الفنانة «الشريفة»، الظاهرة الصوتية التي سحرت محمد رويشة بصوتها

لا شك أن الفنانة كرسيت الشريفة، سوف تبقى شخصية غنية خصبة متعددة الجوانب، لأنها لم تكن فنانة اعتيادية أو مؤدية تقليدية، بل كانت زمنا إبداعيا شاملا يتطلب وقفة أكثر تفصيلا للتعرف إلى الأسباب والمقدمات العميقة لتلك الظاهرة الصوتية غير المألوفة في زمن الفن التقليدي.
ولادتها كانت عام 1967 بقبيلة أيت علا، ايت لحسن اوسعيد ، (بالحجرة المثقوبة) التي تبعد عن مدينة خنيفرة حوالي 5 كيلومترات في اتجاه كهف النسور. والدها علي، والدتها فاظمة بنت حدو. عشقت الغناء منذ طفولتها، وكانت لها ذاكرة قوية مكنتها من تخزين عشرات الأغاني، في سن مبكرة، و التي كانت ترددها بين نفسها، في أماكن خالية تختارها للغناء خلسة. مما جعل دواخلها تغلي بالأنغام، كانت الحفلات العائلية مناسبة لإبراز موهبتها الغنائيّة، وفِي ذات الوقت كانت ترافق والدها لحضور حفلات ذكرى عيد العرش المجيد التي كانت تقام بساحة (أزلو)، بخنيفرة، فكانت فرصتها للغناء في أكثر من خيمة، وهذا ما عمق أكثر و لعها بالغناء.
وعندما اكتشف والدها أنها تميل إلى الغناء، اتخذ القرار بتزويجها لأحد الرجال، وهي في الثالثة عشر من عمرها، مما دفعها لمغادرة مسقط رأسها متوجهة إلى بيت اختها بحي (تيعلالين) بخنيفرة، وهناك التحقت بالفنان محمد اوطلحة، من أجل تحقيق ذاتها في الحقل الفني، فقدمها هذا الأخير لمحمد رويشة، وأعجب بصوتها وحيويتها وخفة ظلها، حيث وجد فيها تلميذة مطيعة راغبة في المعرفة، و دمغ صوتها ببصمته الموسيقية ذات الجذر العميق، وسكب أعذب الألحان و أهم تجلياته الفارقة في صوتها الحامل، بل الحاضن لتلك الملاحم الموسيقية عميقة الغور في التاريخ.
جعلها محمد رويشة، أبرز صوت ضمن تشكيلته، عندما ظهرت معه عام 1981، في شريطين من انتاج المركز المغربي لتوزيع الاسطوانات (تشكافون)، بالدار البيضاء، الشريط الأول تحت رقم 764 الذي يحتوي على القطع الأتية: (الوردة و علاش خالفتي وعدي)، (شحال عديت من الهموم)، (عيت النسول عقلي عاش مهول)، (ياغزالي وحرام عليك).
والثاني أمازيغي تحت رقم 765 يحتوي على القطع الآتية : (شُوفْ شُوفْ الْمْشْثِيباثْ أَوَيْدَّايْدْ أُمَزَانْ أَوَانَّانِي إِدَّا وْسْمُونْ أَر إِتْبْدَّال إِمِيزَارْ أَرْثَامَا يْمْعِدَانْ وَرَرْثِيدْ أَسيدي رْبِّي دْزْمَانْ أتْنْ عَدَانْ)، (اثخثنش اوناريخ)، ( اثيطينو وخا ذا تروث إمطي). من منا لم يتغن برائعة (الوردة وعلاش)، أو داعبت وجدانه أغنية (شحال عديت من الهموم)، أودغدغت مشاعره قطعة (ياغزالي وحرام عليك ) وغيرها من الروائع التي شكلت جزءا من الحضور الفني المتميز للفنان محمد رويشة، مع الفنانة الشريفة، في المشهد الغنائي، منذ الثمانينيّات من القرن الماضي، و مزال صوتها الأمازيغي القح مصرا على مواصلة العطاء.
وبدأ كل من محمد رويشة ، محمد أوطلحة، الشريفة، يتحولون إلى ظاهرة غنائية فريدة تتجاوز حدود الزمان و المكان و الأرض. و لم تكون الفنانة الشريفة، بالنسبة لمحمد رويشة، مجرد صوت آخر يغريه بالتفوق، ولا مجرد مغنية، فهي ظاهرة غنائية، لأنه مكنها من اكتساب المزيد من القدرة على التحكم في صوتها القوي وعلى زيادة مرونته وتحسين مهارتها الفنية بهدف الوصول إلى التوافق بين صوتها وبين معنى النص واللحن. وفِي نظر من كانوا يقدرون الفن الأمازيغي من خلال هذه التسجيلات ان صوتها يبشر بمستقبل باهر.
