احتفالية في الأدب والطعام بين الخصوصية والكونية

قراءات في «ديوان المائدة» لسعد سرحان سوف بجرح الكائن

 

كثيرة هي الأعراس العلمية والثقافية التي دعا إلى ولائمها مختبر تحليل الخطاب وأنساق المعارف منذ عام 2017، حين تم اعتماده كبِنْيَةِ بحثٍ في جامعة القاضي عياض. ومنذ ذلك التاريخ وهو يجدد مبادراته في الحقل الجامعي بكيفية جسورة لا تُضارع و لا تُضاهى.
وفي هذا السياق، استضاف مختبر تحليل الخطاب وأنساق المعارف وماستر النقد العربي أنساقه ومناهجه، ضمن برنامجهما المستجد: أحاديث الأربعاء؛ الدكتور الكبير ميناوي في موضوع: الأدب والطعام بين الخصوصية والكونية، انطلاقا من كتاب الشاعر سعد سرحان: ديوان المائدة (2014)، والذي يشكل قسما من نتاج أدبي متنوع ورأسمال رمزي حافل: حصاد الجذور، شكر لأربعاء قديم، نكاية بحطاب ما، «مراكش أسرار معلنة»، «أكثر من شمال أقل من بوصلة»، مرايا عمياء….
وفي بداية هذا النقاش العلمي، نبه الدكتور عبد الجليل بن محمد الأزدي إلى أن القارئ يجد نفسه أمام عنوان غريب لكتاب أغرب؛ إذ قد يوحي بداية أن الأمر يتعلق بنصوص شعرية تهم المائدة والأطعمة وآداب المؤاكلة، خاصة وأن صاحب الكتاب، أستاذ الرياضيات سعد سرحان، مشهود له في الحقل الثقافي بالمغرب بصفته شاعرا منذ أزمنة الغارة الشعرية. وقد يتوهم أيضا، أنه سيعثر في سطور الديوان على نصوص من نمط قصيدة الشاعر الزجال محمد بن علي المسفيوي (1880 – 1920): الزردة، التي أداها غنائيا الرائع دوما وأبدا المرحوم الحسين التولالي.
والواقع أن «ديوان المائدة» تركيب عجيب وغريب موسوم بغزارة معرفية لافتة للانتباه؛ ففيه الكثير من السيميائيات والتاريخ والجغرافية الطبيعية والأنثروبولوجيا والنقد الأدبي والسرديات وتاريخ الشعر العربي؛ وفيه كذلك أمور غزيرة عن تحولات القصيدة العربية في تماثلاتها مع تحولات الأطعمة فوق موائد العرب…؛ كما أن فيه الكثير من أطعمة بلاد فارس وتوابل الهند… وقد صيغ كل ذلك بلغة تعلوها توابل الأناقة والمجاز.
وهذا لافت حين متابعة قراءة لوحات الكتاب: حجر الزاوية، هندسة التضاريس، الخبز والقص، التناص الغذائي، الشاي وكوكا، المروزية، رأس الحانوت، المضيرة والماكدونالد، الجلبانة والقوق، الكسكس، باولو، المشروطة والشيبس، تكعيب الجرة، كعب غزال، حساء الحلزون، مأدبة حاشاك، المطبخ الأزرق، نازك المائدة، ألف أكلة وأكلة، مستلحمن شحومن، Food option…
يشكل مجموع هذه اللوحات حلقات متراصة ومترابطة ضمن نسق محكوم بأطروحة جوهرية تمثل مفتاح هذا الكتاب برمته. يقول سعد سرحان في الصفحة 100: «يمكننا، اختصارا، أن نقرأ المائدة تماما كما نتناول قصيدة». وهذه الأطروحة تجعل الكتاب أقرب إلى النقد الأدبي، لكنه يجند العديد من المعارف الغزيرة لخدمة هذه الأطروحة التي تتفرع عنها فرضيتان: تقول أولاهما إن هناك تماثلا بنيويا بين القصيدة والمائدة؛ وتشدد ثانيتهما على وجود تماثل كذلك بين تطور المائدة وتطور القصيدة…
وإجمالا، يقول الأستاذ الأزدي، فهذا كتاب تحفة يأخذ بالألباب ونص مترابط جدير بالقراءة وإعادة القراءة، مثلما هو جدير بالانتباه والاحتفال.

