الدبلوماسية المغربية عبر التاريخ: 1 – التدبير الدبلوماسي للمخزن لقضية حرية الاعتقاد والتدين التي طرحت في مؤتمر مدريد

يجمع المؤرخون المغاربة والأجانب على أن المغرب بلد يضرب في عمق التاريخ بجذور تمتد إلى ما قبل العهود الرومانية والفينيقية والبيزنطية، وفي هذا دليل على أن الرافد الأمازيغي في المغرب شكل منطلق هذا التاريخ وأسس حضارة الشعب المغربي. وعلى العموم استطاع المغرب أن يرسخ مكونات الدولة المغربية من العهد الإدريسي إلى العهد العلوي مرورا عبر مختلف الأسر التي حكمت المغرب. ومن مميزات الدولة المغربية على امتداد العصور أنها حرصت على ربط الجسور مع دول البحر المتوسط وإفريقيا جنوب الصحراء والمشرق العربي والإسلامي ودول عبر المحيط الأطلسي. وهذا ما تسنى لها أن تقيم علاقات دبلوماسية وطيدة مكنتها أن تتبوأ مكانة دولية عززتها بما راكمته من إنجازات تمثلت في تنظيم سفارات وبعثات إلى كثير من الدول، وكذلك من تمكين هذه الأخيرة من فتح قنصليات لها على التراب الوطني.
وهي إنجازات تعود أكثر إلى القرن الثامن عشر، حيث استطاع من خلالها المغرب أن يكسب مقومات النهضة وبناء جسور الحداثة.
إن هذه المحطات البارزة في تاريخ المغرب المجيد جديرة بالاهتمام بها والعودة إليها من منظور جديد حتى يستطيع القارئ المهتم اليوم أن يقيس مدى حضارة بلاده وعمق تجذرها في الفضاء الجهوي الذي تنتمي إليه. وفي هذا الإطار ارتأينا أن نقدم جانبا من إصداراتنا التي انكبت على هذا الموضوع، تضيء بالخصوص العلاقات التي نسجها المغرب مع دول أوروبا وأمريكا اللاتينية. يتعلق الأمر في هذا المقال بتقديم كتاب (العلاقات المغربية النمساوية – الهنغارية: تاريخ وذاكرة المشتركة)، والذي نشره مجلس الجالية المغربية بالخارج سنة 2020، والذي نتمنى أن يجد فيه القارئ المهتم مادة دسمة حول عراقة هذه الدبلوماسية وما اتسمت علاقات المغرب الخارجية من زخم على أكثر من مستوى.


لم يكن العامل الرئيسي من دعوة بريطانيا القوى الغربية من أجل التفاوض حول المسألة المغربية في مؤتمر مدريد في حد ذاته، وإنما كان غزوا انضافت إليه مسألة التلاعب بالنسيج الطائفي المغربي حتى بدا يجري الحديث عن أقليات داخل المغرب تبعا لنغمة جديدة اعتبرت مقدمة وإعلانا عن بداية انفصال شريحة مجتمعية كانت مهيأة لذلك. فكان اليهود المغاربة المستهدفين من الدعوة إلى تقنين مسألة الحمايات القنصلية من جهة، والدعوة إلى حرية التدين من جهة أخرى. فأصبح المغرب حلبة التفاوض لصناعة هوية مغربية مغربة ومؤوربة في الآن ذاته. وفي هذا السياق يسعى هذا الكتاب إلى رصد وكشف العديد من التفاصيل الصغيرة التي همت طرح مسألتي الحماية وحرية التدين، وبلورتها لإبراز مدى فاعليتها في صناعة قرارات مصيرية كبيرة.
وباسم الدين واصل التيار التنصيري عمله في المغَرب، واتَّخذ جميع الوسائل الممُكنة لتحقيق هدفه المنَشود، ألا وهو تمسيح المغاربة، وتمثَّل هذا الأمر في استغلال الفاتيكان لمؤتمر مدريد، الذي عقُد للنظر أساسا في مشُكلة الحماية القنُصليَّة، لكن سرعان ما وجدَ فيه الفرصة السانحة لطرح مسألة حرية التديُّن في المغرب. وكانت دولة النمسا- هنغاريا صاحبة هذا المشروع إذ كلف الكونط لودولف ممثل النمسا – هنغاريا بإعداد مشروع الخطاب الذي سيوجه إلى السلطان وتقديمه إلى المؤتمر.