فبدأت الشريفة تتعرف على أهل الفن، وتوسعت دائرة تعاملها لتشمل العديد من مبدعي الأغنية الأمازيغية الكبار منهم محمد مغني، صاحب الحنجرة الذهبية وصانع الألحان، حيث تألقت معه، واستطاعت أن تبحر في عوالمه المترجرجة وموسيقاه الأقرب إلى روح ، ومن حسن الحظ أن بعض التسجيلات لبعض لحفلات الخاصة المتوافرة، يلاحظ المستمع علاقة الفنانة الشريفة بالأداء، أنها كانت تغني بكل أحاسيسها حتى يبدو للناظر أن الصوت الصادر عنها لا يخرج من الفم فقط، بل من كل أعضاء الجسد، وهذا يدل على الثقافة الصوتية العميقة للفنانة الشريفة، فهي تنزاح إلى واحات تعبيرية مداها الشجن و الفرح و الحزن و الآهات. تجربتها مع محمد رويشة، و محمد مغني، وغيرهم أثبتت قدرات استثنائية في التعاطي مع مختلف الأنواع الغنائية و اللحنية.
كان لنا الشرف بالحضور حفل عقيقة (أحمد الله رويشة)، يوم 7 يناير 1989، وهي من أجمل الذكريات التي جمعتني شخصيا بالفنانة الشريفة، في بيت المرحوم محمد رويشة، وأجمل ما في اللقاء هو الاستمتاع بهذه الجلسة الفنية الممتعة بغناء الفنانة الشريفة، وعزف محمد رويشة، حيث قفزت إلى ذهنه أغنية وهي( أَوَا وُنَّا مثعجبْ أَيْمَا)، ولم يتردد في احضار آلة الوتار، وشرع في تأديتها بصوته الدافئ و الهامس، و بأسلوبه المميز في مغازلة الأوتار، ولم يكد صوت الشريفة، يخرج من حنجرتها حتى توقف الضيوف عن الكلام وساد صمت تام. فأبدعت في الغناء، وأبدع محمد رويشة، في عزفه أيما إبداع، وانتبه الضيوف إلى غنائها و تركت انطباعا لا يمحى.
أقول بصراحة لم يجتمع الجمهور الأمازيغي بالأطلس المتوسط على نسيج فني في عمرهم، كما اجتمعوا على نسيج (محمد رويشة) و (الشريفة)، و لَم تستيقظ عواطفهم و توهجت قلوبهم كما استيقظت و توجهت على أنغام موسيقية الذي بكى عليها محمد رويشة، وتأوهت عليها الشريفة! كانوا يشكلون ذالك الوجود الفني المتجانس، المتلاحم.
حققت الفنانة الشريفة، تجربة كبيرة مع محمد رويشة، لأن صوتها ظاهرة فريدة في تاريخ الغناء الأمازيغي بالأطلس المتوسط، و يخطئ من يفترض أو يظن بأن صوت الشريفة ما كان يستطيع أن يتربع على عرش الغناء لولا محمد رويشة، لأن خصائص صوتها هي التي أبدعت الشريفة، توطنت إرادتها القوية على الإنضباط الذاتي وتقويم النفس، وكان لذلك أبعد الأثر في نجاحها في السنوات التالية.
وقد تذكرت وأنا أنتزع من ذاكراتي شذرات عن لقاءاتي المطولة مع المرحوم محمد رويشة، أن وجدت في نفسي شجاعة أن اسأله عن رأيه في صوتها، وضعت آلة التسجيل أمامه لتلتقط هذا الحديث، فبدأ صاحب رائعة “إيناس إيناس” رقيقا وكانت كلماته تنساب هادئة، مثل المقدمة الموسيقية لهذه الأغنية وهو يقول : ” الفنانة الشريفة عندها إحساس عجيب في الأداء لها طابع خاص في الأداء وصوتها القوي يحمل نكهة خاصة، وهي تختلف تماما عن مثيلاتها حضورا وأداء وفهما للحن، صوتها جميل جدا وحساس للغاية، ولكن فيه مقامات لم نحسن نحن العازفون في إظهارها”. فإقترح علي إيقاف آلة التسجيل ليبوح لي بسر، يفضل الا يعرفه القراء.
لا تزال آلة التسجيل تلتقط التفاصيل ومازال فضولي يزداد اتساعا، أن محمد رويشة، مات حانقا على بعض المغنيات حيث قال: “فهم يتكلمون وليس في صوتهم أي تطريب، صوت قوي بلا فرامل، الشريفة في صوتها طاقات لم تظهر بعد”.
وتقول الشريفة بدورها أيضا : ” الفنان الوحيد الذي كنت ارتاح إليه، هو محمد رويشة، كان يعرف إمكانات صوتي أكثر من غيره”. و أقول بصراحة أن محمد رويشة، كان يعرف اللحن المفعم ليناسب طاقاتها الصوتية و النبرة الرهيبة، ومن المؤسف، ان الطلاق الفني قد وقع فعلا بين محمد رويشة، و الشريفة، وأنا لا أفهم لما لا تترك الخلافات الشخصية جانبا، إن انفصالهم عملية سلبية تزعزع الوحدة الفنية الغنائية الموسيقية التي كانت قائمة بينهم، والتي أنتجت أعمالا فنية عظيمة، سواء على صعيد الاغنية الأمازيغية، أو على صعيد الأغنية الشعبية، أو على صعيد أي عمل فني هام.
