الجسد المسرحي بين التذوق الجمالي والحكم القيمي

«يعتبر التمثيل عنصرا مهما في العرض المسرحي، فإذا كان الفضاء بمختلف أشكاله الثأثيتية ومكوناته ينتج الحيز المادي للعرض، والإطار الذي تنتظم ضمنه العناصر السمعية والبصرية التي تساهم في تشكيلها الأدوات التقنية، فإن مفهوم العرض لا يتحقق إلا بوجود الذات/الذوات، التي تخترق هذا الفضاء ومختلف المكونات التي تشكله. إنه عنصر التمثيل، فلا يمكن أن تكون هناك فرجة مسرحية في غياب التمثيل، وما ينتجه من حركات actions، وتحركات mouvements، وإشارات / إيمائية gestuelles، كون هذه المعطيات هي جوهر العمل المسرحي الذي يقوم في بنيته العامة على أساس موضوعاتي thématique، يأتي في شكل أحداث أو سرد يكون الممثل منبعه، وعلى أساس لعبوي ludique ينجزه، أيضا، الممثل مستدعيا مختلف أدوات الاشتغال التي تكون في خدمته ومن أجل إبراز دوره. «
تماشيا مع ما سبق، فإذا كان التمثيل هو أساس العرض المسرحي الذي يقوم به الممثلون باعتبارهم قوى فاعلة نابضة بالحياة على خشبة العرض، والتي يتنافسون فوقها لإبراز عروضهم وفقا لرؤية إخراجية جمالية يضعها المخرج،» هو مشروع انطلاق نحو حدوث جمالي آخر مختلف يجسد افتراضات المؤلف الطاهرة والضمنية لتنتقل مورفيماته من الموت إلى الانبعاث الجمالي « فإن هناك جمهور المنظار الذين يتلقون العمل المسرحي بطريقة مباشرة، والتي يلغى فيها الحيز الفاصل بين العرض والجمهور، وحتى في ظل وجود فصل مكاني بين موقع الجمهور (الصالة) والخشبة (مكان الأداء التمثيلي)، والذي يسمى «الجدار الرابع» فإن الفعل المسرحي يتجاوز هذه الحدود الشكلية إذ لا يمكن أن يتحقق بمعزل عن المتفرج الذي يضفي عليه صيغته التفاعلية والحوارية «إن عدم وجود حاجز مادي بين الجمهور يناظره عدم وجود حاجز روحي أيضا، لقد شكلت كلا من الخشبة المسرحية والأوركسترا وقاعة المشاهدة واحدة واحدة» فهو عنصر رئيس من العناصر الثلاثة لتحقيق الفرجة المسرحية ( المكان والممثل والمتفرج) .
فإذا نظرنا إلى علاقة الممثل بالجمهور، على مر التطور الذي عرفه المسرح المغربي، سنجدها علاقة عريقة ضاربة في القدم، ومتجذرة في الأشكال الفرجوية ما قبل المسرحية باعتبار المسرح طقس احتفالي كما يقول عبد الكريم برشيد في هذا الصدد :» فحيثما اجتمع الناس، كان هناك مسرح، والحفل في أصله موعد شامل. يجمع الذوات المختلفة داخل إطار واحد، وعندما نوحد أماكن وجودنا، نوحد زمن اللقاء وموضعه، نكون بذلك قد أوجدنا هذا الكيان الجديد، هذا الذي يحمل اسم جمهور. ومن خلال هذا اللقاء يولد المسرح. تولد الفرجة وكل أنواع التعبير المختلفة. إن أساس كل تعبير هو وجود الآخرين وتفاعلهم معنا. ومن هنا، كان المسرح – وهو فن مركب- يسعى إلى التواصل ليجعل من عروضه أعياد واحتفالات» ولنتمكن من الغوص و سبر أغوار هذه العلاقة التكاملية، لابد لنا من طرح سؤال مباشر حول ارتباط الجسد بالفعل المسرحي، والذي يجب أن ينظر إليه بوصفه حركة وفكر، يتعاقبان ويتقابلان بشكل مثالي صرف ليعبروا عن بعد جمالي ويترجمون طاقة شعورية مستفزة. وكذلك مدى تأثير المسرح على الطريقة التي نرى فيها جسد الإنسان على الخشبة. ومدى فاعلية هذا الجسد في إيصال عنصر حيوي مساهم في الإنتاج المسرحي الخطابي.
