الحريم في كتابات فاطمة المرنيسي 2/2

من لا يرى الحريم في التفاصيل، لن يتمكن من الخروج منه وهدمه

 

تمظهرات الحريم الجنسي

استمرارا في عرض مفهوم «الحريم الجنسي» كأحد تمظهرات الحريم في الإنتاج الفكري للراحلة فاطمة المرنيسي، وتتمة لما سبق، تستدعي الكاتبة النسوية «رحاب منى شاكر» مقالة «العذرية والبطريركية» المنشورة سنة 1982 لصاحبتها فاطمة المرنيسي.
وتقر النسوية «رحاب منى شاكر» أن المرنيسي من خلال هذا العمل قاربت أحد أهم رموز الحريم الجنسي وهو: العذرية، منطلقة من كونها مفهوما اجتماعيا، وليس بيولوجيا، فمن المعروف أن أجساد الرجال والنساء على حد سواء مصممة لتكون قادرة على ممارسة الجنس اعتبارا من السنوات الأولى للشباب. وترى المرنيسي أن العذرية أمر يخص علاقة الرجال في ما بينهم بالدرجة الأولى، ولا تلعب المرأة فيه سوى دور الوسيط لا غير. والأساطير التي تحيط بالعذرية تبوح بحجم وطبيعة انشغالات الرجل في مجتمع مبني على اللامساواة والخضوع والهيمنة. فالرجل لا يضمن نفوذه من خلال النجاح في تجاوز الصعاب والتحديات، وإنما من خلال السيطرة على حركات وسكنات قريباته من النساء، ومنعهن من الاختلاط بالغرباء. وكل هذا بجعل العذرية عرضا شفافا لصراعات مدفونة، وحاملا قويا لدلالات لا تمت لغشاء البكارة – كعضو بيولوجي – بأي صلة.
تواصل «رحاب منى شاكر»، عرضها لمآسي الحريم الجنسي حيث يكلف المجتمع المرأة بحراسة حريمها، وتتحمل وحدها عواقب أي اتصال جنسي يجري بين شخصين، ويؤطر العقاب الاجتماعي في مفهوم «العار» كقاموس متكامل من تعبيرات الشرف الذكوري، في المقابل يفتح الباب على مصراعيه للرجل ليفاخر بعدد من ضاجعهن وهو بذلك ينسجم مع العرف الاجتماعي الذكوري الذي يرى علاقات الرجل فحولة مطلوبة، وتقوي رصيده الاجتماعي كرجل. لكن نفس هذا الرجل حين يرغب بالزواج يشترط في زوجته المستقبلية العذرية وأن لا يكون قد لمسها أحد.
إن هذا التناقض والازدواجية في تعريف الشرف في مجتمعاتنا، نتيجته الحتمية هي الفصام الاجتماعي، حيث تلجأ المرأة إلى الحيلة لإخفاء نشاطها الجنسي (رتق غشاء البكارة – بكارة اصطناعية – ممارسات جنسية دون افتضاض البكارة ..) لتتجنب وسمها بالعهر وبالتالي ضياع فرصة حصولها على زوج كأقصى الأماني لنيل الاعتراف الاجتماعي.
إن الطابع العام الذي يتم إنتاجه من خلال مسلسل التربية الاجتماعية هذا، هو خلق علاقات عاطفية مشوهة ومزيفة خالية من الصدق المتبادل، إضافة الى استمرار ربط الجنس كحق طبيعي قوامه الرشد والرضائية، بالتدنيس والخطيئة، وغض الطرف بل وتبرير مختلف العلاقات المشوهة (بيدوفيليا- اغتصاب زوجي- تحرش- اغتصاب..).
كما تشير الأستاذة «رحاب منى شاكر» ‘لى عدة أسئلة راودتها وهي تقسم الحريم إلى أصناف، ومثالها : هل جاء الحريم الجنسي تاريخيا قبل الحريم الاقتصادي أم بعده؟ بمعنى: أيهما الأساس الذي انبنى عليه الآخر؟. لتعقب على الأسئلة باستشهاد للمرنيسي من المقالة ذاتها تقول فيه إن الجنسانية هي الصفة الإنسانية الأكثر طواعية في يد المجتمعات لعرك أفرادها وفق مآربها، هذا يعني أنها وسيلة أكثر من كونها هدفا بحد ذاته، فأستنتج أن الجنسانية قد تكون استخدمت لضبط الحريم الاقتصادي. ولكن المرنيسي لا تنسى من ناحية أخرى أن تشير إلى مقولة فرويد بأن الذاكرة البشرية البدائية مبنية على خوف الرجل المتأصل من قدرة المرأة على الإنجاب، فيبقى تساؤلي عالقا إلى حد ما. ولكني أميل إلى تصديق أن كلا الحريمين، الاقتصادي والجنسي، ينقلبان مع مرور الزمن إلى أداة جبارة لإقصاء المرأة عن حقل السياسة الذي بوسعه منحها حق التغيير والقرار حول مصيرها، وتحقيق ذاتها كإنسانة كاملة القيمة. وهنا تنقلنا الدارسة إلى خوض غمار مفهوم جديد هو «الحريم السياسي».

