الإصلاح ومدوّنة الأُسْرة‮ ‬وفقه الواقع‬‬‬… في المغرب

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr

احترمت‮ ‬الهيئة المكلّفة في المغرب بمراجعة مدوّنة الأُسرة‮، ‬الآجال المعلنة من الملك محمد السادس،‮ ‬وقدّمت إلى‮ رئيس الحكومة عزيز أخنوش ‬مقترحاتها قصد رفعها إلى الملك‮.‬‬‬‬‬‬‬‬ وطوال المدة الفاصلة بين تشكيل اللجنة في‮ ‬الشهر الماضي (مارس)، ‬والإعلان عن انتهاء مهمتها،‮ ‬تزاوج الانتظار بالفعل،‮ ‬ورافق أحدهما الآخر‬،‮ ‬من خلال توقّعات المواطنات والمواطنين، ‬من جهة، والاستماع إلى كل تيارات المجتمع وأطره وهيئاته، ‬من جهة ثانية. ‬وفي‮ ‬مجالات الإصلاح‮ ‬يحسُن أن تنتظر الشعوب‮‬،‮ ‬وهو خير من أن تحسم تلك الإصلاحات لفائدة اليأس. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
كان العاهل المغربي‮ ‬قد أعطى لهذه اللجنة مدة ستة أشهر لإجراء ‬كل المشاورات،‮ ‬ثم صياغة المقترحات التي‮ ‬ارتأت أنّها تشكل نقاط تقاطع واسعة بين المساهمين في‮ ‬النقاش العمومي،‮ ‬والاستشارات المعمّقة، ‬بكل الأشكال والصيغ‮،‮ ‬المباشرة وغير المباشرة‮. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ولعلّ‮ ‬اللحظة‮ ‬غير مسبوقة‬،‮ إذ إنّ الذي‮ ‬تسلّم المقترحات هو رئيس الحكومة،‮ ‬باعتباره ممثل القوة الانتخابية،‮ ‬وهو‮ ‬غير رئيس اللجنة المعيّن‮ ‬من الملك‮‬، ‬كما في‮ ‬السابق، وهو تحوّل‮ ‬لا‮ ‬يقف عند البعد‮  ‬التواصلي‬،‮ ‬بل‮ ‬يتعدّاه إلى استحضار التمثيلية الوطنية في‮ ‬هذا الباب‮. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬في‮ ‬السابق، كان الملك‮ ‬يتوصل إلى خلاصات‮ ‬الأشغال من رئيس اللجنة ‬التي‮ ‬عيّنها الملك، فيبدو‮ الأمر امتداداً للسلطة الملكية، في‮ ‬حين تبقى‮ ‬جميع المكونات الأخرى‮‬،‮ ‬بما فيها الحكومة، مجرّد قوة اقتراحية استشارية،‮ ‬تصنع في‮ ‬النهاية رقعة التوافقات الممكنة، وتأخذ بالاعتبار‮ في ‬تجاوز أي‮ ‬استعداد ممكن‮. ‬وهو أسلوب جرى تفعليه في‮ ‬قضايا كثيرة ذات الحساسية التي‮ ‬تهم المجتمع،‮ ‬كما حصل في‮ ‬قضية الجهوية،‮ ‬وفي‮ ‬تعميق النظر في‮ ‬النموذج التنموي‮ ‬الجديد وفي‮ ‬قضايا الدستور منذ عقد.