وبالاستناد إلى مراحل تطور الفن المسرحي بالمغرب فإن العلاقة بين المسرح والجسد تشكل نقطة انطلاق استفزازية لفهم حدود التداخل والتخارج المعقدة والمدهشة بينهما، وأيضا تثير مسألة الأداء التمثيلي، الذي يقوم على الجسد الإنساني وبلاغته التعبيرية، وكيف يشكّل مهد الحركة في المسرح والرقص والإيماء، بل هو الرحم الذي خلقت فيه هذه الفنون المتداخلة.
ثمة عوامل قد اضطلعت بدور مهم في المسرح المغربي المعاصر، وكان لها تأثير على إبراز الأداء الجسدي الحديث وذلك من زوايا فلسفية وفنية وتقنية، منها: ردة الفعل البصرية أو المشهدية على طغيان النص (أو الجانب الحواري السمعي) في المسرح، وبتأثير من السينما ، وهذا مدخل آخر، بوصفها فنا بصريا بامتياز.
وفي إطار الاهتمام بالحركة باعتبارها لغة الجسد، فإنها تعد حاضنا أساسيا للأداء الإيمائي كأسلوب تعبير مستقـل هو الآخر، ولكن يتمتع بقواعد خاصة، على غرار تجـارب بعض المخرجين العالميين، وفناني الرقص التعبيري الذين قدموا عروضا طويلة تعتمد على تحرير الجسد من قيوده المحددة.
وينضاف إلى هذا كون عدد من المسرحيين الطليعيين ذوي الاهتمام النظري والتجريبي، الذين ثاروا على قواعد الأداء الجسدي المؤطر، وانفتحوا أكثر على آفاق غير محدودة أو محددة بخلفية ثابتة، وقد تعلقوا بأصول المسرح كقاعدة متغيرة، مثل ما تحقق في العروض الفردية.
إن هذا التعالق بين المسرح والجسد ،هو عودة واعية للأصل التمثيلي، وللطقوس الأسطورية الصافية، التي حولت الحياة واليومي إلى جزء أصيل من حركة الجسد التي تحاكي ولا أكتفي بالمحاكاة فقط، وإنما تساير ذهنية الإنسان المعاصر في خرق القواعد وخلق بدائل مسعفة للتلقي والتأويل.
ونمثل، في هذا السياق، بالمسرح الدرامي، الذي يقوم من خلاله الممثل بأداء جدلي بين الجسد الواقعي/المؤدي، والجسد المتخيل للشخصية الدرامية. حيث يخضع الأول للدلالة على الثاني، ومـن ثمّ فإن الحضور المزدوج للممثل (الإنسان/ الشخصية) بسماته الجسدية الفيزيقية هـو الذي يسمح لجسده أن يكون المؤسس لبلاغة الخطاب المسرحي، وذلك من خلال تضـافر ثلاثة أسانيد:
المعرفة: تعكس معارف الممثل.
المهارة: التقنيات التي يتمتع بها الممثل.
الإدراك: الوعي الفطن للدور.
ومن هنا نقول إن جل الأشكال المسرحية لم تكن خلوة من مكون الجسد، ولم تنظر له إلا كمجال للاشتغال وأداء المعنى واختزال الخطاب» فحيث يتوالد الكلام ويتناسخ ويتراكم، لابد من الاقتصاد والاختصار، بحثا عن أدوار أخرى تقوم بها أجزاء الجسد» والمسرح المغربي لم يكن يوما منعزلا عن البنى الاجتماعية والاقتصادية وكذا السياسية للمجتمع الذي انبثق منه كونه ، «مرآة تعكس بشكل متكسر العلامات المرسلة إليه عن طريق قصد أو بوصفه مرسلا مضادا يعكس علامات طبيعة مختلفة» مما جعل للملتقى وظيفة فعلية تكمن في انتقاءه للعلامات والرموز المرسلة إليه عبر العرض والتي تقابل إما بالقبول أو الرفض، ارتباطا «بأفق التوقعات horgonfexpectation ،كونه مفهوم جمالي يلعب دورا مؤثرا في عملية بناء العمل الفني والأدبي وفي نوعية الاستقبال التي يتلقاها العمل انطلاقا من فكرة أن المتلقي يقبل على العمل وهو يتوقع شيئا ما، ويُعد هذا المفهوم بمثابة حجر الزاوية في نظرية هانس روبرت ياوس، الذي ركّبه من مفهومي “الأفق” عند غادامير، و”خيبة الانتظار” عند كارل بوبر، حينما وجد أن تطبيقهما في فلسفة التاريخ وفلسفة العلوم يحققان رغبته في البرهنة على أهمية التلقي في فهم الأدب، والتاريخ له.»