توصل السلطان مولاي الحسن بالرسالة السالفة فاندهش لما جاء فيها غاية الاندهاش، لأن المفوضين الأوربيين إذا كانوا يقصدون حرية ممارسة الشعائر الدينية لرعاياها اليهود- إذ لا يوجد في المغرب من غير المسلمين سوى اليهود أهل الذمة – فإن ذلك مضمون لهم منذ القدم، أما إذا كانوا يريدون بحرية التدين السماح للبعثات المسيحية بتنصير المغاربة فإن ذلك مرفوض، والبابا نفسه لا يسمح بأن يغير أحد من أهل ملته دينه، فكيف يطلب من السلطان أن يقبل من بارتداد رعاياه عن دينهم؟ ونظرا لما يكتسبه هذا الأمر من خطورة استفتى السلطان العلماء لأنهم ورثة الأنبياء والحكام على الملوك، مثلما الملوك حكام على الناس، فأجمعموا كلهم على رفض المقترح البابوي ولم يقبلوه لما فيه من مخافة لأحكام الدين الإسلامي.
لم نعثر حتى الآن على النسخة الأصلية لرسالة مندوبي الدول في مؤتمر مدريد إلى السلطان مولاي الحسن، ولا على الجواب السلطاني عنها، ولكننا عثرنا على مشروع جواب أعده قاضي الجماعة بفاس العلامة سيدي محمد بن عبد الرحمان المدغري( )، وهو لا يحمل تاريخ اليوم ولا الشهر الذي كتب فيه واقتصر على ذكر العام الذي هو 1297ه (1880م)، لذلك ارتأينا نشره بعد الجلسة الثانية عشرة التي تناول فيها المؤتمرون مسألة حرية التدين بالمغرب.
توجد من مشروع الجواب السلطاني نسخة أصلية محفوظة بمديرية الوثائق الملكية (سجل 922.29- محفظة مؤتمر مدريد)، وهذا نصه:
الحمد لله
اجتمع أجناس النصارى و كتبوا كتابا أجابهم عنه قاضي الجماعة، العلامة مولاي محمد بن عبد الرحمان عام 1297 بما نصه:
وبعد، فقد وصل كتابكم صحبة خديمنا بركاش، ووقع منا بالبال ما تضمنه من أن البابص( ) الكبير يطلب إجراء حرية الأديان في المغرب، وأن حضرة والدنا السلطان سيدي محمد أعطى دلائل كثيرة من سماحته وإحسانه للرعايا غير الإسلام عام كذا وكذا، وأنعم بكتاب التحرير عان كذا على موشي( )، وفي هذا الكتاب توضيح أن جميع رعية المغرب تكون لهم المساواة أمام الشريعة، بحيث لا يقع لأحد منهم ظلم في نفس و لا مال، وأن الظهير المذكور أبطل كثيرا من الأوامر عن غير المسلمين، لكن إلى الآن لم تبطل بتمامها، إذ لازال البعض منها يستعمل في الأماكن داخل الإيالة، فلم تحصل لهم حرية التصرف في دينهم، فخولف المقصود من الظهير الشريف، والقاعدة العامة وهي مساواة جميع الرعية في الحقوق وأمام الشريعة، وأن السلطان العثماني وافق على ذلك وكتبه في شريعة بلاده عام كذا، وأثبته من بعده عام كذا مع أنه لا شك موافق مع الدين المحمدين وأنكم في المرين الأول جميع المستقرين الآن في المغرب وفيما يستقبل لهم اتباع دينهم فلا تعرض، الثاني وقوع الإذن من الدولة أتكون نصوص الشريعة الثابتة في المغرب جارية على مقتضى نص الكتاب الشريف وحل ايكون فرق أمام الشريعة في جميع الأشغال كغيرهم من المسلمين، وأنه وقع ذلك يظهر نفعه للكرسي الشريف وإيالته، ويفتح بذلك باب جديد من السعادة إلخ.
