليبي غونزاليز وممثل الحزب الشيوعي الإسباني.
ولا تزال التحقيقات جارية إلى اليوم في أحداث الهجوم العنيف على البناية الشامخة للبرلمان الأمريكي في 6 يناير من العام الماضي، وفيها كان يجتمع البرلمانيون الأمريكيون من أجل التصديق على نتائج الانتخابات التي فاز فيها مرشح حزب الديمقراطيين الرئيس الحالي، جو بادين. لقد جاء المهاجمون من كل الولايات تقريبا، وتصرفوا بتوجيه من الرئيس دونالد ترامب، المُعاد ترشيحه باسم الحزب المنافس، حزب الجمهوريين. أدهش كلُ هذا الذي حدثَ العالمَ كلًه، وأذهله أكثر عبثُ بعضِ المهاجمين بكل ما يرمز إلى النظام الديمقراطي الأمريكي والذي يشهد على رسوخ هذا الاختيار كما يشهد على نموذجيته جلال البناية التي جرى العبث بمكوناتها المادية والرمزية.
وفي الأسابيع الأخيرة تابعنا في مجريات الأنباء الواردة من نفس فيديرالية الولايات المتحدة الأمريكية كيف انقلبت المحكمة العليا التي يسيطر عليها المحافظون على قانون تم التصويت لفائدته في العام 1973 ويخص حق المرأة في الإجهاض الإرادي لدواعي تخصها وحدها ولا يحق لأي كان التدخل فيها. والأدهى من هذا أن ولايات بعينها دخلت في التطبيق الفوري للإجراء الجديد الذي تحركت ضده كل العقول الغربية ومعها قِمَمُ المسؤوليات السياسية وبقوة كانت منتظرة. هكذا وعلى سبيل المثال فقط كتب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تغريدته اليومية على حسابه في تويتر يرفض الإجراء ويعتبره رِدًة ديمقراطية. بل إن أوروبا ككل استغربت للأمر علما ان كل ما يقع في أمريكا تهتز له أوروبا سلبا أو إيجابا.
ولقد تتبعنا بذهول كبير في فرنسا بالذات سلوكا ليس من صميم الديمقراطية. ذلك أن الحملة والتي سبقتها تسخينات دامت شهورا، سيطرت عليها موضوعات لا علاقة لها بما يشغل الديمقراطيات الراسخة. موضوعات شملت ما سماه المتنافسون على رئاسة الجمهورية (الهوية الوطنية)، و(السيادة الوطنية) و (الإبدال الكبير)، ويقصدون بهذه العبارة الأخيرة أن الشعب الفرنسي مهدد باستيطان المسلمين الفرنسيين أرض وثقافة فرنسا. وهي كما نرى عبارة غريبة كل الغرابة، وليست مثلها مثل فكرة (الهوية) نفسها، ليست ذات صلة مهما كانت واهية بالمسلك والفلسفة الديمقراطيتين. لقد تمت في تلك الحملة الانتخابية إزاحة كل الموضوعات الرئيسية التي تهم المواطن الفرنسي إلى المستوى الثاني مثل الأزمة الاقتصادية والصحية والهجرة والشغل والقدرة الشرائية وإشكاليات الطاقة ومعضلات البيئة والأيكولوجيا وغيرها وتم استبدالها بموضوعات ليست من صميم اهتمام الناخبين الفرنسيين، موضوعات هي في الحق شعارات ديماغوجية تتغيى دغدغة عواطف بسطاء العقول.
كما نرى، حدث هذا ويحدث في الديمقراطيات العتيدة، في أمريكا وفي أوروبا. بل إن التاريخ سجل – سجله بسخريته اللاذعة المعهودة–أن مشروع قانون تعديل اتفاقية (ماستريخت) والخاصة بالاتحاد الأوروبي، تم اخضاعه لاستفتاء شعبي كانت نسبة قبوله هي 45 في المئة، ونسبة رفضه هي 54 في المئة. غير أن المشروع تم تطبيقه من طرف الحاكمين الذين لم تشغلهم رغبة الناخبين المستفتين وأخذوا بما رأوه هم وليس الشعب. ولا تزال هذه القضية موضوع جدال كبير رغم مرور ثلاثين عاما على الواقعة خطيرة الشأن هذه.
تبين هذه الأمثلة أنه من الوارد دائما إحناء رأس الديمقراطية رغم أنفها، ورغم إرادة الناخب الديمقراطية. أمثلة أخذناها من الغرب، صاحب الباع الشديد في هذا المجال. أما خارج الغرب، فإن الأمثلة لا تقل. ونتذكر بألم شديد ما وقع عندنا في الاتحاد المغاربي. ألم تُصَوِت الشعوب لصالح الاتحاد، لكن إرادة نخبة الحكم في الجزائر كان لها ولا يزال رأي معاكس لإرادة الشعوب، تماما كما كان لها رأي آخر في انتخابات 1992 التي فاز فيها حزب الأصوليين، لكن عوض أن يصعد إلى دفة الحكم، تم إغراق الشعب كله في الرعب وفي الدم لعقد كامل يسمى اليوم بالعشرية السوداء.
تلك أمثلة من الغرب، أي من العُقْر الذي نبتت فيه الديمقراطية. ولن نقول شيئا عما وقع في مصر ولا عما يقع هذه الشهور الجارية في تونس…مثلا…

الكاتب :  مصطفى خُلَالْ - بتاريخ : 26/07/2022

التعليقات مغلقة.