4 – الحريم السياسي

بعد تعرفنا على الحريم الاقتصادي، الحريم العائلي والحريم الجنسي، وهي تحديدات وضعتها النسوية رحاب منى شاكر من خلال تعقبها لأثر الحريم في كتابات السوسيولوجية المغربية الراحلة فاطمة المرنيسي، نتوقف عند مفهوم الحريم السياسي، من خلال استدعاء كتاب «سلطانات منسيات» الصادر سنة 1990. حيث سعت الكاتبة الى فتح كوة ضوء للتعرف على النساء اللواتي وصلن لسدة الحكم في التاريخ الإسلامي. وفي معرض بحثها، تطرقت إلى مفهوم مهم من الناحية السياسية وهو الخلافة. وتطلعنا رحاب منى شاكر على تحيز معجم «لسان العرب» في أمور توزيع السلطة السياسية، فكلمة «خليفة» لا تصلح إلا للمذكر، ولا يمكن تأنيثها لغويا.
وتتبع المرنيسي ابن خلدون الذي ميز بين الخلافة من ناحية، والمُلك أو السلطان من ناحية أخرى. فالمَلِك ينشغل بإدارة مصالح الرعية على الأرض فقط، بينما يأخذ الخليفة الدنيا والآخرة على عاتقه. يحل الخليفة محل الأنبياء، ولكن تنقصه حرية الملك الطاغية، لأنه مرتبط بالشريعة التي لا يستطيع تغييرها. هذا الفرق بين الخلافة والمُلك مهم، لأن النساء القليلات اللواتي حكمن في التاريخ الإسلامي لا يستطعن ادعاء ما يتجاوز السلطة الأرضية، فلا يمكن لأي كانت بلوغ مرتبة الخلافة، فهي ابتكار محجوز للعرب والذكور فقط. ورغم أنه حصل كثيرا أن تحدى أعجمي هذه المعادلة وأطلق على نفسه لقب الخليفة، كما حصل إبان الخلافة العثمانية مثلا، إلا أنه لا توجد امرأة على مر التاريخ تحدت ذلك التقليد العنصري.
أشارت «رحاب منى شاكر» لملاحظة المرنيسي أن الشخصيات النسائية التي فازت بالإدارة الدنيوية للبلاد، لم تتمكن من ذلك إلا بعد تزعزُع مركزية الخلافة الإسلامية وتبعثُر السلطان على ولايات. ومع ذلك، كان الخليفة يمتنع في غالب الأحيان عن المباركة الروحية لمنصب المرأة الجديد، فتبقى ضعيفة وتستقوي عليها الولايات المجاورة، كما حصل على سبيل المثال مع «شجرة الدر» في مصر.
لذلك كانت المولعات بالسياسة والسلطة يحتجن غالبا إلى سند أب أو ابن محب أو عشيق ولهان بمرتبة خليفة/رئيس دولة، ولذلك أيضا لم يكن يوفرن الحيلة ولا الأساليب الذكورية في الحصول على المناصب (كالحرب والقتل). كن يقمن بكل ذلك انطلاقا من موقعهن في الحريم، لأنهن يعين أهمية الحفاظ على الخط الفاصل بين المجالين العام والخاص. فطالما اضطررن لمواجهة جماعات تريد أن تلحق الأذى بمصالحهنّ باسم الروحانية والدين.