فاعلموا أن ما ذكرتم من أن والدنا المقدس أعطى دلائل كثيرو من سماحته وإحسانه لغير المسلمين وأنكم طامعون أن يكون لنا حرص على ذلك مثل ما طلبه الباباص الكبير من إجراء حرية الديان في المغرب هو في هذا الوقت متعسر بل معتذر، وقد عرضنا على ذلك على أعيان الدولة وعلماء ديننا فنفروا منه وأنفوه، إذ لم يعتادوه في دينهم ولا عغرفوه، وقالوا إن ذلك العمل بذلك على الإطلاق يؤدي إلى كثرة الفتن و الهرج والشقاق، واحتجوا بأن الأمر الشائع المشهور المقرر لدى الخاصة م الجمهور، أن دين الإسلامية الأمة المحمدية منقول بالسند الصحيح المتواتر، من أوله أوله إلى الآن رواية الأكابر،خصوصية تفضل بها الحق سبحانه حسبما اقتضته حكمته وأبرزته عن سابق علمه وإرادته وقدرته يريد به كتابه العظيم الذي ” لاياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد”،تكفل لله به، فهو محفوظ على ممر الأزمان، لا يلحقه تبديل ولا تغير ولا يطرق ساحته بهتان. وعليه فخرية الأديان بالمعنى المعروف عند من قال بها، والحالة المقررة عند أربابها خارجة عن الدين بالدليل و البرهان مضادة له كما لايختلف فيه اثنان فلا سبيل إلى العمل بها وغلا بطلت الشريعة.
وما ذكرتم من أن السلطان العثماني وافق على ذلك، وأثبته من بعده، وأن السلطان سيدي محمد أنعم على موشي بكتاب التحرير أجابوا عنه بأن ذلك على فرض وجوده وصحته لا يلزم الأمة لما تقرر من أن المدار على ما ثبت بطريقه المعلومة وخصوصيته، والأمر في هذا بخلاف ذلك ، فلا سبيل إلى العمل بما هنالك، وأيضا قد تقرر من قواعد دين الإسلام وأركانه الشهيرة عند الخاص والعام، أن العلماء حكام على الملوك والأمراء حكام على الناس، فتصرفات الملوك تعرض على الشرع فما وافقه منها يقبل ويعتمد وما فلا، إذ من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد كما ورد، على أن كتاب التحرير المشار إليهى إن لم يصرح فيه بشيء خاص يمكن حمله على التحرير من أمور العمل بها غير مناف للدين، ولاخرج عن سنن المهتدين، ومما تواتر واشتهر بين الناس أنكم معاشر الأجناس لا تسعون في هدم قاعدة لإصلاح أخرى، ولا توافقون على ذلك إنما السموع عنكم المذكور، سيما عند صدور هذا الجمع المشهور، أنكم تحافظون على إبقاء كل دين على قاعده الصلية، ويسير أهله على شروطه المقررة المرعية إذ بذلك يكمل التوافق ويقع الانتظام ويقع الانتظام ويقل الهرج في الأقطار بين الأنام.
وأما ما ذكرتم من أن حضرة والدنا المقدس أعطى دلائل كثيرة من سماحته وإحسانه لغير المسلمين، وأنكم طامعون في جانبنا أن يكون لنا حرص على ذلك مثل العثماني، فالأمر كما حكيتم وطمعتم إذ لا نحب لهؤلاء إلا الخير التام والإحسان العام، وعلى ذلك كان عملنا معهم فيما يات من الزمان وعليه يكون عملنا معهم في الخير بحول لله على ما كان، فنظرتكم فيهم ووصيتكم عليهم تراعى ولاتهمل غير أن ذلك يناسب أن يكون فيما لا يتفاقم فيه الأمر، أما إن احدث على الرعية الأمر الذي لم يألفوه فيرد ولا يقبل، والتأني في الأمور ومباشرتها بالرفق هو مجمع الخير وضده في العجلة والخرق.
