بلاغة الدهشة في تجربة يحيى عمارة الشعرية

عَتَبَةٌ أُولَى :

الكتابة باليد تمزيقٌ لبَكارة البياض، وتمجيد لاحتراقات الذات ومكابداتها أمام سطوة الصبابة، وقول ما لاينقال في حضرة المعشوق وسرّ المقام، وتغدو اللغة وردة تسفح خجلها عطر خيال جامح، يكسّر قيود المواضعات المشتركة؛ بابتداع أفق شعريّ ينسج جدّته من مطاردة المجهول، واختراق جغرافيات لم يتمّ رفْع الحجاب عنها واكتشافها، ليكون السّبق للمجترح مسالك في القول والتشكيل والنّحت اللّغوي والتّصوير الشّعري، هي في حكم السّر المكنون، و يُعتبر الشاعر خالق لغته ومبتكرها ومثوّرها، قريبا من نبض الدّاخل بعيدا عن ظاهر الخارج، الّذي قد يفسد جمالية الخلْق ويُرْبك احتمالات القراءة . فهو المفلق المسْتشْكِل والمتسائل، المجدّد والمجدّ والمتجدّد، لايقبل الجاهز وإنّما يسعى إلى اقتراف جُنْحة المروق عن السّائد؛ بالنّسج المتخَلّق من رؤى الشّاعر وخلفياته المعرفية والثقافية، وتجربته في الحياة والكتابة. لهذا فالشاعر يروّض اللغة حتى تستجيب لنداء لحظة الكتابة بتموجاتها واهتزازاتها، بهواجسها المسكونة بالإبداع وصناعة المدهش والفاتن، وترويض البياض بالتشكيل الجمالي والفني، الذي يثوّر الخطاب ويضيء العتمات المتوارية في جوانية الذات، لإنتاج نص شعري يختلف مع المؤتلف ويتآلف مع المختلف، وتلك ميزة النصوص الخلّاقة والقادمة من المناطق المجهولة.

(1) عَتَبَةُ الدَّهْشَةِ
أَوْ بَلَاغَةُ التَّحْوِيلِ:

نص الدهشة ميزته بلاغة التّحويل والانصياع لرغبة المغايرة، ويكون قادرا على تكسير أصنام الحجْر الشّعري، بخرْق المألوف وتحدّي القوانين الموضوعة قيودا لكبح جموح الذات وتبدّل الواقع. وعليه فالنص يثير « الكوامن المثارة، وتصوير أحوالها، عبر هذه البنية التضادية، وتظهر تلك الحقائق والأحوال في صور متعدّدة وتجليات شتى «
ولعلّ الذات في تجربة الشاعر يحيى عمارة الشعرية تنحو هذا المنحى لكتابة تمنح للحب، بدلالته الصوفية وللقضايا الإنسانية ولإشكاليات الإبداع؛ منفذا لقول المخفي من اللواعج الدّفينة والمكابدات المضنية في صوغ شعريّ أخّاذ ومُبْهِرٍ، بخَلْق كتابة « تمرّ عبْر اللغة وعبْر الأسلوب قبل أن تمدّ الجسر لتختار شكلا» وتعبّر عن رؤى الشاعر للذات والواقع.
والكتابة بالخيال فتْقٌ للغة، وتفاعل عناصرها مع الأشياء مضفيةً على الكلام الشّعري سحره وبيانه المشعّ بالأنوار الهاربة من إيقاع الوجود، لمعانقة نسيج فنيّ يسْبرُ الأعماق الملتبسة في الذات والمجهولة في العالَم.