وتورد «رحاب منى شاكر» استنتاجات المرنيسي لتؤكد على أن الجنس والسياسة مرتبطان تماما، بحيث يستحيل تمييز أحدهما عن الآخر، ولا سيما في الثقافة الإسلامية التي ترمز فيها علاقات الرجال بالنساء لعلاقة سلطة المجتمعات التي حددت هوية الرجل ورجولته بقدرته على تحجيب المرأة ومراقبتها.
ومن اللافت أن السلطانات الإسلاميات اللواتي أُذيعت أسماؤهن في خطب المساجد وسُكت النقود على شرفهن أثناء حياتهن، كن دائما مسلمات من أصول غير عربية. هل يدل ذلك يا ترى على أن التقاء الإسلامي بالعربي يزيد من التسلط الذكوري؟ وكيف يحصل ذلك؟ في معرض بحثها عن جواب، تتفاجأ المرنيسي بالعثور على عدد من الملكات العربيات اللواتي نسيهن التاريخ تماما، لا أحد يأتي على ذكرهن، حتى صارت قصصهن تبدو خرافية كما لو أنها قادمة من «ألف ليلة وليلة».
وهنا نصل إلى أحد أخطر أسلحة الحريم: حجاب النسيان ! نسيان تاريخ جميع النساء، ومن بينهن الملكات، ونسيان مشاركتهن في صنع التاريخ والحياة ودفنها في اللاشعور. وتؤكد المرنيسي على فك حصار هذا الحريم من خلال النبش في المكتبات، وبالأخص كتب الذين عرف عنهم أنهم عارضوا السلطة، لأنهم سيكونون ميالين لالتقاط الأصوات المهمشة والمعارضة أكثر من غيرهم. كما تؤكد على أهمية قيام النساء بهذا العمل بأنفسهن، لأن أهم العلماء الذكور أثبتوا عن جدارة أنهم سوف يتناسون، فينسون النساء.
كما تتساءل المرنيسي ما إذا كان مشاركة المرأة السياسية قد تحسنت في العصور الحديثة، وتجيب أنه رغم قبول بعض البلدان الإسلامية اللعبة الديمقراطية شكليا، إلا أن ميادين السياسة ما زالت حكرا على الرجال حتى الآن، بل هي أشبه بـ «مقصورات الحريم»، كلها جنس واحد. جنس واحد يفكر ويجهد نفسه لتنظيم مسألة الجنس الآخر في غيابه. وهذا لأننا مازلنا مجبرين ضمنيا على العمل على مسرح مزدوج.
فإلى جانب المسرح الخليفي التقليدي الذي يتميز به الشعب بالسلبية، ينتشر منذ نهاية الاستعمار والوصول إلى الاستقلال مسرح ثان، المسرح البرلماني، حيث يمنح الشعب فيه عقلا ويتمتع بكل الحقوق بما في ذلك حقه بتعيين رئيس الدولة الأعلى، الأمر الذي يمكن أن يوصل إلى مزاعم مضللة كانتخاب امرأة. ما زلنا نتأرجح بين هذين المسرحين المتعارضين، وغير قادرين على حسم أمورنا، فتستنفد طاقاتنا في ذلك الرقص المعتوه.

