سحرية المجهول في رواية محمد الهرادي

منذ رواية «أحلام بقرة»، رسم محمد الهرادي عوالمه التخييلية على الغريب و العجيب، بل أكثر من ذلك قام بتجديد آليات الكتابة لقول ما لا تستطيع الرواية المغربية و العربية قوله، لذا نحن أمام كاتب منفلت من نظام السرد العربي، بمعنى أن متابعة رواية محمد الهرادي تدفعك إلى حساب أصابعك، لا للتأكد من عددها، بل للخوف من طيرانها نحو آفاق ملتبسة، بمكر جميل يطل علينا من شرفة روايته الجديدة
« دانتي».. رواية تروم الحكي المشتت في الأزمنة و الأمكنة، مثلما تنزع لغتها البليغة إلى طيات لا متناهية، في كل طية تفتحها، إلا و تنغلق من جديد. هكذا تسلمنا نحو الحفر في كل شيء، و لا شيء. و كأنها تحمل في كل الطيات ألغاما سريعة التفجير. إنه يمارس علينا حرب عصابات في الحكاية و اللغة، و هو لذلك يبقى حالة نادرة في السرد العربي. قد نقول بدون مواربة إن هذه الرواية متروكة لمستقبل قرائها، أي أن قارئها المنمط لا يستطيع متابعة تفاصيلها، و هو لذلك لا يرغب في صداع حواسه، الشيء الذي يجعل الرواية تقوم بإعادة تربية حواس قارئ محتمل . فلا مجال لقراءتها وفق نظام معلق في بلازما الذاكرة، و لا حاجة لمتابعتها من خلال أنموذج معطى. إن الكاتب يخلخل النظام و الأنموذج، و يسخر من تضاعيفهما المتعددة في الطرق المفتوحة للقراءة.

 

