الدولة الوطنية والبعد الامبراطوري في ملكية محمد السادس -35- المسؤولية بين الملك ومحيطه …والحكومة…

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث المتخصص في الانتروبولوجيا السياسية والبحث في شوون الدولة والاسلام السياسي، محمد الطوزي، وسلخ فيه، رفقة الباحثة اليزابيت هيبو ثلاثين سنة من البحث والتنقيب والتراكم.
وهو كتاب كل فصل فيه يشكل بنيانا قائم الذات، يسعى الباحثان من خلاله الى الدفاع عن اطروحة لم تكن بدهية حول الدولة، والبرهنة على تعايش الدولة ـ الامبراطورية والدولة ـ الأمة، بسجلَّيْهما المادي التاريخي و الروحي الرمزي، في راهن المغرب.
وهي عودة إرادية، لما لمسنا فيه من قدرة على تسليط الأضواء على فهم المسار الفيبيري (نسبة الى السيكولوجي الأمريكي ماكس فيبر) للدولة، وفهم الكثير من تحولاتها الراهنة.
وهوكتاب يمنح قارئه كما قد يمنح رجال السياسية في مراكز القرار والمناضلين أدوات التحليل الضرورية لفهم تحولات المغرب الحديث، وفهم الكثير من موضوعات الراهن السياسي والإعلامي المغربي (كما هو الحال في دستور 2011 وقدرة النخب السياسية والحاملين لمشاريع الليبرالية الجدد وتعالق شرعية الانتخاب مع شرعية التعيين في دولة تجمع سجلين ، واحد امبراطوري والاخر ينتمي الى الدولة ـ الأمة الي غير ذلك من المواضيع الراهنة).