5 – الحريم الأوربي المتخيل

تنطلق «رحاب منى شاكر» في معرض حديثها عن الحريم الأوربي، مما رافق ترجمة السيرة المتخيلة «نساء على أجنحة الحلم»، حيث قامت المرنيسي بجولة في أوربا للترويج لكتابها. وأثار انتباهها أن معظم الصحفيين الرجال الذين قاموا باستجوابها كانوا يبدؤون بالسؤال التالي: «أنت ولدت في حريم إذن؟». ويرفق بابتسامة غير بريئة تعلو وجوههم جميعا. وكانت المرنيسي تستغرب كيف يمكن لهذه الكلمة الحبلى بالألم أن تثير الضحك، وما هو الطريف في موضوعة الحريم؟.
انطلاقا من هذا السؤال، بدأت المرنيسي رحلة بحث طويلة أدت إلى خط كتابين، الأول عبارة عن خربشات لأفكار تبلورت في الكتاب الثاني.
ومن هنا، استحضرت رحاب منى شاكر، إسهامها في تعقب خطوط الحريم الأوربي من خلال كتاب «شهرزاد ترحل إلى الغرب» الصادر 2001. والذي حاولت المرنيسي عبره فهم الرجل الغربي من خلال الفن وبعض ما كتبه الفلاسفة. تقرأ كانط مثلا، فيلسوف التنوير، وتستغرب فصله بين الجمال والذكاء : المرأة عنده تكون إما جميلة أو ذكية. يا له من خيار فظيع تواجهه المرأة الغربية إذن. وتتوصل المرنيسي إلى استنتاج تعميمي بأن الحريم الأوربي لا يقسم العالم إلى خاص (للنساء)، وعام (للرجال)، وإنما يفصل بين الجمال (للنساء) والذكاء (للرجال). ويا لها من عملية انتحار إذن حين تحاول المرأة تطوير ذكائها ومعرفتها.
وفي معرض مشاهدة المرنيسي لأفلام الحريم في هوليود، لا تشاهد سوى الأمراء الراضين جدا عن أنفسهم، والجاريات المتحلقات من حولهم دون حقد أو شكوك. كما تمعنت في لوحات إنغر وماتيس وبيكاسو المكتظة بالنساء العاريات أو نصف العاريات، والمستسلمات لنظرات الفنانين الذكورية. معظمهم كانوا مولعين بالمحظية التي استوردتها مخيلتهم من بلاط السلطان العثماني لتطري بخضوعها على بطولاتهم الشخصية. لوحات مليئة بالنساء الشرقيات المضطجعات على الأرائك المخملية، أو المتكدسات في الحمام التركي، واللواتي يوحين بالسلبية الجنسية، ولا يشكلن خطرا على الناظر إلى الحريم المتخيل. المتلصص على لوحات الحريم يشعر بالأمان بشكل عام.
أما الرجل العربي أو المسلم، بحسب المرنيسي، فيداهمه الإحساس بالخطر حين يكون وسط حريمه، وبالكاد يخفي خوفه من النساء اللواتي سوف يستخدمن قدراتهن الكامنة عاجلا أم آجلا.
الحريم الأوربي (المتخيل) حسب المرنيسي لا يشبه الحريم الإسلامي في شيء، إنه صورة مبسطة ومشوهة عن الأصل، ولا يعبر سوى عن الرجل الغربي وعلاقته مع المرأة. وهنا تتساءل المرنيسي ما إذا كان العنف الممارس ضد المرأة في الحريم الإسلامي نابعا عن الاعتراف بأنها كائن يملك عقلا خطيرا، وما إذا كان الارتياح عند الرجل الغربي نابعا عن تصور المرأة ككائن عاجز عن التفكير والتحليل.
وفي ذات السياق ترى المرنيسي الحريم الإسلامي مكانيا بالدرجة الأولى ويفصل بين الداخل والخارج، أما الحريم الأوروبي فهو زماني، ويفصل بين اليفاعة والتقدم بالسن. الأول يحجب المرأة بعيدا عن ميادين الحياة العامة، أما الثاني فيحبسها في طور الطفولة وينبذها عندما تنضج.