مما يزيد وظيفة الممثل تعقيدا ويجعله يعيش نوعا من التشظي، بين ما يريد أن يعبر عنه والطريقة التي يجب أن يعبر بها، الشيء الذي يتسبب للمبدع الفنان في فقدان التركيز على البعد الجمالي والإبداعي في عمله الفني، خاصة عندما يتعلق الأمر بتشويه صورة الجسد الثابتة والتي تصل حد القداسة لدى المتلقي المغربي كونه يرى في الجسد» أداة غواية وعورة ،ولذلك يحاط الجسد بلفائف تخفي مواطن الفتنة وتدرأ محاولات الإغراء» إذ يجد نفسه مرغما على قولبته تماشيا ليس مع إنسان واحد، بل مع مجموعة بشرية مركبة ومختلفة الشيء الذي يجرفه من بعده الجمالي نحو الابتدال لإرضاء للذوق العام، نظرا للعلاقة الحميمة والحساسة المتبادلة بين لغة جسد الممثل وبين المتلقي، والذي يعتبر شريكا لهذا الممثل في صورة مجتمعية تحكمها نفس الخلفية الأيديولوجية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية…، والتي يجب أن يعكسها العمل المسرحي كونه وسيط بين أعضاء المجتمع من جهة، و باعتباره دلالة مكونة من ثلاثة عناصر والتي يحددها موكاروفكسي في الآتي :
رمز حسي ابتدعه الفنان
معنى (أي موضوع جمالي) كائن في الوعي الجمعي
علاقة بالشيء المرمز إليه، وهذه العلاقة تشير إلى السياق الكلي للظواهر الاجتماعية
والتي يتلقاها الجمهور عبر مفاهيم رئيسية تصل إليه عن طريق استعمال الممثل لجسده، ويمكن أن ننظر إليها عبر ثلاثة مستويات :
المفهوم النصي: عندما يكون (جسد الممثل) أداة نقل فعالة للنص الأدبي.
المفهوم السياقي: أي يكون تجسيد الفترة تاريخية أو معاصرة.
المفهوم الإشاري: إذا تمكنت إيماءات الجسد من إعطاء الكل العال الذي يوحي به العالم الخيالي للعرض»
في ضوء مما سبق، يمكننا أن نخلص إلى أن الحديث عن التذوق الجمالي للجسد هو حديث مباشر عن المتلقي لهذا الجسد والذي يمكن التمييز بين» دلالتين له الأولى تعتبر التلقي بمثابة وضعية تواصلية ملموسة تعكس مظهرا من مظاهر ما يعرف بـ»العلاقة المسرحية»، وتتمثل في تلقي القارئ أوالمتفرج لنص أولعرض يقدمان على أساس كونهما مجموعة من العلامات الدالة الموجهة بشكل قصدي ومباشر من مرسل (المؤلف، المخرج…) إلى مرسل إليه (القارئ، المتفرج…). ويخضع تلقي المرسل إليه لمجموعة من العوامل السيكولوجية والسوسيولوجية تتحكم في طريقة تلقيه لهذه العلامات، باعتباره نقطة الوصول. هذا التصور للتلقي يندرج ضمن ما يعرف بـ»نظرية التواصل»، وهو تصور غالبا ما يخضع إسقاطه على المسرح لانتقادات عدة يؤكد أغلبها انه تصور اختزالي يقيس الظاهرة المسرحية على التواصل العادي القائم بين الناس في الحياة اليومية، كما يختزل الوظائف الإبداعية للمسرح في وظيفة واحدة هي التواصل، في حين أن المسرح لا يخضع لهذه الآلية التي تجعله علامة أو إرسالية من مرسل إلى مرسل إليه.
الدلالة الثانية للتلقي تعتبره بمثابة سيرورة جمالية تجمع بين الأثر والتفاعل، بين أفق التوقع وأفق التجربة، أي باعتباره لحظة حوارية بين نص وقارئ، وبالتالي بين أفقين للانتظار. هذا المفهوم للتلقي هو الذي يشكل محور اهتمامات المبحث النقدي المعروف ب «جمالية التلقي»، وهو الذي نجد له امتدادات في الدراسات المسرحية، هذه الدراسات وغيرها هي التي وضعت اللبنات الأساسية لهذه المقاربة الجديدة للتلقي في علاقته بالمسرح، ليس من المنظور التواصلي وإنما من المنظور الجمالي.»


الكاتب : كريمة كربيطو

  

بتاريخ : 11/08/2022