يضع الكاتب قراءه بين الغريب و العجيب. لا ليحلق في المجهول، بقدر ما يضعه موضوعة روائية مائزة، حيث يكون للمجهول حدود في المكان و الزمان، وحيث يتحلل الأول ليكون فراغا تسبح فيه شخوص الرواية، و حيث يكون الزمان مشتتا صعودا و نزولا، و كأننا أمام نص روائي يعلق السرد بين المكان والزمان أو ماوراءهما. هذا الماوراء هو المجهول عينه. حيث يكون هذا الأخير حديقة الحواس، في كل ركن تشحذ حاسة مغيبة فيك. لا لتري الغامض واضحا و الجحيم فردوسا، و دانتي ريفيا، و إنما في قلب النظر و جعله ملتبسا. بمعنى أن الكاتب برع في تشكيل الالتباس ليكون بلاغة نصه الروائي. هنا يتعالق المجهول بالملتبس في لزوم راقص. إنه تعالق مؤانسة يصبح متعة فارقة، لا يفيد اللبس هنا المغلق بالحديد و النار، و لا يعني المجهول ضياعا يروم الأول، إنما الدهشة و الاندهاش، حيث تكون الدهشة جسرا لتظهير الملتبس، في حين تضيع الشخوص في مجهولها، و تقوم بتحريض المحاولة لبيان نقيضه، و كأننا أمام حكايا مغسولة بهذا الذي يكون ملتبسا و مجهولا، ولأن كل واحد يدعو نقيضه، فإن الكاتب لا يضعهما عزلة قصية، بقدر ما يجعلهما يرقصان و يترنحان بنبيذ متخيل، بمعنى أن ربط هذا العمل الروائي بنبيذ المرحلة أمر غير مستساغ، فكاتبنا يسقي عالمه التخييلي بنبيذ في الماوراء. ماوراء الخير و الشر. ما وراء الواقع، الواقع الآخر. و بين هذا و ذاك يظهر دانتي بالألوان. حيث لم يعد تصيره بالأبيض و الأسود ممكنا. إنه يتسلل إلينا بمزحة فارقة. ينتقل من المعلوم إلى المجهول. ماذا يعني ذلك ؟ في نص جميل لعبد الفتاح كيليطو يتساءل فيه العلاقة بين المعري ودانتي، وبالضبط عن علاقة الثاني بالأول، والعكس صحيح تماما، ونحن بدورنا نعيد السؤال بمكر جميل عن علاقة محمد الهرادي بدانتي. هل العلاقة محددة في « الكوميديا الإلهية» أم أنها تتعدى ذلك، وتصبح علاقة حميمة تحضنها مقهى بيتزيريا دي روما، و شارع العلويين. كيفما كان نوعها فهذه الرواية حاضية لوشيجة متخيلة بينهما، ربما وجد الكاتب في دانتي عوالم ثورة الريف، أو ربما أضاءت الكوميديا الإلهية أسئلة الوجود و العدم عند كاتبنا.
واضح إذن أننا نبحث في ما لا يعنينا، ذالك أن الكاتب لا يكذب على قرائه ، فهو من الصفحات الأولى يقدم لنا بورتريها خاصا لدانتي الذي نعرفه، مثلما يستضيف شخوصا نعرفهم، أو على الأقل درسناهم في كتب التاريخ. أما إذا كانت تلك الشخوص لها مرجعية تاريخية، فإن السؤال الذي يستفزنا هو الكيفية التي تعامل الكاتب معها. سؤال يدخلنا إلى مطبخ الكتابة عند الهرادي، إلى ذلك النبيذ الذي يسقي به لغته و فضاءه. لنتأمل الكاتب في مطبخ كتابته. ربما سنجد كتب التاريخ القديم، وكتب أدب القيامة، والكوميديا الإلهية إلى حد ما يخال لنا انمحاء الحروف من تلك الكتب، لتكون سباحتها ممكنة في قنينة الكونياك التي حفظت لنينو حياته، وهي قنينة لا زمن لها، و هي لذلك تسبح بين السماء و الأرض، أو بالأحرى بين حيطان المطبخ، يلاعبها الكاتب تارة، و يتركها تسكر قراءه تارة أخرى. نحن إذن أمام مفارقات مختلفة، لا يستقيم تذوقها بسهولة. بل تفترض ضيافتها صنوفا من النظر .و هذا لا يتأتى إلا بتربية حواس القارئ لتكون الملامسة خفيفة وصادمة، إن هذا هو استراتيجية الكاتب في نظرنا، و التي ترمي إلى إرسال بروق صدامية، إلى حد ما يصاب القارئ بدوخة كبيرة. هل سببها هو دانتي؟ أم كاتبه بالألوان ؟ حتى و إن افترضنا ذلك، فثمة شخوص تخاطر بأسمائها في ما وراء الخير و الشر، تنعش الذاكرة و تسترجع التاريخ، و تسخر على الواقع، و تقوم بحفريات أركيولوجية على ماتم نسيانه في جغرافيا الماوراء الجنة، و الجحيم، والريف، ومليلية، وطنجة، وفاس، وصقلية، وإيطاليا، وغيرها من الأمكنة القصية ، فيما يكون الزمن عكاز طريق . لنشخص الأمر بوضوح في ما يلي:

1 -المجهول في دانتي:

يظهر دانتي عتبة الرواية. إنه الحامل لدلالة عنوان « الكوميديا الإلهية » إنه هو هو، و لأنه كذلك، فالنبش في الفراغ الموجود بينه وبين محمد الهرادي يشكل مفتاحا رئيسا للولوج إلى الداخل، فهو
( أي الشاعر الإيطالي ) يكتب عن العالم الآخر، عن تلك العوالم الثلاثة ( الجحيم، الجنة، و مابينهما ). السارد في هذه الرواية يصعد بنا إلى تلك العوالم حاملا بوصلة دانتي، الملتبس في الحكايا القديمة. يمكننا التساؤل حول شخصية السارد ذاته باعتباره ملتبسا. إنه يحمل اسم إلياس. الشاب المفتتن في جلساته بشرب النبيذ، والمشي على رصيف شارع العلويين بالعاصمة. إلا أنه سيتحول ــــــ بشكل عرضي وبرقي ـــــــ إلى اسم آخر و هو « إيناس »، هذه الكلمة الأمازيغية الدالة على قال، حيث يخال للقارئ خطأ مطبعيا أو ما شابه، لكن تكرار « إيناس » مرتين أو ثلاثا ترمي الخطأ في الهاوية، و تعلن هوية السارد ل «قال »، لنحتفظ بتواطؤ مع الكاتب باسم إلياس. السارد الذي يبحث عن أبيه في العالم الآخر . يتبع دانتي في رحلته المكوكية إلى العوالم الأخرى، مادام السارد عاش يتما منذ الصغر حيث لم يجد غير حكايا متفرقة عن أبيه وصندوقا عامرا بالخرافة. سيلتقي إلياس بأبيه في الجنة، وبينهما سيتعرف على صديق أبيه « نينو » هذا المهندس الإيطالي العاشق للموسيقى و الكلام حين يحرر لسانه بكأسين من النبيذ في « بيزيريادي روما ». والجميل في سردية الرواية هو ترميم فضاءاتها المركبة بين العالم الآخر «الجنة والجحيم» و الواقع المعيش. إنه (أي السارد) هندس روايته بجدلية الصعود و النزول. مرة يرفعنا إلى الأعالي البعيدة عن الواقع و مرة أخرى ينزل بنا إلى شارع العلويين، ينعش هذه المفارقة بين عالم و آخر عالم بعينه، فالأب- مثلا- حين يودع صديقه نينو يدخل بالفرنسية و الإسبانية، بينما صديقه نينو يدخل إلى المقهى ليشر كأسا أو كأسين، و يحمل قنينتي نبيذ إلى شرفة بيته المطلة على السفارة السعودية ( أنظر ص 50-51 ) بينما في ص 15 تكون المفارقة غريبة. يقول السارد « و حين تحل لها حزام السروال وتحترق وجنتاها بنار الشهوة وتتداعى بين ذراعيك كفتيلة مثخنة بالجراح تخاف ويكاد قلبك يقفز من مكانه، و هي التي لا تحب القبل مع إدخال اللسان الأحمر الصغير، وأنت تصلي خلف إمام الجامع و تفكر في اللون البني لعينيها الجميلتين». تعج الرواية الأخيرة لمحمد الهرادي بالمفارقات، كما لو كانت ملحها الباهر، لكن من هو إلياس الذي أضحى إيناس؟ فالأول كما قلنا سابقا يبحث عن أبيه في العالم الآخر، ذلك أن الفقدان يترجم في الحلم، أو بالأحرى أن هذا الأخير يقوم بتعويض المفقود. أي « و أنت يتيم الأب الذي قتلته حرب الريف قبل شهور قليلة، وتشعر بمقتله كل يوم حتى بعد مرور السنوات التي آمنت فيها أنه مازال حيا» ص 14. هذا مجرد حلم، وليس حقيقة، وحتى وإن كان التحليل النفسي يعتبره كذلك. بينما نبي الإسلام يعتبر الحلم من الشيطان. صحيح أن الحلم مسكن الشيطان واللامعنى، بينما الحقيقة سلطة تنكشف في وضوح المعنى. إذا كان الأمر كذلك، فهل السارد يقدم لنا حقيقته، أو أنه يكسوها باللبس والغموض. لقد تواضع فقه القيامة والمأثور الشعبي في كون اللقاء بين الحي و الميت ممكن في الدار الآخرة، وهي فرضية لا يمكن الطعن فيها شعبيا ما دامت كذلك، فإن الكاتب وجد فيها جسرا لبلوغ المعنى. إذ يكون التخييل رافعة رئيسة في الصعود و النزول، السماء والأرض، وهو كذلك يبحث السارد في الصندوق الذي تركه الأب في غيابه. كتابة المذكرات تمحو الغياب وتحضن الحاضر في الزمانين، يوم محدد وآخر مجهول. مذكرات تعكس ما نساه المؤرخ، ثورة عبد الكريم الخطابي ورفاقه.إنه المعلوم الذي افتضح أمره في المجهول، أو بالأحرى إن المجهول الذي قدم الأول النفي و المنفي معا، فالمذكرات ظلت مخبوءة في الصندوق، ولم يعلن عنها السارد إلا في صفحاته الأخيرة. هكذا تنتعش المفارقات بنبيذ متخيل غير قابل لفرز كيميائياته التي صنع بها في المختبر. هذا يحيل على أن رواية محمد الهرادي عصية على المختبرات السردية الراهنة، وهي بذلك تختفي بالتباساتها المركبة.

