الدولة الوطنية والبعد الامبراطوري في ملكية محمد السادس -19- تطوان: حكم المدينة وإدارتها..بطريقة مختلفة عن سوس!

كتاب «حياكة (خياطة) الزمن السياسي في المغرب: خيال الدولة في العصر النيوليبرالي..» للباحث والجامعي محمد الطوزي كتاب رفيع وتوثيقي وجد جريء في تقديم أطروحته العميقة حول الدولة المغربية. وهو عمل طويل النفس تطلب من الباحث والمفكر محمد الطوزي ورفيقته في العلم والتنقيب التاريخي بياتريس هيبو، ثلاثين سنة من العمل تخلله البحث الميداني والحوارات والقراءات في الوثائق والاحداث إلخ… ونزعم أن في الكتاب أطروحة متكاملة وبنيوية لتاريخ الدولة فيها عناصر لم يسبقه إليها أحد، حسب ما اطلعنا عليه من مقاربات بشكل متواضع طبعا وطبعا.

(تقديم مقتضب: إذا كانت الإمبراطورية قد حكمت سوس عن .. بعد ، وقدمت نموذجا في السلطة غير معروف ومختلف عن مفهوم الدولة الوطنية المعتاد، فإن تطوان تقدم نموذجا آخر لإدارة مدينة وحكمها عن طريق شراكة مع أعوان محليين)

قبل سنوات، في ماي 1862، والحسن الأول ما زال خليفة على فاس كتب والده السلطان محمد بن عبد الرحمان رسالة، تمت قراءتها من أعلى المنابر في سوس، تدعو القبائل في المنطقة إلى التعبئة من أجل الدفاع عن الأحواز الجنوبية للإمبراطورية، من خليج أكادير إلى «رأس جوبي» بعد أن كان قد قاد حركة كانت قاسية بشكل خاص، وتم خلالها إرسال 50 رأسا مقطوعة لأناس من الرحامنة إلى شقيقه مولاي رشيد كي يتم تعليقها وعرضها على أبواب المدينة، والتذكير بالمصير الذي يخصصه المخزن للمتمردين.(انظر استقصاء الناصري حول هذا المقطع). وفي الوقت ذاته، عبرعن فرحته بإخلاء تطوان من طرف الإسبانيين وإعلانه عن إنشاء جهاز إدارة مباشرة لمنطقة الشمال لا علاقة له بالحكم عن بعد المعروف في سوس، ولا بالتدبير الاستثنائي الخاص بأمن الحركة.. قبل هذا التاريخ بشهر، أي في 14 أبريل 1862، كان قد عين الحاج العربي عشعاش عاملا على تطوان. وهذا المقطع يعطينا فكرة عن طريقة أخرى في الحكم، والتي سنتتبع تفاصيلها انطلاقا من تعيين أول عامل لتطوان قبل إخلائها من الإسبانيين.
والسياق كان خاصا إذ أن المغرب قد فقد، في ظرف سنوات قليلة، وضعه الاعتباري كإمبراطورية غامضة ويخشى جانبها، ذلك أن الهزيمة أمام الفرنسيين المستقرين في الجزائر العاصمة ابتداء من 1830، وهزيمة ثانية أمام الإسبانيين، أكثر ايلاما، لأنها انتهت باحتلال المدينة، قد خربتا الخزينة العامة وهيأتا للاستعمار.
وبين تعيينه في أبريل 1862 وإعفائه في 28 ماي 1864، توصل عامل تطوان عبد القادر عشعاش بمئات الرسائل. وقد نشر منها محمد داوود، مؤرخ تطوان، 104 رسائل، كلها مبعوثة من السلطان باستثناء ست رسائل: 2 منها أرسلهما مندوبه في طنجة ووزير الخارجية محمد بركاش، و3 من حاجبه أحمد بن موسى وواحدة من وزيره بليماني بوعشرين. وسيكون مطلوبا سرد كل هذه الرسائل، بيد أن السلسلة الأولى منها (29 رسالة ) تكفي لإعطاء فكرة عن النمط الخاص في حكم تلك المنطقة، كانت الرسالة الأولى موجهة إلى أهالي تطوان عن طريق العامل الجديد، والذي كان في طريقه إلى تسلم مفاتيح المدينة من يد الإسبانيين، وفيها يعبر السلطان عن سعادته بإخلاء هذه الأخيرة من طرف جنود العدو، ويحدد الخسائر التي تعرضت لها المدينة ويدعو التطوانيين إلى التعبئة من أجل استعادتها لبهائها، ولأجل ذلك يعلن تعيين رجل له تجربة ( إذ كان عشعاش عاملا على المدينة من قبل في عهد السلطان عبد الرحمان من 1844 و1850)، يعرف المدينة جيدا ويعرف سكانها، وتلت هذه الرسالة 28 أخرى خلال سنة 1862، 26 منها كتبها السلطان و2 من وزرائه.
تحدد الرسائل الأولى التي تكتسي طابع ظهير للتعيين، حدود التراب الذي يدخل في حكم العامل الجديد، وفيه يتم تحديد القبائل الخمس في تطوان بدقة بما في ذلك القبائل البسيطة (رسالة 14 أبريل 1862). وفيها يؤكد السلطان نيته على تطوير إدارة للقرب في مجال ترابي مقابل للإسبانيين. نجد أن المؤرخ داوود، يتفاجأ بأنه تم تخصيص ظهير لقبيلة بني معادْنْ، وهي فرع من بني «حزمر» المتكونة من 5 دواوير، وعلى قدم المساواة مع القبيلة الأم (30 دوارا) أو القبيلة الجبلية لبني سعيد(80 دوارا) وسيمتد تراب سلطة العامل الجديد إلى شفشاون، في أقصى البلاد الجبلية المهمة بفعل موقعها الجغرافي ونوعية ساكنتها على الخصوص، المكونة من الأندلسيين وشرفاء جْبل عامر .. وعلاوة على الرسائل التي تتناول أولاد تطوان من الجنود الأساسيين ـ والتي تشهد على الاهتمام الذي يوليه السلطان إلى حركاتهم ودقة المعلومات التي يملكها عنهم وعن مساراتهم وحركاتهم وسكناتهم تتناول رسائل السنة الأولى من استعادة زمام الأمور من طرف الإمبراطورية الشريفة، الطريقة الدقيقة للموضوعات الإدارية الجارية، من قبيل الضرائب المفروضة على السلع التي كان الإسبانيون يبيعونها بدون تضريب إلى تجار مسلمين إبان الاحتلال، توزيع قنطارين من البارود وألف بندقية على أهل تطوان، تعيين خبير في السلاح لشراء مدفع، بل نجد أن السلطان يبدي اهتمامه حتى بطراز المدفع وتجهيز حراس المدينة، والتي منحها 50 حصانا.


الكاتب : عرض وترجمة عبد الحميد جماهري

  

بتاريخ : 13/04/2023