إن هذا الإنفصال غير مقبول ولا نرتضيه، كنّا ننتظر الكثير من العطاءات الفنية. حيث كانوا يشكلون وحدة فنية متكاملة، الشريفة الصوت و الأداء ،محمد رويشة العزف و الكلمة الرائعة، والإنفصال الفني لا يجوز بينهم، وهم أحرار ان ينفصلوا حياتيا أو إجتماعيا، لكن هذا لا يمنع أن يحققوا المزيد من قدراتهم الفنية على الرغم من أي ظرف، ففنهم ليس ملكهم، انه ملك العالم كله، ولأن الفنانة الشريفة، تعد ورقة رابحة في أي عمل غنائي، هي تستمر بدونه، و هو كان رحمه الله يستمر بدونها، ولكن من الصعب إن يجد بديلا لها.
اتخذت الفنانة الشريفة، قرار الانفصال عن مجموعة محمد رويشة، عام 1996 وتبدأ في التخطيط لتحقيق ذاتها في حقل الأغنية الأمازيغية، و أسست فرقة غنائية اشتهرت في الأوساط الخنيفرية باسم ( مجموعة الشريفة)، وبفضل مدير أعمالها الدكتور محمد حضري، سجلت حضورا متميزا مع الجالية المغربية في الديار الأوروبية والأميريكية، سواء في الحفلات العامة أو الخاصة والمهرجانات الوطنية والدولية، فتحقق لها أعظم نجاح أحرزته مع التسجيلات الغنائية، ومن أشهرها نذكر: (حَرْكْنْ إِمُورَاگْنْكْ وِينُّو نْمْرارَثْ)، (أَصْبْرْ إِيزِيلْ لَيْتَجَّا أَفْرَاحْ)، (مَايـذَا كْثْيَّا)، (الدُّونيثْ غَاسْ الغْرْ أَيْثْگَا)، (إِيسيدَّا الْحَالْ إِعْفَا مولاْنا)، (أَوَا الفِراق الفراق نْثُوذْرْثْ أَيُّونو أَيْنْغَانْ)، (أُولينُو أشيران مْغَارْ إِثْگيثْ الَعَارْ)، (أَيُولينُّو صْبْرْ إسولْ رَبِّي أَثِيذيكْ الْعْفُّو)، (إِغْنْشَا المْحِبَّة إِوْعَرْ)، (إِيكَا البحْرْ إِنْگْرَاخْ إِبْضَاخْ الْحَالْ)، وغيرها من القطع التي أخضعتها لإتجاهها الإيقاعي الجديد، بأسلوب عصري.
وفِي ذات الوقت تحافظ على أصالة الأغنية الأمازيغية وخصوصيتها، كانت أكثر حلاوة وجمالية و بصوت قوي، متساوي من مداه الغليظ إلى مداه الحاد، بدون انتقالات أو تغيرات مفاجئة ملحوظة. لإنه لا يتغير وقعه على الأذن بسبب تغير المدى في اللحن. فالطبقات الحادة مماثلة للمتوسطة ومماثلة الغليظة، وتحافظ على الجرس الذي يميز صوتها. كان التلوين في نوعية الصوت وسيلة من وسائل الزخرفة و تظهره بالبراعة في أداء فن( تماوايت)، وتحلق بصوتها الأصيل الذي يجعلك تستسلم لتأثيره، فتشعر و كأنك في بيئة تتضوع بريح النسيم العليل العطر، في جو يخالطه خرير مياه نهر ام الربيع وحفيف أشجار الأرز ورائحته لتربة خنيفرة.
ما أثار انتباهي أن مجموعتها لم تعرف، منذ تأسيسها استقرارا، فمع كل مرة كان يطل على الجمهور وجه و ينسحب آخر، غير أن الذاكرة الغنائية المحلية لا زالت تحفظ أغلب الأسماء التي تعاقبت بالعمل معها و منهم: الفنان المساوي رحو، أعدوش عبد الرحمان، العريم عزيز الملقب (بعزيز أَمَالُو)، زرزوقي عبد الرحمان، يونس باعمي، المرحوم محمد العواري، غاسين علي، أوبدة عبد الله وغيرهم.كانت الفنانة الشريفة، دائما حريصة على شهرتها و الغيورة على مركزها في سماء الفن، كالكوكب الذي لا ينبغي لأحد أن ينافسه إشراقا أو يطاوله رفعة. مما جعلها تنال جائزة الأغنية التي يمنحها المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية. لسنة 2008، وبعدها جائزة الخلالة الذهبية بمهرجان الدولي للفنون و الثقافة بالأوداية الرباط عام 2023 . وغيرها من الجوائز لا يتسع المجال لذكرها.
وخلاصة القول إن الفنانة الشريفة، غزيرة العطاء دون اسفاف أو ابتذال، أغانيها يترنم بها الناس من شتى الفئات العمرية، قدمت أجمل و أكبر الأعمال الفنية بثقة واقتدار فني.

(°) أرشيفيست، ومهتم بالأغنية الأمازيغية بالأطلس المتوسط.


بتاريخ : 06/05/2024