السياسة الخارجية الجزائرية: أزمة المحددات والأشخاص

رشيد قنجاع

” الإنسان هو حيوان معلق في شبكات من الدلالات التي ينسجها بنفسه” ماكس فيبر

بنت الجزائر عقيدة وثوابت سياستها الخارجية انطلاقا من مخرجات التفاوض الذي خاضته الحركة الوطنية الجزائرية مع المستعمر الفرنسي، مكرسة شعارات سياسية محددة للسياسة الخارجية أكثر منها ثوابت مبنية على نظريات مؤسسة لعلم العلاقات الدولية، مما حول هذه الشعارات إلى نصوص جامدة غير متغيرة في عالم يطبعه التغير والتحول بشكل دائم ومتعدد، أفضت إلى ما أفضت إليه ما بعد انهيار جدار برلين من فقدان البوصلة والرؤية المؤسسة للبعد الاستراتيجي في القرار الخارجي الجزائري .
رسمت الحركة الوطنية وبالضبط قادة جبهة التحرير الوطني الجزائرية معالم السياسة الخارجية لبلدهم، انطلاقا من شعارات سياسية كان لها وزنها في عالم الثنائية القطبية بين الشرق والغرب، والتوجهات التي أفضى إليها مؤتمر “باندونغ” لدول عدم الانحياز. تسمح للجزائر لتكون أقرب للشرق الاشتراكي منها للغرب الرأسمالي، وفي تكييف لا يتناقض مع مبادئ المنظمات الدولية التي انخرطت فيها من قبيل منظمة الأمم المتحدة ومنظمة الجامعة العربية ومنظمة الاتحاد الإفريقي، وتركزت في المحددات التالية:
– الدفاع عن سيادة الدول واستقلالها وسلامتها الترابية.
– عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.
– دعم القضايا العادلة والمشروعة.
– حسن الجوار.
اصطدم القادة الجزائريون المتعاقبون إلى حدود التجربة البوتفليقية، كما حال العديد من قادة الحركات الوطنية الذين تولوا مقاليد الحكم في الدول الحديثة العهد بالاستقلال، بالمفارقات الشاسعة بين الشعارات التي تم رفعها والأحلام التي عاشوا في كنفها وحقيقة واقع دولهم والآمال الشعبية التي راهنت على التنمية والديمقراطية والعيش الكريم، فوجدوا أنفسهم بعد ثلاثة عقود من الاستقلال أمام فشل ذريع لمخططاتهم الاقتصادية المتبعة، وظلوا رهينة التبعية الاقتصادية والسياسية، وكرسوا أنظمة تسلطية استبدادية تجيب فقط عن مصالح النخبة الحاكمة، وأجهضوا حلم وآمال شعوبهم .
استعمل القادة الجزائريون المتعاقبون السياسة الخارجية بشعاراتها الرنانة السالفة الذكر والمغلفة برمز عدد الشهداء والطابع العقيدي الوطني الثوري، كورقة رابحة لكسب الشرعية السياسية عبر تحقيق الإجماع الداخلي عليها كأولوية تعلو على القضايا الداخلية، باعتبار الجزائر أرض الشعوب المضطهدة والمظلومة وحاملة هموم شعوب العالم.
لم تصمد هذه الإيديولوجيا طويلا لتنفجر في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات، عقب صدمة فوز قوة جديدة بشرعية سياسية وشعبية تجاوزت شرعية زعماء جبهة التحرير الوطني، فدخلت البلاد في عشرية سوداء عنوانها الدم والقتل مخلفة مئات الآلاف من القتلى والمفقودين والضحايا والمعتقلين، معلنة نهاية شعار الإجماع الوطني الداخلي الذي حكمت به البلاد منذ الاستقلال، ووضعت الجزائر في معزل عن الساحة الدولية.
تزامنت هذه الحقبة السوداء، مع متغيرات جذرية طرأت على المشهد الدولي منذ انهيار الاتحاد السوفياتي والتحولات العميقة في دول أوربا الشرقية وهيمنة القطب الواحد، دفعت النظام العسكري بالجزائر إلى الاستعانة بأحد رموز السياسة الخارجية الجزائرية وأنشط دبلوماسييها لتقلد منصب رئيس الدولة في شخص السيد عبد العزيز بوتفليقة. فشكلت تجربته لحظة فارقة في التاريخ السياسي الجزائري المطبوع بحداثة سنه، والتي امتدت إلى عشرين سنة تميزت بغلبة الطابع الشخصي، الكاريزماتي والبراغماتي لبوتفليقة على كل أصعدة السياسة الجزائرية داخليا وخارجيا، بدءا بمعالجة مخلفات وتبعات الحقبة السوداء والتركيز على الوضع الداخلي عبر سياسة الوئام المدني والبعد الاجتماعي والانغلاق الداخلي والبعد الأمني في مواجهة التحولات الإقليمية التي سميت بالربيع العربي والمآلات التي آلت إليها في دول الجوار الشرقي للجزائر في كل من تونس وليبيا، وتأثير هذه الأخيرة على دول الساحل وجنوب الصحراء.