الحريم الأوربي الإسلامي

استمرارا في بسط خطوط مفهوم «الحريم الأوربي»، كما حددته الكاتبة والنسوية السورية «رحاب منى شاكر»، حيث تنطلق هذه الأخيرة من كون الحريم الإسلامي ليس بريئا تماما من قيود الجمال والزمن التي يتم قوقعة النساء فيها بخطابات الموضة ومعايير الجمال والتي ترعاها مؤسسات الإعلام الغربية في تسويقها للجمال عبر مواد استهلاكية وصيحات رائدة. فتتوقف الدارسة عند زواج القاصرات كصورة مصغرة لقيود الجمال والزمن، وتستفهم حول أسباب خوف المرأة الناضجة أن يتزوج زوجها عليها بامرأة تصغرها سنا، وإصابة بعض الشابات بداء الريجيم.
ومن منطلق كل هذه الأسئلة تؤكد أن المرأة العربية ربما ليست ضحية الجمال ومقاسات الخصر المذهلة بالقدر الذي تعاني منه المرأة الأوربية، ولكن ذلك لأنها مازالت حبيسة المكان واللباس «الشرعي» والحجاب، ولم تختلط بحرية في عوالم الرجال إلى درجة تضطرها إلى تقييم يفاعتها من خلال مقاس خصرها واحمرار خدها.
أيضا تتوقف «رحاب منى شاكر» بتمعن عند مقارنة المرنيسي بين الحريم الأوربي والحريم الإسلامي كما عرفناه عند السلاطنة والخلفاء، وتستغرب مهاجمتها الأول أي الحريم الاوربي بشراسة، بينما تبتكر الأعذار الخجولة للثاني، أي الحريم الاسلامي، فمن أين جاء تسامحها مع الخليفة هارون الرشيد فجأة، وبخاصة أننا نعلم أن الحريم شهد ازدهارا غير مسبوق في العهد العباسي، ألا يتواتر أن ذلك الخليفة بالذات كان يمتلك ألف جارية أعجمية؟.
في هذا السياق انتقدت «رحاب منى شاكر» مبالغة المرنيسي في رمنستها لحياة الجاريات اللواتي قدرن برأيها على التملص من قدرهن الحزين عبر التميز عن الأخريات. فاتخذت المرنيسي من شهرزاد الجميلة والمثقفة أمثولة لها دون أن تتوقف طويلا عند النساء اللواتي قتلهن شهريار قبل تآلفه مع شهرزاد. وتقر صاحبة مفهوم الحريم الأوروبي أن المرنيسي ربما كانت قلقة بخصوص تفوق الغرب (المستعمر السابق)، ومن فوقيته حيال التاريخ الإسلامي، وهو ما دفعها الى الدوذ عن تراثها برومانسية وتفاؤل مجحف.
على الطرف النقيض تدافع رحاب منى شاكر عن الخيار الأجدر ألا وهو مهاجمة الحريمَين (الإسلامي والأوروبي) بالضراوة والشراسة ذاتها. لكن يبدو أن المرنيسي الشابة كانت أقل ميلا للتفاوض مع التراث الإسلامي من المرنيسي الأكبر سنا.
كتبت المرنيسي أيضا كتابا آخر له أهميته في فهم جوانب أخرى من الحريم في أوربا، وهو «هل أنتم محصنون ضد الحريم» الصادر سنة 1998، ومن الأسئلة التي طرحتها من خلاله على سبيل المثال لا الحصر، كيف يكون صاحب القرار في مدينة (أوربية) تعمل فيها النساء؟.
وهو سؤال جوهري في الحضارة الحديثة. ويبدو بالفعل أن المرأة سوف تواجه أنواعا جديدة من الحريم والمقاومة حالما تخرج إلى العمل وتتقدم في مشوراها التحرري، كما حصل مع المرأة الأوربية مثلا. إن نموذج عارضة الأزياء الطفلة الهشة المنتشر في أوروبا، والمحبوب من قبل الفتيات، ليس سوى أحد أساليب «تعويض» المرأة عن تفوقها المهني والمادي وخروجها عن حدود الحريم. وترى «رحاب منى شاكر» احتمالية وجود أساليب لم تختبر بعد في رد المرأة إلى موقعها في الحريم إثر كل محاولة خروجها منه، وحسبها فدراسة الحريم الأوربي ربما تكون بوابة لاستشراف المستقبل بهذا الخصوص.