والتجربة الشعرية، التي نحن بصدد مناولتها، تعتمد على متخيّل مُدْهش، يُمثِّلُ جُمّاع ذاكرة أليافها معرفية وتاريخية ومعرفية، دينية وجمالية تتواشج وتتآلف لتُشكّل خطابا شعريا لا يؤمن بالمراسم والقواعد، التي تخنق إرادة الذات في تشغيل مقدراتها الداخلية لاستغوار الأغوار الحافّة بالوجود، لبناء لغة تبتعد عن المألوف والشائع، وهذا لن يتحقق إلا بامتلاك خبرة جمالية سابرة للمنجز التراثي والمعاصر، أدبا وشعرا ونقدا، لهذا فالشاعر يوظّف اليد كآلية للكتابة ووسيلة لاختراق عزلة البياض والخيال والتجربة؛ للتعبير عن رؤاه المشكّلة من تلاحم هذه العناصر وتشكلها في نصية شعرية ذات مرْمى جماليّ، يحقّق للخطاب الاستمرارية والتفاعل القرائي، ويجسّد هذا التشكيل الداخلي لتكوينها وتكوّنها الوعيَ بجدارة الإبداع في حياة الفرد و المجتمع، ليخلق « جسما تعبيريا لمعنى نهائي» على حد قول ب. كروتشي، باعتباره « نسقا فرديا ووحيدا من التضايفات الأسلوبية « التي تضفي على المعنى المجازي بعدا رمزيا يشحن النص بالظلال والإيحاءات يقول الشاعر 🙁 الليل الحائر/ ينشر أوراق الأحزان / على الطرقات / وأنت ابن البيت/ يفتتك التكرار إلى / طين من أشياء) فبين الزمن الحائر والطين رحلة الذات في تفاصيل هذا الحزن الذي يعزف إيقاع الرتابة على الطرقات ويصيّر العادة والمألوف فتكا وهتكا للإنسان، وفي هذا المقطع تتبدى «قدرة الشاعر على أن يجعلك ترى في الشيء أكثر من سطحه أو أن ترى عمقه وأنت تنظر في سطحه» ، وتزداد بلاغة الدهشة إغراء وإغواء، من خلال، بحث الشاعر عمّا يورّط المتلقي في معمعان عوالمه الشعرية الموشومة بطابع تجديديّ يخصّب اللغة إلى أقصاها اللانهائية -إن جاز لنا قول هذا- فالقصيدة غوص في السرائر ، غيْر أنّه بوح مختلف ولا يحتذي قالبا قائما ويكتب فيضه بعزف جديد قوامه الاحتراق والمكابدة يقول: ( بوح القصيدة/ في مرايا الشوك/ عرش الشاعر المجنون/ في ثلج الكلام/ ومعجم الآهات يكتب فيضه/ لا تشتر المعنى من العزف القديم/ وكن كتابا يرتدي ناي الدم…) فشعرية الاختلاف حاضرة في هذا المقطع سواء من حيث اللغة المجازية الموظفة بنية وتركيبا أو من حيث الدلالات. وهذا النهج المغاير يؤكّده يحيى عمارة بقوله: ( لغتي في سفينة صدْق رسَت/ حدّثت أصدقاء البلاغة قائلة: فتّشوا/ عن أغاني الحياة/ بهدهد حلمي/ ربّما تعثرون / على كتب، يتحدث/ فيها سليمان/ يحكي خيتنة بلقيس بين السطور) نهجٌ في الكتابة الشعرية لغته تدعو إلى فتح جسور مع أغاني الحياة كإشارة على الشاعر أبي القاسم الشابّي المجدّد، ومع التراث المتجلي في القرآن الكريم. مما يبرز أن الحداثة الشعرية اتصال وانفصال ، اتصال من حيث الوعي بأهمية التراث، وانفصال من حيث عدم الركون إلى القوالب الجاهزة بخلق الشكل الملائم لنداء العصر وتحولاته.