وأمام هذا الوضع ومع ذلك، حاول بوتفليقة أن يحضر الجزائر في المحافل الدولية عبر لعب دور الوسيط في النزاع الإثيوبي الإريتيري سنة 2000، وفي أزمة الساحل الإفريقي في 2015، وفي لم شمل الدول المصدرة للنفط في اجتماع الجزائر 2016 ، وأن يجنب الجزائر أزمات دبلوماسية حادة مع الدول الإفريقية والعربية والدولية، واحتفظ على الأقل بما هو ممكن دبلوماسيا وفق الظروف والمتغيرات.
جاءت مرحلة الرئيس عبد المجيد تبون مخالفة لكل الرئاسيات السابقة، فهي وليدة أزمة مجتمعية كان الحراك الجزائري أحد تعبيراتها الأساسية، وجاءت التفافا واضحا عن مطالب شباب الحراك في الديمقراطية والحرية والكرامة ورفض العهدة الخامسة للرئيس بوتفليقة المفروض بدون إرادته نظرا لحالته الصحية الميؤوس منها، وجاءت كذلك برجل لم يكن يحلم يوما ما بالوصول إلى رأس السلطة في حضور رموز أكثر قوة منه، بل كان توليه لهذا المنصب نتاج صراعات القوة في هرم الجيش الجزائري بين القايد صالح وسعيد شنقريحة.
وجدت القيادة الجديدة نفسها، جيشا ورئاسة، أمام أزمة حقيقية على الصعيد الداخلي تتطلب اتخاذ إجراءات ترمي إلى إرضاء الشارع الغاضب عبر التضحية ببعض رموز النظام المحسوبين على الرئيس بوتفليقة من خلال محاكمات تتطلبها الظرفية والمصلحة، كما وجدت نفسها على صعيد السياسة الخارجية أمام تراجع المكاسب الدبلوماسية مع تراجع الإجماع حولها من خلال الأصوات المعارضة لخياراتها، وتجلى هذا التراجع في الحضور الباهت، فعالية ومبادرة، في الفضاءات من قبيل القارة الإفريقية والمنطقة العربية، وتراجع الحضور في أمريكا الجنوبية والمنظمات الدولية. استدعى هذا الوضع من القيادة الجديدة محاولة تدارك هذا الوضع، إلا أنهم ابتعدوا كما عادتهم عن قواعد علم العلاقات الدولية بما يتطلبه من نهج الواقعية السياسية وتزاوجها مع البنائية الاجتماعية كمنهجين في علم العلاقات الدولية يحددان نجاعة الدبلوماسية في عالم متغير، ونهجوا العشوائية والتخبط واللحظية والتيه.
تعيش الجزائر أواخر العهدة الأولى للرئيس عبد المجيد تبون على وقع مشاكل دبلوماسية مع العديد من الدول، وخاصة بالجوار الجزائري، لم تعهدها الجزائر من قبل، ومرد ذلك إلى عداء عبد المجيد تبون باعتباره رأس الهرم الدبلوماسي بالجزائر والمؤسسة العسكرية بقيادة سعيد شنقريحة- التي صارت في عهده طرفا أساسيا في السياسة الخارجية لأول مرة في دستور 2020، الذي حظي بمقاطعة غالبية الشعب الجزائري- للبعد الدبلوماسي في حل المشاكل المستجدة.
حظي تكييف مبدأ حسن الجوار الذي تضمنته كل دساتير الجمهورية الجزائرية منذ الاستقلال تكييفا عشوائيا بلا خلفية فكرية نقدية متأصلة، بسبب اعتباره أحد عناصر أزمة الدبلوماسية، ما دفع بصانع القرار الجزائري، أن يسقط في قرارات تمس بالمباشر سيادات العديد من الدول، وخرقا لمبدأ طالما تبجحت به الجزائر، وهو ما جعل وزارة الخارجية الجزائرية في العهدة الأولى لتبون يرأسها ثلاثة وزراء ( صبري بوقدوم، رمطان العمامرة وأحمد عطاف)، بالإضافة إلى سبعة مساعدين لوزير الخارجية من بينهم السفير عمار بلاني مكلف بقضية الصحراء المغربية، وجعلوا من العداء والتربص والتصيد للسياسة