2 – الالتباس إيقاع موسيقى في الرواية:

إن الالتباس أحد الموضوعات الرئيسة في الرواية، فالكاتب لا يشحذ نحوها، وإنما الفضاء الذي يؤثث عالمه السردي الحافل به. إنها المرق الذي يسقي الحكايا المشتتة في الرواية كالتباسات الزمان والمكان، والتباسات الشخوص. يخيط الكاتب الالتباس بالمجهول، حتى أضحى هذا الأخير ملتبسا. فشخصية السارد كما الشخوص الأخرى مركبة إلى حد كبير، وهذا ما يجعل الإرباك الحاصل في ما تقوله، ومالا تقوله، يظهر ذلك جليا في أكثر الأمور بلاغة من قبيل وبسبب هذا الثالوث المركب ( نينو، الوالد،الخطابي) «تساءلت مرارا إن كان نينو مجرد مرآة أبحث فيها كي أجد ملامحي الخفية، وكي أجد طريقة أتعرف بها على كينونة ذاتي التي لا تستقيم إلا بوجود كل عناصر الصورة مجتمعة « ص 60-61. لا تظهر المرآة بعدا سيكولوجيا لعلاقة الذات بالآخر، وإنما في التشكيل التي تقيمه المرايا لتظهير الالتباس. فدانتي مثلا في العالم الآخر يتمظهر في مرايا متعددة، سواء مع شخوص الرواية، أو مع معشوقته التي يتوسل اللحاق بها في العالم الآخر، بينما شخصيته فيرجيليو تسبح في التباساتها المتعددة. أحيانا « كان فيرجيليو يضيع بين أسمائه وأقنعته المتعددة، فهو مرة يحمل اسم تيتيروس، ومرة أخرى هو مينالكاس، وأحيانا أخرى يتخذ اسم جالوس أو قيصر، أسماء هي بمثابة متاهة داخلية تعشش فيها مخاوفه، وستار لتزيين وتحميل الرغبات يختبئ خلف أسمائه ويطل على نفسه المتعددة» ص 87. لا تشكل الأسماء متاهة صاحبها، بل إن الرواية ترسم المتاهة. قد نحيل هنا إلى نيتشه وبورخيس، ولأنها ترميك إلى المجهول، فإنها مع ذلك تعيد للحواس القيمة و الأهمية. فالكاتب كما قلنا سابقا يقوم بإعادة تربية حواسنا من جديد، ذلك أن المخاطرة الوجودية في متاهات شخوص الرواية تفترض إيقاظ وإشعال جميع الحواس. إذ كيف نفهم عبارة « كما يرزم المرء هفواته الصغيرة» ص 60. إنها تعبر عن تلك العلاقة الملتبسة بين السارد و نينو. أن لم نقل بين شخصية وآخرها، وكأن الآخر مرآة تكشف هفوات. ولأن لهذه الأخيرة أخطاء تستقر في اللاشعور، فإنها تنكشف حين تكون الهفوة تجليا تعبيريا لها. تكشف لنا رواية « دانتي» الالتباس كلعبة سحرية تظهر وتختفي، ففي الصفحة 54 يتساءل القاضي الورياغلي عن دانتي، لأنه لا يعرفه، بينما في الصفحة 155 و 156 يلتقي دانتي بالفقيه الورياغلي في العالم الآخر. بين مجهول دانتي و معلومه يتجلى الالتباس في حدود الزمن، مثلما يختفي في الزمن، وبين هذا وذاك ترفع الرواية التباساتها أقصى درجات الباروديا والسخرية من هذا الذي كان مجهولا. إذا كان الالتباس و المجهول موضوعتين رئيستين في الرواية، فإن الصعود و النزول أضحى جسرا للعبور نحو الواضح و المعلوم.

3 – الصعود و النزول:

إنها أشبه بالجدل الأفلاطوني و الذي يفيد وظيفة الفيلسوف من حيث صعوده إلى الأعلى/ عالم المثل، ونزوله إلى عالمه الأرضي، وذلك سبيل الحكم والقيادة عند أفلاطون. إلا أننا في هذا النص الروائي نجد الصعود مزحة يفترضها الكاتب لبيان عالمه التخييلي، وهو عالم محايث لـ « الكوميديا الإلهية». لا نريد هنا الإحالة على التناص بما هو قول على قول. أو قول بجوار قول آخر. وما إلى ذلك، بقدر ما تنزع الرواية نحو هندسة معالمها في الأرض والسماء و ما بينهما. يليق بنا الآن التوقف عند دانتي وحبيبته بياتريس والتي تتمحور في « ينعش ( أي دانتي) ذاكرته ليتعرف على ملامح صديقته بياتريس، تلك الحبيبة التي لم تحفل به أبدا، ومع ذلك، وهو المغفل، أحبها في الدنيا، وما زال يحبها في الآخرة…» ص 12 ألا يشكل العالم الآخر مرآة للعالم الأرضي؟. إنه كذلك في اللاشعور الجمعي. حيث يكون العالم الآخر تعويضا للمؤمن من الناس حسب الأدبيات الدينية، و لأنه كذلك، فدانتي الذي فقد معشوقته في الأرض سيجدها في السماء بكامل أناقتها وعذريتها، وإغرائها الباذخ. إن قراءة أدب القيامة عند الفقهاء العرب عامرة بهذه الأبعاد التخييلية للفردوس، و لعل ما يسرده السارد في الصفحة 46-77 دال على ذلك، إلا أنه وبسخريته الفائقة يذكر الماركيز دوصاد وحبات الفياغرا. فالأول يشير إلى نهمه السادي للجنس، والثانية ترمي إلى دواء يضاعف الفعل الجنسي وبينهما يحتل الجنس في الجنة مكانة مائزة باعتباره تعويضا خياليا للمؤمن. هذا الأخير الذي يستطيع فض بكارة سبعين امرأة/ حور العين يوميا في الجنة يستحضر الكاتب خيال أدب القيامة في نصه الروائي باقتصاد شديد ودون ذكر مرجعه.
إن الكاتب يفتح لنا حكاياه صعودا ونزولا في الداخل والخارج، ليكون الداخل خارجا، والعكس صحيح تماما حسب موقع السارد، ففي الصفحة 13 و 14 يطل علينا السارد من العالم الآخر فاتحا ذراعيه إلى العالم الأرضي، حيث مادية الجنة، وحيث المآل الذي يفترضه بعد كل سهرة في مرقص ليلي أو شرفة صديق. يقول « وأنت تعلم أن ما تعيشه، بشكل ما، هو جنة حقيقية، جنة فيها حياة من لحم ودم، و فرح، وحزن» ص 14. بهذا المعنى تكشف لنا رواية» دانتي» جدلية الصعود و النزول في الجسد الواحد فهذا الأخير تتنازعه قوتان: واحدة ترميه لاجتياز الحساب السماوي نحو أفق فردوسي ملون بالماء، و الخضرة، والجنس، وأشياء أخرى. أما القوة الأخرى تكون رغبة العودة، والنزول إلى متعه الليلية في الأرض. أو كما يعبر عنها في الصفحة 21 « وجزء آخر كان يتوق إلى المغامرة صحبة دانتي، أو على الأقل، امتلاك فرصة ثانية لاستعادة حياتي السابقة بكل الأماكن والوجوه والروائح التي ألفتها» ص 21. ألا يشكل هذا عبورا بين الوجود والعدم. حيث النزوع نحو أحدها إمكانية تأويلية للكوميديا الإلهية، وحيث إن العدم يتساوى فيه الجميع في بعدين متباعدين الفردوس والجحيم، وما بينهما متروك للقارئ، لدانتي، لأبي العلاء العري، لبورخيس، لمحمد الهرادي، للسارد إلياس…إلخ.كل واحد من هؤلاء يؤثث ما بين الجحيم والفردوس عوالمه التخييلية، ويضع الواو فصلا ووصلا بينهما، لا ليقول المعنى، بل ليؤزمه، وليضعه قاب قوسين أو أدنى.
لا عجب إذن أن تجذبك رواية» دانتي» إلى عوالمه وأن تفتح لك سؤال الوجود، كسؤال صاعد ونازل. إنه الزئبق الذي ينفلت من العبارة، ويستظل بالإشارة. لقد قلنا سابقا إن الرواية عصية القبض على شخوصها، وأمكنتها، وأزمنتها، وهي كذلك تضعنا بين النزول والصعود مدوخين، أو سكارى بنبيذ لم تكتشف بعد نوعيته، ولأن الأمر كذلك، فالرواية تفرض عليك وضع نظارات أخرى لقراءتها، غير تلك التي تعودنا القراءة بها.
إن محمد الهرادي ظل ملتزما بشخوصه القدامى، وبلغته البليغة، وباستعاراته المدوخة، و بالعلامات المزوبعة للدليل، منذ « أحلام بقرة» و « ديك الشمال» و هذه الرواية التي تنبش و تحفر في المجهول، و تضع الالتباس موضوع الكتابة، مثلما يصعد بنا إلى الأعالي، وينزل إلى مساءلة العميق والمنسي فينا، تلك هي الأبعاد التي حاولنا ملامستها. إلا أننا بالتأكيد لم نصل إلى العمق المتخفي بين دانتي الكوميديا الإلهية، ودانتي محمد الهرادي.


الكاتب : حسن إغلان

  

بتاريخ : 20/07/2018