الترجل عن صهوة المقاهي

شوكولاطة للأحبة. شوكولاطة للأعداء. شوكولاطة لجدتي المتوفاة. شوكولاطة لأبي المرهق. شوكولاطة لأمي التي تنام على عجل. شوكولاطة لغطرسة الطفولة. شوكولاطة لزملاء المدرسة الابتدائية المليئة أفواههم بالبرقوق الفج. شوكولاطة للعائدين من الحروب على الحدود. شوكولاطة لـ»تكتوك»الأصلع صاحب الألف حيلة وحيلة،الذي كان ينمو ليلا لنتذكره غدا بصعوبة.كان يسمق كل يوم كشجرة أوكاليبتوس.
لكنك أقلعت عن الشوكولاطة وأدمنت المقاهي. هل تذكر متى فعلت ذلك؟
ليست كل المقاهي متشابهة. مقهى» باريز» توجد في الزاوية. مقهى «أنوال «توجد في قلب الشارع. مقهى»الوازيس «توجد أمام موقف الأتوبيسات. مقهى «الأندلس»توجد في أسفل ذلك التل المجلل بغابة كبيرة. والندل؟ الندل أيضا ليسوا متشابهين. كل منهم يشكل عالما لا يشبه العوالم الأخرى. نادل مقهى»باريز»يشبه موظفا حكوميا. غزا الشيب شعره. لكنه يملك كرشا لا بأس به، يستطيع أن يشارك به في مسابقة محلية. نادل مقهى «الأمل» ذو نظرات ثاقبة، ووجه جامد كأنه وجه فزاعة. نادل مقهى»بيكاسو»لا يخفي فرحه أبدا. شخص فرح باستمرار كأني به يحصل على رشاوى صغيرة كي يقدم للزبناء طلباتهم.
ٳنه في المقهى. هذا مؤكد. ينظر إلى المسافات الممتدة في الصحاري. يصعد السلالم التي تقوده الى الباحات الفوقية من ذاكرته. ينزل الى سراديب عميقة من قلبه. يعانق الصباحات الطرية الموشاة بالندى. يغبط الجداول التي لم تشته شيئا أبدا سوى الخرير. يركب بواخر تمخر عباب الوقت الرديء الذي ينقضي بركاكة منقطعة النظير. ينظر ٳلى الأفق الذي لا تحجبه أية غربان مرفرفة أو غيوم داكنة تسكن قلبه في فصول الشتاء الآثمة. يتطلع الى الشمس وهي تنظر نظرة وجلانة مليئة بالرجاء والخيبة.الشمس التي ترجو أن تعود غدا فتطرد عناكب أخرى من أحواش عقول الكثيرين. الشمس التي تشعر بالخيبة لأنها لم تطهر مطابخ الكثيرين من طفيليات جشعة ومتنطعة. لا يجسر أحد على ٳيقاف زحفها نحو الصحون والطناجر، وأيضا نحو الأفئدة المبللة بالوهن والأمراض المعدية المخيفة التي تنتشر في اللاشعور الٳنساني أكثر مما تنتشر في الواقع. يطل على الهاوية الغائرة كوديان تقع في أسفل منعرجات صخرية، لا يؤنسها سوى الريح ونعيق البوم. يستقل قطارات سريعة لا تقف ٳلا عند مشارف طفولته. يفرج عن آهات شبيهة بصراخ عفاريت مبجلين بسراويل منتفخة وشعر منفوش.
من مقهى ٳلى مقهى كان يحث خطاه. في مقهى الأندلس كان يدلف كالمتسللين، ثم ينتقي مكانا في الجهة الخلفية. يطلب حليبا ب»الكاوبيل». لا يريد شيئا غير ذلك. يخيب احتمالات وتوقعات النادل. يقول له «شي مونادة؟» فيجيبه كأنه يصفعه بجوابه:»لا ..لا..حليب بالكاوبيل! «. يتحول إلى شبح وسط دخان السجائر . يثرثر كثيرا، ويحلم بأشياء مضحكة؛ كأنه يغط في نوم عميق. لكنه يبقي عينيه مفتوحتين ليرى كل شيء. فكره لا يستكين. لم يدخن أبدا. كانت تحذيرات أبيه ترن في آذانه مخلخلة توثبه واندفاعاته بشكل ناتيء. تحذيرات تجعله يتلكأ قبل أن يفعل أي شيء. يقول له أبوه»اشتر أي شيء نافع بدل أن تشتري سيجارة…». ٳن دخن سيمقته الجميع. أمه تكره ذلك منه. لكنه أدمن الشوكولاطة .كانت تحين أوقات الأكل فيجد شهيته قد هجرته، وبطنه يمتليء بالغازات بدل أن يمتليء بالأكل.