في 2011، اغتنمت جمعية »مجموعة الحاملين للرسالة الملكية »انفجار الطلبات الاجتماعية تبعا لحركة 20 فبراير، ودخلت في مفاوضات مع حكومة عباس الفاسي، وفي إطار استراتيجية التفرقة وسط حركة 20 فبراير، عمدت هاته الأخيرة إلى تقديم وعد إدماج بدون مباراة ولا حتى مقابلات اختبارية لتوظيف 3500 مجاز عاطل، وهو الوعد الذي تم تضمينه ما أصبح يسمى من بعد »محضر 20 يوليوز 2011«. لكن وبعد الانتخابات التي جرت في أكتوبر 2011 وانتصار «البيجيدي «، رفضت حكومة بنكيران (في أبريل 2012) احترام هذا الالتزام بدعوى لا دستوريته. وقد جاء في تصريح لوزير الاتصال مصطفي الخلفي:» أن الإدماج المباشر غير ممكن من وجهة نظر قانونية باعتبار أن الدستور في فصلة ال31ينص بوضوح على ما يلي: » تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية، على تعبئة كل الوسائل المتاحة، لتيسير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين، على قدم المساواة، من الحق في: الشغل والدعم من طرف السلطات العمومية في البحث عن منصب شغل، أو في التشغيل الذاتي؛ وولوج الوظائف العمومية حسب الاستحقاق..«.
وعلى إثر ذلك، تقدمت تنسيقيات المجازين العاطلين بدعوى لدى المحكمة الإدارية بالرباط، التي حكمت، بناء على التزامات حكومة عباس الفاسي، لصالحها. وقتها استأنف رئيس الحكومة الحكم مبرزا بذلك إصراره . وبعد أن وجد نفسه محاصرا بين منطقين متناقضين، احترام الدستور مقابل احترام الوعود المقدمة، اقترح رئيس الحكومة تكوينا موجها لإعدادهم للمباراة أو الاستجابة لمتطلبات السوق.. وتواصل رهان القوة عبر التوجه إلى المحاكم إلى أن أصدرت محكمة الاستئناف في الرباط ، بتاريخ 4 غشت 2014، حكما لصالح الحكومة مبطلة بذلك قرار المحكمة الإدارية…
هذان الفصلان يبينان أنه بالرغم من التحويلات الجارية التي تمنح وزنا متناميا لمبدأ الشرعية القانونية، فإن الأفراد والمجموعات يواصلون اللعب بسجل الشخصنة والرخص الاستثنائية، غير المفصولين عن مبدأ الولاء للحصول على »عناية« السلطة. وبمعنى آخر، فإن المسؤولية الأبوية للملك لا ينظر إليها باعتبارها من ذكريات الماضي عنصرا عتيقا ومظهرا من تمظهرات الممارسة السلطوية للحكم بل باعتبارها تعبيرا راهنا عن عناية الدولة المطلوبة..
مختلف هاته التعبيرات عن المسؤولية »تشهد بأن السلطة المركزية استشعرت تاريخيا، بطريقة خاصة ولكن مستمرة، أنها مسؤولة »عن« ساكنتها بالمعنى الرعوي للكلمة. غير أن هذا الشكل من المسؤولية لا يعني لا متابعة ولا تقديم حساب لأي كان. وهو شكل ما زال مهيمنا، ويخلق آثارا شاذة مرئية، بقدر ما أنها تقع في لحظة يتم فيها اعتماد أشكال جديدة للمسؤولية، بفضل الدستور. ونحن نسمي أهم هاته الآثار. »أعراض المظل«… ومن نتيجة ذلك أن الجمع بين الإيمان الشعبي بقدرة الملك على معرفة كل شيء، وبقدراته على تجاوز كل معيقات الواقع من جهة، وبين احترازات الفاعلين السياسيين وتوجسهم من الإرادة الفعلية للحكم في تفويضهم بعضا من صلاحياته ( ما زالت إلى حد الساعة بيد الملك في النصوص ولكنها بيد محيطه في الواقع ) يفضي فعليا إلى استراتيجيات المراوغة والتهرب! فأمام هاته الإكراهات، الفعلية أو المفترضة، يفضل كل الفاعلين السياسيين الذين يتحملون المسؤولية أن يستمدوا أسس سلطاتهم ولا سيما شرعيتهم، من الملك شخصيا. وليس من آليات مؤسساتية أخرى. وهذا يمنحهم التمتع بلامسؤولية الملك حتى ولو كانوا مطالبين بتقديم الحساب له شخصيا، والتعرض أحيانا لغضباته وسخطه! وهذا يحررهم، فضلا عن ذلك، من أية مسؤولية.. وهذا هو حال رؤساء ومدراء المؤسسات العمومية، الذين يرفضون أي تدخل للوزارات الوصية عليهم في ( وزارة النقل بالنسبة للارام، ووزارة الطاقة بالنسبة للمكتب الوطني للكهرباء ووزارة المعادن بالنسبة للمكتب الشريف للفوسفاط).. وذلك باسم سمو العلاقة التي تربطهم بالملك.
بيد أن الأشياء تتغير، حيث أن مساحة هاته المؤسسات والمقاولات تتقلص حتى ولو أنه ما زالت مهتمة بتعليل ذلك بضرورة أن تخضع للزمن الاستراتيجي، بعيدا عن الدورات الانتخابية: ففي الصيغة الأولى أو الديباجة الأولى من القانون التنظيمي تطبيقا للفصل 49 من الدستور، لا نجد سوى 37 مؤسسة يتم تعيين مدرائها بظهير. في حين هناك دينامية مضاعفة ومزدوجة تعمل على تعديل ملامح وتعريفات المسؤولية.. هناك من جهة المجتمع المدني، سواء كجمعيات أو كأفراد، التي تزداد يوما عن يوم كمساهم فعلي بل كمجتمع مدني له رأيه في قضايا الحكامة هاته، وهناك وسائل الإعلام، وخصوصا الشبكات الاجتماعية، التي تزيد وتضاعف من الظاهرة، وذلك بتكريس أفراد عاديين كفاعلين مركزيين في ممارسة المسؤولية، في سياق ارتباك عام وخلل في التراتبية يزعزع المسؤولين ..أصحاب القرار. ومن جهة أخرى نجد أن الحكومة تعتنق أكثر فأكثر النظريات العالمية، وذلك بأن تدرج في مساحة مسؤولياتها السياسية مسألة الوقاية وتدبير المخاطر، على الطريقة التدبيرية…


الكاتب : عرض وترجمة: عبد الحميد جماهري

  

بتاريخ : 24/04/2024