الخارجية المغربية أولوية قاتلة، دفعت بالجزائر إلى الوقوع في أخطاء استراتيجية بليدة مع كل من إسبانيا لتقاربها مع المغرب، مع تهديد لفرنسا في أية خطوة إيجابية مستقبلية مع المغرب، ويبدو أن قرار وزير التجارة الخارجية الفرنسي بالاستثمار في الصحراء الغربية المغربية سيزيد المشكل الجزائري الفرنسي حدة، مع الإمارات العربية المتحدة لمواقفها المتقدمة من قضية الصحراء المغربية، مع مالي في تدخل سافر في الوضع الداخلي المالي، واللعب على تغليب كفة طرف على آخر، إلى حد انتقاد القرارات الداخلية للماليين وضد أي تقارب مالي مغربي، مع النيجر بشكل لا يمكن تفهمه دبلوماسيا. ناهيك عن إضعاف صورة الجزائر دوليا من خلال الخرجات غير المحسوبة لعبد المجيد تبون إعلاميا، والذي يصرح بدون حذر خلال زيارته مثلا للكويت ” نحاول الاقتراب منهم والدفاع عنهم، وما يمسهم يمسنا، ومن يمس الكويت أو قطر أو السعودية كأنما مس الجزائر، فلن نقبل بذلك أبدا”، وكأنهم دول لقيطة تطلب وتتوسل، كما يصرح وينسب عمل المجموعة العربية بالأمم المتحدة إلى الجزائر، وينسب قبول الصين للأمم المتحدة إلى الجزائر، في الوقت أن المطلب الأممي كان بفعل الجزائر وألبانيا و 23 دولة أخرى، وينسب المطلب الفلسطيني العربي بالعضوية الدائمة بالأمم المتحدة للدبلوماسية الجزائرية، كما يعتبر أن المصالحة بين الفصائل الفلسطينية تمت بالجزائر في حين أن الفصائل مازالت على نفس الوضع، وزاد تأزما في حرب غزة، والتهكم والضعف في قراءة عدم قبول الجزائر في منظمة “البريكس” في الوقت الذي أضيفت دول أكثر مصداقية، كما أن اللعب بورقة تخصيص مليار دولار لفائدة الوكالة الجزائرية للتعاون الدولي من أجل التضامن والتنمية موجهة لتمويل مشاريع تنموية في الدول الإفريقية، من مداخيل اقتصاد الريع النفطي والغازي، صار متجاوزا ومرفوضا في إفريقيا، التي تنقلب يوميا على نفس التعامل الذي كان معتمدا من الدول الاستعمارية السابقة.
يغيب في علم صناع القرار الجزائري الحاليين غيابا نهائيا، أن السياسة الخارجية لا تمارس وفق الهوى، بل تخضع لضوابط التوازن لأركانها المتمثلة في الثلاثي: الأمن والدبلوماسية والتنمية، وأن تحقيقها ينبني على تكريس عملي واقعي ينطلق من تاريخ وتقاليد وأعراف العمل الدبلوماسي سواء التاريخ الشخصي وهو ما لا تتوفر عليه الجزائر، نظرا لحداثة الدبلوماسية الجزائرية ونهجها الأحادي منذ الاستقلال والمتجاوز، نظريا وسياسيا، بفعل التحولات والتغيرات الدولية، أو التاريخ الدبلوماسي الدولي كتاريخ عبر ودروس، وهو ما لايريدون الانفتاح عليه، مما يعطي الانطباع بعدم المسؤولية والمشروعية والمصداقية في قرارات السياسة الخارجية الجزائرية، التي دفعت مجانا بجزء من سكان جغرافيتها إلى المطالبة بالاستقلال والانفصال عن الدولة الجزائرية، والدفع إلى افتعال قضية صبيانية مضحكة حول قميص فريق محلي مغربي يتضمن خريطة المملكة المغربية، ومحاولة السطو على رموز وأشكال حضارية لا تمت بصلة للجزائر لإضفائها على الهوية الداخلية والخارجية للجزائر من قبيل الزليج والقفطان المغربيين.
يبدو أن العهدة الثانية لعبد المجيد تبون ومن معه، مرحلة وفرصة مهمة جدا للوقوف على مكامن الخلل في السياسة الخارجية، وتجاوز كل العوائق الذاتية والنفسية وتقييم العهدة الأولى، بمنطق استشراف أرحب ينحو نحو علاقات دولية وعلاقات جوار تسمح بالتعاون، وإيقاف نزيف العبث والبحث عن مسالك وقنوات للتواصل الرسمي الإيجابي للانطلاق نحو حلم شعوب المنطقة في التنمية والازدهار.

الكاتب : رشيد قنجاع - بتاريخ : 26/04/2024

التعليقات مغلقة.