في مقهى أنوال أصبح يطلب حليب بال»ليبتون». يحك ذقنه بسبابته. يفرك يديه بدون توقف. يجلس أمام الواجهة الزجاجية لتتاح له رؤية الشارع والمارة وهم يمسحون العرق الذي يجري من جباههم بمناديل ورقية. يتفرج أيضا على ارتباكهم. يبدو أن جميعهم وراءهم مشاوير جد مهمة. كلهم مسرعون:منهم من سيذهب الى ردهات المحاكم لاستصدار أحكام قضائية تتأخر دوما؛ فتيات ذاهبات بخطى منتظمة وفي جيوبهن رسائل من عشاقهن مليئة بكلام كثير أغلبه يتم اقتباسه من كتب مخصصة لنفس الغرض:ٳرضاء عشاق يستعجلون متع الحب الكثيرة؛ موظفو البلدية الذين تتعثر خطاهم أكثر من مرة، يفكرون في قروض صغيرة يرتقون بها الهوة التي تفصلهم عن نهاية الشهر؛ أطفال المدارس يستظهرون قصائد شعرية لشعراء ماتوا و تركوا قصائدهم بدون قراء ماعدا أولئك الذين يجبرون ٳجبارا على حفظها في المدارس؛ متسولون لا ينقطعون عن التذمر لأن لا أحد أصبح يلتفت لاستعطافاتهم؛ باعة الخضر وهم يدفعون عرباتهم اليدوية ليصلوا الى السوق البلدي قبل أن ترتفع الشمس.
لا تجري يازمان..لا تجري!
ٳنه في مقهى»الرجاء». خارج الزمان الرخو يمدد أرجله المحشوة الأقدام في حذاء بني من نوع «BAGOSSA» . يحرص تمام الحرص على هندامه. كان يرتدي
«la veste»الكشمير السماوية. لا يهم بكم اشتراها. لا يهم أيضا أنه استغفل أيما استغفال حينما بدا كشجرة خروب لا تثمر أبدا. قبل بها على مضض. لم يكن بوسعه أن يفعل شيئا آخر غير ذلك. كان يريد أن يستخلص قرضه. قال له:»اقبل بها إن شئت..أو انتظر حتى تتحسن ظروفي المادية! « قال له أيضا: «ستأتي حوالتي،وربما أجزل لك العطاء!» هكذا قال له. لكنه لم ينتظر العطاء الوافي، وفضل
«la veste»الكشمير السماوية التي لم ينقطع عطر صاحبها بعد.
النادل في مقهى»باريس» حاصل على الليسانس في الحقوق. أحد زملائه قال له: «لا يجلس في المقهى سوى السفهاء!». في المنزل سخر منه. أصبح يتجنب مجالسته. في الحقيقة رأى أشخاصا كثيرين يجلسون في المقهى يدفعون ضرائبهم، ويؤدون فروضهم الدينية. لم يحدث أبدا أن تشاجر مع أحد داخل مقهى. ذلك غير مفيد بالنسبة له. كيف يمكن أن يتشجار مع أناس لا يريدون سوى قسط يسير من الراحة؟!
المقاهي أمكنة مناسبة لنسيان الهزائم. أمكنة لبناء صروح الوهم الشاهقة. فيها تحدث النميمة الطاعنة في الفاحشة. تعلو أصوات المغلوبين في منازلهم من قبل زوجاتهم الشرسات. يحس المرء في المقهى بوجوده الكامل غير منقوص. يجرؤ الناس على شتم أعدائهم البغيضين والملتاثين. يدير البعض تجاراته الرابحة وأحيانا الخاسرة، ويحصل البعض على الترقيات المتأخرة التي لا تتحقق ٳلا في المقاهي. تصلك أخبار سيئة ٳلى حد الٳبكاء، وأخرى مفرحة تجعلك تتقافز في مكانك كقط مغرور.تتخلص في المقهى من الارتباطات المملة. تصبح، باختصار، طليقا كنورس.