وأما أمر المساواة أمام الشريعة فإن المراد من ذلك التسوية أمام الشريعة بحيث لا يفضل أحد أيا كان على واحد ولا يلحق البعض من البعض ظلم ولا جور، فهذا أمر جاءت به شريعة الإسلام ولم يزل معمولا به من أول الإسلام إلى الان، فمن خالفه حاد عن الحق وتعرض للملام، وإن كان المراد غير ذلك من أوجه التسوية كتناكح و شهادة أو لباس أو مركب أو غير ذلك فهذا أمر بيننا وبينهم شروط، من ابتداء عقد الذمة من خليفة نبينا سيدنا عمر رضي لله عنه ثابتة الدعائم محكمة الربوط، لا يمكن أن يفعل فيها ما يخالف الدين و إلا كان فاعله في ديننا من الملحدين وعلى ذلك كان لهم في السكنى معنا والاستقرار والمعاملة والمخالطة في الأسواق والطرق والديار، وما ظلم من أبقى ما كان واتبع وإنما الظالم من خالف ما كان وابتدع.
و أما ما يتعلق بالرواتب وأنها لم تبطل بتمامها وأن البعض منها لازال، فجوابه أن من يستعمل منهم أيا كان في أمر كيف ما كان، فإنما يستعمل بأجرته و عن طيب نفسه، وحيث
و أما في المال فلأن الغرب كثير التقلبات، فإذا وقعت فترة أوقع البعض بالبعض منهم ما لا يليق من فظيع التصرفات، ومرادنا نفعهم و إرشادهم لحسن الجوار مع المسلمين ليكونوا بخير معهم فيما يحدث وما يات كما كانوا كذلك فيما مضى وفات، وهذا أمر ضروري لا ينكره أحد عاقل فضلا عن فاضل.
و بالجملة لو اطلعتم كل الاطلاع على ما يدافع عنهم المخزن ويقاسيه في شأنهم لعذرتهم من يحاول أمرهم وتعجبهم من فعلهم، ومن لا يعرف بحق النعمة إلا عند فقدها ومن لم يشكرها فقد تعرض لزوالها.وقول الكتاب إنهم ليست لهم حرية التصرف في دينهم، مهاهم في كنائسهم في مواضع سكناهم يفعلون ما أرادوا ولم نسمع قط أن أحدا تعرض لهم في أمر دينهم، أعيادهم وأنكحتهم ومعاملتهم مما عوهدوا على عدم التعرض لهم فيه ولا يشوش عليهم في شيء من ذلك ، نعم إن كان المقصود رفاهية خاصة عوهدوا على تركها فهذه في إحداثها ضرر، لأن ذلك يؤدي إلى التفاقم و كثرة الهرج في الرعية، وهم بأنفسهم يعترفون بذلك إن صدقوا لله وأحسنوا الطوية، ولا حيف ولا عار على أحد في عمله عل سبيله المعروف وشكله المعتاد له المألوف، وإنما الحيف و العار في إحداث ما لم يعهد والإقدام على قواعد مؤسسة بالنقض والهد وتلك كل قوم في مثل هذا و ما اعتادوه وهو أولى بل الواجب في باب السياسة الذي ينبغي اعتماده.
وقول الكتاب يقع الإذن من الدولة الخ جوابه أن الجاري على ما تقدم من قواعد ديننا أن العالم حاكم على الملك لا العكس، أن يكون ما تضمنه الظهير الشريف معروضا على نصوص الشريعة الثابتة، فيرد الظهير للنصوص ولا ترد النصوص للظهير إلا لو كان الملك حاكما على الشرع و المر بالعكس، و لو قيل بذلك لبطلت الأديان وصار المدار على الملك وهو خلاف الواقع.
و بالجملة فالمعهود منكم والمنقول بالتواتر عنكم أنكم تتأملون حق التأمل في النوازل و لا تسرعوا و تعجلوا في أمر حتى تبحثوا ويتبين الحق من الباطل، وهذا شأن كل من يتولى أمور الناس أو الفصال لابد أن يستمع من الجانبين ثم يتأمل الجواب بعد تأمل الدعوى والمقال، فيرجع ما قواه الدليل والبرهان، ويلغي ما ظهر بالنظر الصحيح تلاشيه وبان، وهاهي النازلة و الدعوى وجوابها بيد ناقد بصير، فليبالغ في التأمل والتحرير.

(*) عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس – فاس (جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس)


الكاتب :   ذ. سمير بوزويتة (*)

  

بتاريخ : 08/08/2022