صحيحٌ أنّ التعديل الحالي،‮ ‬بما هو تعديل داخل تعديل سابق‬،‮ ‬لن‮ ‬يتطلب كثيراً من التمارين ‬في‮ ‬التوازنات واجتراح التسويات‮‬،‮ ‬ولكن مع ذلك، وبالنظر إلى ما رافقه من تدافع‬،‮ ‬يبدو أنّ أفق الانتظار‮ ‬يختلف‮ ‬بين مكوّنات المجتمع،‮ ‬التي‮ ‬ستحتكم في‮ ‬النهاية إلى القرار الملكي‮. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ولهذا، فإنّ الخطوة الموالية‮ ‬لتسليم العمل المطلوب ‬عرضه على النظر الملكي،‮ ‬ثم اتباع المسطرة‮ التشريعية داخل البرلمان‬،‮ ‬كما في‮ ‬الإصلاحات السابقة. ‬‬‬‬‬‬وهنا تكون مأسسة الحوار،‮ ‬من خلال المؤسّسة التشريعية ضرورة لتأطيره ولتحديد إسقاطات الإصلاحات على النصوص والواقع معاً‮. ‬في‮ ‬الجانب آخر،‮ عملت اللجنة،‮ ‬ومَنْ‮ ‬شاورتهم في‮ ‬الأمر على قاعدة أنّ الأمر‮ ‬يتعلق بتعديلات محددة المجال،‮ ‬وبوعي‮ ‬مسبق بأنّها لنْ ‬تغيّر من قاعدة المرتكزات التي‮ ‬تم تحديدها في‮ ‬التعديل الأول‮ ‬منذ عشرين سنة، وأنّ التعديلات الجديدة محكومة بفقه الواقع وما‮ ‬فرضه من نواقص وهنات هي‮ ‬من صميم المعيش اليومي،‮ ‬الذي‮ ‬يقلّص من كرامة النساء، ‬ويعطلّ دور الأسرة ناظماً مركزياً ‬في‮ ‬تحديد التماسك المجتمعي، ‬ويعلّق مقاصد الشريعة في‮ ‬هذا الباب‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‮‬ولعلّ تأصيل النظر والعمل معاً،‮ ‬محكومان بالفصل‮ ‬19‮ ‬من الدستور المغربي ‬كما توافقت عليه مكونات الأمة‮. ‬وهو فصل ينصّ‮ على: «‬يتمتّع الرجل والمرأة،‮ ‬على قدم المساواة،‮ ‬بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية،‮ ‬الواردة في‮ ‬هذا الباب من الدستور،‮ ‬وفي‮ ‬مقتضياته الأخرى،‮ ‬وكذا في‮ ‬الاتفاقيات والمواثيق الدولية،‮ ‬كما صادق عليها المغرب،‮ ‬وكل ذلك في‮ ‬نطاق أحكام الدستور وثوابت المملكة وقوانينها‮. ‬تسعى الدولة إلى تحقيق مبدأ المناصفة بين الرجال والنساء‮. ‬وتُحدث لهذه الغاية،‮ ‬هيئة للمناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز».‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ ما نستشفّه من هذا التذكير أنّ هناك ما هو في‮ ‬حكم المتوافق عليه بل مما تأخر المغرب‮ ‬في‮ ‬تنزيله، كما هو حال استكمال الهندسة الدستورية ذات الصلة‮ ‬والواردة في‮ ‬الفصل‮ ‬المتحدث عنه أعلاه‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‬ويعتقد كاتب هذه السطور أنّ هذا الأمر‮ ‬ينتظر فقط تشكيلة الهيئة المنصوص عليها دستورياً‮. ‬ولعل الإعلان عنه،‮ ‬سيستتبع مسطرة النظر الملكي،‮ ‬التي ستنظر، من زاويتي‮ ‬إمارة المؤمنين ورئاسة الدولة‮‬،‮ ‬إلى ما تقدّمت به اللجنة‮ ‬ومدى‮ ‬توافقها مع إرادة الإصلاح من جهة، والحفاظ على ثوابت الأمة‮؛‮ ‬حلالها وحرامها، من جهة ثانية‮. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ولعلّ دَسْترة‮ ‬المساواة ‬كما هو في‮ ‬الفصل 19 ‬قد أصَّل‮ ‬مغربياً لإصلاح بعيد المدى في‮ ‬أفقه وبسقف عالٍ في‮ ‬الواقع،‮ ‬سيمسّ القضاء‮ ‬والعقلية الذكورية فيه‮ ‬حتى لا‮ ‬يخضع تصريفه في‮ ‬كل مرحلة من المراحل‮ ‬لموازين القوى بين التأويليتين: ‬المساواتي‮ ‬والمحافظ‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ وقد‮ ‬يحتمي‮ ‬هذا الأخير‮ بـ»منطق عتمة‮» ‬في‮ ‬الدستور،‮ ‬أكثر ما‮ ‬ينفتح الطرف الآخر على مساحاتٍ أخرى ترد في‮ ‬مضمر إيحاءاته‮. ‬‬‬‬‬‬‬‬ولعلّ المفارقة في‮ ‬المحاججة هو‮ ‬أنّ الإصلاح‮ ‬يتغذى‮ ‬من ‬الواقع اليومي‮ ‬بما تحقق فيه، ‬ليسعى بعد ذلك إلى‮ ‬فتح الباب أمام إنجازات أخرى تمتح من دساتير الموجة الثالثة، كما صرنا نقول، أي‮ ‬تلك التي‮ ‬تركّز على ‬الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والديمقراطية‮. ‬‬‬وفي‮ ‬سجلّ الإصلاح‮‬،‮ ‬هناك مستويات التدافع المجتمعي‮ ‬ولا شك،‮ ‬ولكن في‮ ‬المستوى الأعلى نجد إمارة المؤمنين،‮ ‬وهي‮ ‬مركزية في‮ ‬بناء الاجتهاد‮ ‬وفي‮ ‬تمنيع الحداثة ومغربتها ‮(‬حتى لا تكون عنفاً رمزياً) ، ‬ولعلّنا لن نجانب الصواب إذا استحضرنا في‮ ‬هذا السياق أن الاجتهاد العام والنصوص والقوانين‮ ‬والالتزامات تتحرك في‮ ‬مجال دلالي‮ ‬محكوم بمعادلات‮ «‬مجتمع‮ ‬يؤمن بإجماع أفراده بأولوية الدين على القانون»، ‬وهو ما‮ ‬يعطي‮ ‬للاجتهاد في‮ ‬هذا الباب بعداً حضارياً في‮ ‬الواقع وتوفيقياً بين محددات الانتماء إلى عصر الكرامة،‮ ‬من جهة، واحترام ثوابت النص الديني‮، ‬من جهة ثانية‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‮‬في‮ ‬هذا السياق، تبدو بعض‮ «الاستعراضات‮» ‬التي‮ ‬تهدّد بحرب أهلية‮ (‬كذا‮) ‬غير ذات بال حقاً‮: ‬فهي‮ «‬تستعير» ‬خطراً لا‮ ‬يوجد‮ ‬بفعل أن خطاب الملك الأصلي‮ ‬في 2022، ورسالة التكليف، قد فككا أي‮ ‬قنابل محتملة في‮ ‬هذا الباب،‮ ‬كما أنّ الملك‮ ‬أمير المؤمنين هو نفسه ضمانة في‮ ‬إعمال‮ «‬العقل‮ ‬والنقل» ‬بما‮ ‬يخدم الدين والتديّن،‮ ‬والمتدينات والمتدينين، ‬والدفع بأنّه من دون خدمتهن وخدمتهم لا‮ ‬يكون‮ ‬هناك معنى للتدين. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬لا شك أنّ موازين قوة سياسية دينية تتفاعل في‮ ‬دينامية هذا الإصلاح،‮ ‬ولعلّ من حسناته أنّها لم تعد قادرة على كبح التحوّلات الرزينة والضرورية لتغيير الواقع المعيب‮ ‬في‮ ‬أحوال الأسرة المغربية‮.‬‬‬‬

نشر بالعربي الجديد

الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 03/04/2024

التعليقات مغلقة.