ماذا كان يفعل الناس بأحزانهم قبل أن تظهر المقاهي؟ هل كانوا يضعونها في قراطيس من الورق ويلقونها في البحر؟
في مقهى»فينيسيا»يدخل وحيدا. يد في الجيب والأخرى تمسك جريدة. النادل يبدو كأنه هو صاحب المقهى. أعيته الحياة. أصبح كرغيف ترك في الفرن سهوا لينضج أكثر مما يجب. هو كيرقة صغيرة تسبح في مستنقع كبير. يزدرد الخيبات ويمتص رحيق المساءات من فنجان البن الذي يعب منه في بطء كأنه كاهن بجبة مزينة بالحلي إلى حد تجعل حركته غير ممكنة إلا بعد لأي. عجلة السنين تمضي كأنها طاحونة هواء أغفلها دون كيشوت. المرايا تعكس تلك الصورة التي لا هي بالمكتملة ولا هي بالناقصة.أعينه على الواجهة وقلبه في قنينة صغيرة محكمة الٳغلاق. الزبناء يصنع كل منهم عالمه الخاص، ولا يريد أن يقيم أي جسور مع العوالم الأخرى. سرعان ما سيدرك أن الوقت تأخر!
ما أتفهك أيها الزمان! بل ما أرعنك كأنك مرابي جشع!
اللحظات لا تساوي شيئا في مقهى»الصباح». أهم شيء هو البقشيش، وأيضا مهم أن تشرب مشرربا غازيا حتى تستطيع أن تعبر عن نفسك بطلاقة وحرية. هكذا سيصبح التلاميذ في المدارس أكثر نجابة وتواقين الى التعبير عن أنفسهم بشربهم لعبوات ملونة لمشروبات غازية خرافية . وسيصرح العشاق لعشيقاتهم بالحب منذ اللقاء الأول. ٳعلانات تلفزيونية مضحكة. ٳعلانات تجعلنا نقف على حافة العته.
النادل يضع على الطاولة فنجان بن بدل عبوة»بيبسي». ينبهه الى أنه طلب ليموناضة»بيبسي». هو أيضا يريد أن يعبر عن نفسه. الأمر في غاية البساطة. النادل لا يصدر عنه أي تذمر. بل يبدو أكثر رضى من ذي قبل. أسارير النادل تنفرج كأنه سمع خبر ترقيته الى رئيس الندل. يمسح سطح الطاولة بمنديل مبلل. حبات العرق تتسلل من جبينه دون ٳرادته. يعود الى الكونطوار لطلب مشروبات أخرى. لا أحد يتابع ما تعرضه شاشة التلفاز. لو كان هذا اليوم هو يوم الأحد لكان المقهى ممتلئا عن آخره، ولم يجد مكانا شاغرا له. مرة استطاع الكتابة وسط الفوضى التي تحدث أثناء متابعة مباراة في كرة القدم. أحدهم تنبه له، ولم يخف امتعاضه. لا ينتظر منك أحد أن تكتب داخل مقهى. وماذا ستكتب؟ سنكتب رسائل حب مثلا أو طلبات توظيف؟ ستكون معتوها بالنسبة ٳليهم. مرة قال محمود درويش حينما كان يستعد لٳلقاء قصائده،لو كنت مثلكم لفضلت متابعة مباراة فرنسا وألمانيا،على أن آتي لأستمع لشعر مهما كان صاحبه. كان يمزح فقط كعادته قبل ٳلقاءاته الشعرية. أما هو فيستطيع أن يفوت مباراة المغول والتتار على أن يظفر بسماع قصيدة لشويعر محلي.
في المقهى يحس أنه يستطيع أن يهتف إلى جميع الناس في العالم:الذين يجلسون في المقاهي ،والذين يجلسون خارج المقاهي، والذين يقبعون في منازلهم، والذين يلهثون وراء رغيف الخبز، والذين يلهثون فقط. الجميع يلهث. يستطيع أن يهتف الى كل هؤلاء عبر هواتفهم، ليقول لهم أن الوقت لم يفت بعد. يستطيع أن يستعين ب تقنية «البلوتوث» في ذلك بالنسبة لزبناء المقهى.لكنه لا يستطيع أن يقول لهم ذلك من خلال كلام ينطقه فمه!
تستطيع أن تتواصل مع أبعد انسان في أبعد نقطة من هذا البالون الأرضي، ولكنك لا تستطيع أن تتواصل مع جارك في الطابق الأرضي! ٳنه أمر ما بعد حداثي فعلا!