«ديوان المائدة» نسق متنوع الأطباق

أكدت الباحثة فاطمة الزهراء وراح ، على أن كتاب ديوان المائدة يشكل نسقا متنوع الأطباق، مغريا بلغته المتألقة التي لا تنفك تعلن عن اتساق وانسجام المدلولين اللغوي والثقافي، مما يفتح أفقا تأويليا يمتح من الأدبي والغذائي في آن. وكما يؤكد عبد الفتاح كيليطو في كتابه «الأدب والغرابة» على أن النص لا يوجد إلا داخل ثقافة معينة، نؤكد نحن أن نص «ديوان المائدة « لا يوجد إلا داخل الثقافة الغذائية، وكل تداعياتها الثقافية بالمعنى الأنثروبولوجي، فالغذاء مكون أساسي في الثقافة يعكس الخاص والمموضع ويجسد هوية ثقافية محددة.
يؤكد سعد سرحان في كثير من المواقع ضمن نصه المتنوع أجناسيا بين ما هو أنثروبولوجي ودراسات علمية وتاريخية، «أن الطعام للجسد كالعقيدة للروح والفن للوجدان؛ ولأجله ظل الإنسان على قيد الوجود منذ الطريدة الأولى إلى آخر ما تفتقت عنه الصناعات الغذائية من تعليب وتلفيف وتبريد…لذلك ظل في صلب اهتمام كل نشاط أو إبداع بشري».
غير أن اللافت للانتباه أن عنوان الكتاب ديوان المائدة يوهم بانتماء أجناسي مخالف لما هو عليه حقيقة، توحي كلمة الديوان بانتماء النص إلى جنس الشعر غير أن الكتاب يشكل نصا تتواشج داخله حقول معرفية مختلفة من أنتروبولوجيا ونقد أدبي وسرديات وتاريخ الأدب العربي وسيميائيات…
وقد تحولت الكتابة في ديوان المائدة إلى متناصات وتشكيلة من النصوص مما يعكس الفعل الخلاق لهذه الكتابة، فقد استحضر سعد سرحان المقامة المضيرية لبديع الزمان الهمذاني؛ حيث إن المضيرة التي خصها الهمذاني بمقامة بديعة هي أكلة باللحم واللبن المضير ( الحامض).
ويمكن أن يعد هذا الكتاب دراسة مقارنة تنفتح على سؤال السيادة الوطنية والهوية الثقافية، فعادة ما يستعين الكاتب بالمعجم والثقافة الشعبية والثقافة العالمة لإجراء مقارنة مثلا بين الشاي والكوكا. فإذا كان الشاي له أصل طبي، فإن الكوكا في شكلها استلهمت جسد المرأة بثوبها الطويل، وأصبحت تعكس قيم التحرر والفردية…أيضا تتمثل الدراسة المقارنة في إيجاد أوجه التشابه والاختلاف بين المأكولات المحلية والمأكولات الوافدة من ثنائيات ضدية: السمن والجبن – العسل والمربى.
تتواشج داخل هذا النص نصوص كثيرة: سيرة الكاتب وحكايته مع الجدة وشجرة اللوز، حضور عمود الطبخ مقارنة بعمود الشعر مع «بركاش»، إن هذا يعكس تناصا بين «القص» و»النص»، بين الأكل والأدب.والذي يؤكد من خلاله أن الآدِبَ أو الدَّاعي إلى الطعام والذي يتصف بالكرم لا ينتقر؛ أي لا يختار الواحد دون الاخر، فكرمه شمولي شمولية القيمة الجمالية الشعرية…قد أعاد سعد سرحان ربط الطعام بالأدب كما كان في البداية نواة دلالية لغوية.