6 – ظاهرة الحريم

وفي ختام بسطنا لتتبع «رحاب منى شاكر» لأشكال وتمظهرات الحريم في كتابات المرنيسي، تستفهم عن الأسباب التي دفعت المرنيسي إلى بذل كل هذه الكلمات في سبيل وصف ظاهرة الحريم وفهمها. لتجيب أنها حاولت عبر هذا النموذج التبسيطي النفاذ إلى لب المشكلة القائمة بين الرجال والنساء، ألا وهي الفصل بكل أنواعه بين الجنسين والذي يميز العالم الإسلامي أكثر من غيره. فالحريم نموذج تحليلي محلي قدمته المرنيسي لنا لنضع معاملاتنا وسلوكياتنا وعواطفنا وأخلاقياتنا تحت المجهر، ونكشف عن خوف الرجال من النساء والذي يدفعهم إلى حصرهن في المكان، وإيجاد شتى الرموز والطرق للحد من نفوذهن وتمكين القبضة عليهن.
وبهذا ندرك أن اضطهاد المرأة، بكل أشكاله، نابع من بنية تحتية عميقة اسمها الحريم، وتقصد هنا رحاب منى شاكر بالاضطهاد كل ما نخبره من حَجب المرأة إلى الحد من حرية حركتها، من تزويجها الباكر إلى تطليقها التعسفي، ومن الشتيمة الجنسية إلى رجمها بالحجارة، ومن منعها عن التعليم والعمل إلى تحريم ممارسة السياسة عليها، ومن حصرها في دورها البيولوجي إلى مصادرة جنسانيتها إلخ. وتؤكد أنه لن يتم التخلص من كل هذا البُغض حيال النساء في المجتمع الا بالوعي بأبعاد المشكلة الكبيرة وتجذرها، ولفت الانتباه لتغلغلها العميق في لغتنا ومشاعرنا ومعاملاتنا. من لا يرى الحريم في التفاصيل، لن يتمكن من الخروج منه وهدمه.
وحول الحلول التي قدمتها المرنيسي، تؤكد الدارسة غياب الوصفة السحرية للتخلص من كل أنواع الحريم دفعة واحدة. ولكن المرنيسي كانت بعملها الفكري نموذجا يحتذى به، فهي لم تكن كسولة، ولم تخف من المحرمات، وتجرأت في مرحلة ما على الغوص في أصعب المواضيع وأكثرها حساسية. وأعادت بعض شغل الأئمة والعلماء المسلمين من منظار امرأة تتوق للحرية ومؤمنة بكيانها الأنثوي وقدراتها. كما نبشت في سير بعض الشخصيات النسائية التاريخية وأعادت صياغتها. آمنت المرنيسي بالكتابة إلى أبعد الحدود، وأرادت للمرأة أن تخرج من طور الشفوية الذي تحبس نفسها فيه منذ عصور، لتتسلق القلم، مودّعة الصمت / الحجاب.
بالإضافة إلى إسهامها النظري، قدمت المرنيسي بعض الدراسات الميدانية التي جعلتها تعي وضع النساء في بلادنا بشكل جيد، وتكتشف مدى أهمية العمل والتعليم بالنسبة لتمكين المرأة. وسبق وتطرقنا إلى موضوعة العمل في فقرة الحريم الاقتصادي كما صاغته رحاب منى شاكر. أما بالنسبة للتعليم، فالمرنيسي لديها الثقة الكاملة أنه سوف يعمل على تقويض أسس الحريم. وهي لا تقصد طبعا أن تتوفر بعض الفرص التعليمية الممتازة لنساء النخبة، لأن هذا لن يزيد الطينة إلا بلة، وسوف تنقسم النساء في ما بينهن إلى نخبة متعلمة وخادمات أميات. فالرجال لن يساعدوا النساء، وستضطر المتعلمات إلى الاعتماد على نساء الطبقة الدنيا لإتمام أعمال المنزل، ريثما يرجعن من أشغالهن المهنية والثقافية منهكات.
ما تطمح إليه المرنيسي فعلا هو أن ينتشر التعليم في كل أنحاء المجتمع وطبقاته، بين الأغنياء والفقراء، الصغار والكبار، الذكور والإناث، وأن يحصل الجميع على تكوين مهني يؤهلهم للعمل المثمر والعيش الكريم. حين نتعرف على نسبة الأمية بين النساء القرويات في بلدها الأم المغرب، لن نستغرب اهتمام المرنيسي الكبير بتعليم المرأة والقضاء على الجهل بشكل عام.
وفي هذا السياق تورد «رحاب منى شاكر» اقتباسا مقتطفا من كتاب «شهرزاد ليست مغربية» (ص 77). «فكرة تعلم النساء كانت مدنسة لدى كثير من العلماء. وهم محقون في ردة فعلهم، لأنها فكرة انفجارية تدمر الهندسة الجنسية التي تقسم المكان إلى داخل وخارج، إلى أمكنة للنساء وأمكنة للرجال؛ هندسة تعرّف الذكورة على أنها نبذ للأنوثة ومحو لها».
«لذا يُفترَض بالذكورة لكي تؤكد على نفسها من الآن فصاعداً أن تمتلك معايير مختلفة عن النبذ والسلبية وغياب النساء. كان هذا انهيار المدينة التي هندسها الأجداد، حيث النساء أفاع سامة يجب وضعها بعيدا في الأمكنة «الحرام» القاتمة والصامتة ليستتب النظام. وتصدّع هذه الهندسة التي تضفي صفة الجنس على المكان وترفض لقاء الذكوري بالأنثوي سيتم بفضل التعليم».


الكاتب : لطيفة زهرة المخلوفي

  

بتاريخ : 02/10/2021