ولكن، لماذا لا يخبر كل هؤلاء فقط أن الوقت لم يحن بعد؟
على الأقل هو وقته لم يحن بعد. لم تبزغ شمسه بعد. لم تصدح بعد العصافير التي يعشق سيمفونياتها الصباحية. كما لم يأت الربيع بعد، هذا الفصل البهي كأنه قصيدة لتيد هيوز. لم يحن بعد الوقت ليطلق العنان لأشعاره. لم يحن الوقن لينام في الحدائق العمومية مثلما يفعل اليابانيون-حينما سيفعل ذلك سيستحق صفة متشرد – لم يحن الوقت بعد ليركب قطارا لا يتوقف أبدا. يلف به كل العالم، ولا يتوقف. يتوقف قليلا في اليونان ليرى قبر سقراط ،ثم يتجه رأسا الى أمريكا اللاتينية ليتنفس هواء النثر الحقيقي. يجوب البحار والمحيطات ولا يتوقف ٳلا في الاماكن التي يحب، ثم يعاود السير دون كلل.
ولكن الوقت فات فعلا. هو لم يشرب قهوته بعد. لم ينتبه الى الٳفتتاحية في جريدته، ولم يصف حساباته مع أفكاره. لم يحسم بعد في أي شيء. سيكون المنزل هادئا الآن. الشرفة تزدني بالنباتات الجميلة التي تزين الأصص، وكتبه مكومة دون أن يلمسها أحد. لم يعتد على تنظيمها داخل خزانة.أسوأ شيء بالنسبة للكتب هو أن تعتقلها داخل خزانة. هناك من ينتقي الكتب حسب ألوانها البراقة والذهبية حتى تناسب ذائقة ضيوفه المتحذلقين والنمامين الذين يدعون معرفة كل شيء، والذين سيأتون ذات حفل باذخ.
قال له أحد الرفقاء:»الكتب يجب أن تبقى أنيقة، وذلك حتى توضع في ما بعد داخل خزانة». هو كان يعرف فقط أن الكتب يجب أن تقرأ. تقرأ في طقوس تشبه ازدراد مقبلات من الفواكه الطازجة.دوما كانت تستهويه الكتب. يقرأ كل ما تقع عليه يداه.
قرأ كتب أبيه ودفاتره المكتوبة بأقلام الحبر. اندهش من رسوماته ومن رسائله التي كان يرسلها الى أسرته. قرأ «الأجنحة المتكسرة»التي وجدها في محفظة أبيه الجلدية القديمة، والتي كانت أوراقها قد بدأت في الاهتراء. يلتقط قصاصات الجرائد التي يجدها في المطبخ والمدعوكة بأياد حاذقة لبقال يملأها بالتوابل والفواكه اليابسة. يستعمل أياديه كمكواة ثم ينهال عليها بالقراءة. يجد أوراق الكتب المقتطعة والملقاة هنا وهناك. يخفيها في جيبه، ثم يختلي في غرفته ليقرأها بشراهة شخص جائع. قال لأمه حينما لم يجد ما يقرأه:»ألا يمكن أن يكون خالي مازال يحتفظ ببعض من كتبه القديمة؟ لماذا لا نذهب لجلبها؟».تحرجت أمه.استعانت عليه بجدته لٳثنائه عن رغبته. بكى وهو الطفل المدلل. حاولت رشوته بقطع حلوى تخفيها لطوارئ كهاته. لكنه بكى أكثر. فلم يكن هناك بد من مجاراته وٳرضائه.اختفت كتب أخواله. بحثوا في كل الأماكن. قلبوا كل شيء. لكن الخيبة كانت أوسع من أمانيه، فبكى أكثر. ولم يصطبر على أمه حتى تتناول وجبة الغذاء. قال لها في حزم:»لنعد الى منزلنا!»
الوقت فات ٳذن، فليخرج من المقهى.
قال لنفسه :»أين كنت سأفعل كل هذا إذا لم يكن داخل مقهى؟!»
لكنه لم يعد يذهب الى المقاهي. أصبح يذهب إلى شرفته كي يكتب قصصا لن يقرأها أحد.
لم يعد يذهب ٳلى المقاهي حتى لا يضطر لأن يكوي أكاذيبه، حتى يبدو كالمتبتلين الجدد!

( قاص مغربي- فاس)


الكاتب : مصطفى نفيسي

  

بتاريخ : 25/03/2022