ديوان المائدة كتب للصغار والكبار، لا الإناث والذكور

ومن جهته، أكد الدكتور الكبير ميناوي أن ديوان المائدة  للكاتب المغربي سعد سرحان. هو، فعلا، «عنوان غريب لكتاب أغرب»، جاء في «تركيب عجيب وغريب»، وصيغ بــ «لغة تعلوها توابل الأناقة والمجاز».
يبدو أن الكتاب «أقرب إلى النقد الأدبي»، يدعونا كاتبه إلى مائدة متنوعة، تستحضر وتخلط بين التاريخ والجغرافيا والأنثروبولوجيا والنقد الأدبي والسيميائيات والسرديات والعلوم السياسية والهندسة والفيزياء وأغاني المجموعات الموسيقية، وغيرها. مائدة طعام بنكهة أدبية، من بين المدعوين إليها نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وبديع الزمان الهمداني والجاحظ ونيوتن وباولو كويلهو وخورخي لويس بورخيس.
يبقى اللافت والجميل والمثير في هذا الكتاب أن صاحبه «يجند»، حسب تعبير الدكتور عبد الجليل الأزدي، معارفه الغزيرة لخدمة العلاقة التي يقيمها بين الأدب والطعام.
يُنصح بالكتاب للنساء والرجال، على حد سواء، للصغار والكبار، على اختلاف طبقاتهم ومستوياتهم الثقافية والفكرية. هو كتاب يقوم على المقارنات والمفارقات. ذهاب وإياب بين الأمس واليوم، مع التوقف عند التحولات التي طالت عادات المائدة في العصور الحديث، بفعل التحولات المجتمعية والتطور الصناعي والتقني الذي فرض عادات جديدة.
طبعا، يمكن للكتاب أن يصير منطلقا للتعاطي مع قضايا ذات بعد استراتيجي على مستوى العلاقات الدولية واستقرار الأمم، من قبيل مسألة الأمن الغذائي، التي يمكن التمثيل لها على مستوى إقليمي بعناوين تتحدث عن «سد النهضة.. هل يدق طبول الحرب على ضفاف النيل؟»، وعلى مستوى عالمي، بتحذير برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، قبل أيام، من أزمة غذائية في المناطق المتضررة من الحرب في أوكرانيا، ومن مخاطر تفاقم المجاعة في جميع أنحاء العالم، بسبب توقف إنتاج وتصدير منتجات مثل الحبوب، جراء العمليات العسكرية التي تشنها روسيا على جارتها الغربية.
في كتابه، يرفع سعد سرحان، بين الحين والآخر، من منسوب السخرية لديه، في سياق تعاطيه مع التحولات المرتبطة بتقاليد المائدة، بين الأمس واليوم، أو تباينها بين الأمم. ومن ذلك حديثه، تحت عنوان «مأدبة حاشاك»، عن النباتيين، وكيف أنه حين سمع بهم في صغره تخيل أنهم قوم يعيشون في المروج والبساتين. ثم حين يقارن بين مطابخ العالم، ومن ذلك حديثه عن المطبخ الصيني الذي قال عنه إنه شيد مجده على أغرب الأطباق، من حساء الأفاعي حتى أفخاذ الضفادع مرورا بكل ما هب ودب. ومع ذلك، يضيف كاتبنا، فــ»هناك دائما من يطلب الأكل ولو في الصين».
ينتهي سعد سرحان من هذا التناول الساخر إلى أن الإنسان استطاب أكل كل شيء، من الديدان حتى لحوم البشر، ما يؤكد أن الأذواق، فعلا، لا تناقش.
هكذا، يتحول الكتاب إلى ما يشبه النص المترابط، إذ يقترح علينا فرصا لامتناهية للتوقف و»الضغط» على كلمات بعينها، أو طرح أسئلة حول إشارة وردت حول كتاب أو حدث، إما بشكل صريح أو مضمر، بشكل يوفر فرصا لا متناهية لتوسيع المدارك والمعارف وإغناء المقروء.
لكن، لماذا الحديث عن الطعام في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمراكش؟ لماذا الأدب والطعام من زاوية الخصوصية والكونية؟
–       لأن «بإمكاننا النظر إلى المائدة بعيون أخرى». عندها، سنرى في المائدة الأوتاد والفواصل والزحافات والانتحال والغموض والكثافة والمجانية، كما «سنرى المطلع وبيت القصيد وسقط المتاع»، فـ»نقف عند بلاغة هذا الصحن وعند ركاكة ذاك»، و»تذهلنا الصور الشعرية في كثير من الأطباق. بإمكاننا، اختصارا، أن نقرأ المائدة تماما كما نتناول قصيدة»،
–       لأن بين الطعام والكلام، كما يقول سعد سرحان،»أكثر من آصرة». فــ»الثاني يخرج من حيث يدخل الأول، فأحدهما دفين الفم والآخر وليده. وكما أن من البيان لسحرا، فإن من الطعام لسحرا أيضا. فالإنسان الذي ينطق هو نفسه الذي يتذوّق. للكلام مراتب وللطعام مثلها. فمن الكلام البذيءُ والفاحش والسوقي والركيك والعادي والجميل والبليغ.. ومن الطعام الرديءُ والعفن والفاسد والمسموم والدسم واللذيذ».وكما أن الكلام يحتاج في اللحظات التاريخية الحاسمة إلى كل ترسانته البلاغية، حتى أن بعض القصائد والخطب كانت بمثابة الفيالق التي تتقدم الجيوش، فإن الطعام ينوب، في المناسبات الشخصية المهمة ينوب عن الكلام في الإعراب عن الكرم والمحبة والفرح، وهو ما يؤكد أن «للطعام فصاحته أيضا»،
–       لأن الأدب، في كتاب سعد سرحان، «وليمة» و»طعام الولائم شكل من الأدب وعنوان ثقافة شعب محدد ضمن شروط تاريخية محددة».
على علاقة بما يربط الطعام بالأدب والفن، مثلا، يرى سعد سرحان أن «الوضع الذي تتمتع به التفاحة هو ما جعلها لا تكتفي بالحضور في الشعر. فسقوطها على نيوتن هو ما ألهمه نظريته الفذة عن الجاذبية. وبعيدا عن تعقيدات الفيزياء، فإن هذه النظرية إنما هي رد واضح من تفاحة نيوتن على تفاحة آدم». من جهنهم، «الرسامون بدورهم تناولوا الكثير من الطعام في لوحاتهم، وخصوصا أطباق الفاكهة، تلك التي لفرط إبداعهم تبدو وكأنها قطفت للتو». هذا علاوة على أن «للطعام حضورا قويا في مختلف الفنون والآداب. ففي السينما نجد أن لقطات ومشاهد الأكل والشرب في البيوت والمطاعم والحانات أكثر من أن تحصى، ولولاها لفقدت الكثير من الأفلام نضارتها».
كما نقرأ لسعد سرحان: «في الأدب والفكر، ثمة كتب اتخذت الطعام موضوعا لها، فيما اختارته أخرى عنوانا، ومنها بخلاء الجاحظ، مأدبة أفلاطون، عناقيد الغضب، القوت الأرضي ودروب الجوع. من بين كل الأطعمة تظل الفواكه هي الأثيرة لدى الشعر. فهو يحتفي بها، تشبيها واستعارة، منذ الملاحم حتى قصيدة النثر. في الهايكو تحضر الطبيعة بأبهى عناصرها من أزهار وطيور وثلوج وفراشات … لكن، إذا وجدت فيها كلمة «كرز»، على سبيل الجمال، فتأكد أن الأمر لا يتعلق بقصيدة وإنما بكعكة صغيرة. البرتقالة أيضا وجدت في الشعر ما تفاخر به صويحباتها مذ صارت «الأرض زرقاء كبرتقالة». أما شعرنا العربي فقد أبدع أيما إبداع حين وصف الثمار بأنها «أشربة بلا أواني». والعناب؟ يا إلهي، كدت أنسى العنّاب».
من بين محاور التناول التي تتوزعها القراءة، نكون مع «الطعام رشوة عاطفية وسياسية». يقول سعد سرحان، في هذا الصدد: «»أقرب طريق إلى قلب الرجل معدته. هذه ليست فقط وصفة تتواصى بها النساء لكسب قلوب الرجال، بل هي اعتراف صريح بكون الطعام رشوة عاطفية، تتلقاها المعدة ليبذل القلب مقابلها حبا».أما في المناطق الشعبية فـ»تأخذ الانتخابات شكل مواسم، فتدق الخيام وتحشد الحشود وتذبح الذبائح وتولم الولائم .. فكما أن عين البائع تعرف عين الشاري، فإن المرشحين يعرفون ناخبيهم جيدا، لذلك فهم يعبدون بالطعام طريقا موازيا لأصواتهم: فالحنجرة جارة البلعوم. الطعام، إذن، رشوة سياسية. ولسوف يظل الطعام رشوة متعددة المآرب طالما هنالك جوع ونفوس جائعة».
ثم هل يمكن اقتراح قراءة في»ديوان المائدة»، دون الحديث عن الكسكس «أيقونة» الطبخ المغربي و»طعام الأطعمة»، الذي يشدد سعد سرحان على أنه يستحق أن يفرد له كتاب ضخم يشترك في تأليفه نخبة من علماء التغذية والانثروبولوجيا والتاريخ والأركيولوجيا والسيميائيات وغيرها من العلوم.


الكاتب : إيمان الرازي

  

بتاريخ : 25/03/2022