(2) اْلِإقَامَةُ
فِي الْمَنَاطِقِ الْمَلْغُومَةِ :

لاشك أن كلّ تجربة تقتضي الولوج إلى عوالمها من زوايا مختلفة، بقصد إضاءة خطابها الذي تؤسّسُه، ممّا يستدعي من الناقد توظيف كلّ الإمكانات التأويلية للحفْر عن معنى المعنى – بلغة عبد القاهر الجرجاني- آخذين بعين الاعتبار أن الشّعر يُبْتَدَعُ بوساطة لغة مفارقة ومنزاحة عن تداوليتها المعتادة ودلالاتها السائرة، وكلّ قراءة تفتقد روح الإنصات للمنجز الإبداعي ستكون عاجزة على الفهم والوعي بمفاصل الكتابة الشعرية وتعرّجاتها الغامضة، لأن « الشعر يمثل الغامض، والمتخفي خلف حُجُب الأشياء، والعصي على التعبير، فذلك يعني اللجوء إلى خصوصية في اللغة لا تحيلها إلى مجرّد «بلاغة» ببعدها البديعي الزّخرفي ، بل إلى مجسّد لقصيدة من نوع خاص،بل إلى شيء يمنح القصيدة ماهيتها من دون أن تكون لها ماهية متّفق عليها «. إنها شعرية المخالَفة التي تصبغ النص الشعري بسمات جمالية مفتوحة على رحابة التأويل، وبعيدة عن بلاغة المحسنات – بعبارة محمد الولي- لتخلق بلاغتها الجمالية من تشابكات عناصرها وتفاعلات المتخيّل في نسيج أسلوبي يأتي بالغريب والمتمرّد عما هو مألوف. من هنا نعتقد أن التجربة الشعرية، للشاعر يحيى عمارة، ذات نسوغ جمالية متجذّرة في بنية اللغة الشعرية أولا، وثانيا في رؤيا الشاعر التي يستقي منها عوالمه الشعرية ، فيعجنها بملح الواقع لتمنح للقارئ خطابا شعريا ينحاز للمغايرة ليس كمطية أسلوبية، وإنّما كأفق جمالي يؤطر مرجعية الكتابة الشعرية عنده ، ويُسبغ التّجربة بإبدالات شعرية تخترق السائد وتُوسّع الدلالة، وتشرَع الإبداع الشعري على التّحويل والمغايرة. كما يمكن إدراجها ضمن شعرية الحداثة التي عمادها المغامرة وانتهاك حرمات شعرية الإنشاد، بخلق شعرية مؤمنة بالتحرّر من القيود والانفتاح على التعدّد والمخالفة. والمتأمّل في المتن الشعري للشاعر يدرك العمق الحداثي المؤطّر للخطاب الشعري يقول الشاعر: ( أنت جريح،/ ومن خطوك اللائم / أكدت دم أنثاك ذاتك،/ تلك التي تبحث عنها،/ وحين وجدت جمالا شريدا بريئا / أصابتك دهشة أرض …) فالخطاب موجّه للذئب رمزا للمكر والدهاء، ولكن سياق القول يعطي دلالة أخرى محورها الأساس هذه التنويعات الدلالية إذ يحمل دلالة المكر/ الموت ( أنت، يا سيد الماكرين / من سلالة عاد تميت الشجر / والعناقيد والتين …) وهو طاغية ( للذئاب حياة طغاة / منام أليف على جسد / غارق في شفيف دم، / وحضارة تمر بذكر الغياب…) ويشكّله (الذئب) في صورة العاقل المتحدث، إذ توجّه إليه الذات المتلفظة خطابا آمرا تكشف عن حوارية عميقة المعنى (أيها الذئب فكر قليلا،/ تحدث معي …) فهذا التنوع الدلالي لكلمة (الذئب) تفحم المتلقي في أجواء قصة يوسف مع إخوته لاستحضارها بكل التفاصيل، وبالتالي فالصور المقدَّمة للذئب ما هي إلا تجسيد لصفات إخوة يوسف يقول: ( حالما،بالجنون/ سألت أبي/ إخوتي افتروا قصة/ هل أسأت إلى إخوتي / عندما قلت إني رأيت ملائكة يلعبون مع الذئب / في باحة الدار …) ذلك « أن عملية إسباغ صفات إنسانية على الجامد والحيواني والنباتي، وكذا إسناد أفعال إنسانية إليها إنما تستغرق أغلب التنافرات التي تبرز داخل القصيدة المغربية المعاصرة «وهذا ما يتضح في تجربة الشاعر . فالرؤيا الشعرية التي تشكّل سندا إبداعيا تقود الشاعر إلى تحوير الدال لتخصيب المدلول بمعان ودلالات متعدّدة، وهنا مكمن سرّ الشّعر الذي يشعّ ظلالا لا أنواراً، لكون الظلال تجعل المتلقي يطارد البعد الدلالي اللانهائي، في حين أن الأنوار تُعمي البصيرة ويجعلها تنظر ولا تُبصر . فهذه الصورة المركبة للذئب كدال يتفجّر بمدلولات أخرى تمنح للخطاب تعددية صوتية -إن صحّ التعبير- على اعتبار أن «النص ليس مجموعة من الملفوظات النحوية أواللانحوية، إنه كلّ ما ينصاع للقراءة عبْر خاصية الجمع بين مختلف طبقات الدلالية الحاضرة هنا داخل اللسان والعاملة على تحريك ذاكرته التاريخية»، فالشاعر يخضّ ذاكرة النص الشعري لإثارة الغائب النصي حيث تحضر قصة يوسف حضورا يثوّر الخطاب ويعرّي حقيقة الواقع العربي بفعل الهزائم المتتالية والانتكاسات التاريخية والحضارية، ويضع الذات في مجابهة المصير المشترك ورواية تاريخها المنخور بآلام الفلسطينيين، غير أن التعبير عن هذا الواقع تفاعلت فيه رموز دينية وتاريخية وأسطورية ( قصة يوسف وحائط المبكى والأندلس والقصيم والعنقاء وامرؤ القيس وإليوث..) إنها رموز ذات حمولات تجسر بين الذات والواقع ، الماضي والحاضر، الآني والعابر ، بين الواقعي والأسطوري، بين المادي والحسي، إنه خطاب شعري محتدُه الحلم على اعتبار أنه « هو عالم السحر، عالم الغرابة، عالم الدهشة، وهو الذي يغيّر نظام الأشياء، كما عهدنا أن نراها في الواقع، وهو الصورة في الشعر، فلا صورة واقعية في الشعر، وإنما هناك صورة حلمية « (8) يقول الشاعر: ( أنت شمسي في غيوم العين/ كلما زاغت يدي عن كأس ظنّي/ صبّ ظبي ريقه في بئر ذاتي/ فاختلجت كلماتي/غيّرت فستانها، عمدا لغتي / فاشتكى عشقي من الحرف الحرون/ ما قرأت الآن من مجراي هو البدء/ يا سيدتي / ألهمني حلمك حتى /هتفت صبوته اليوم/ ما أروع تلك الهاوية ؟…) إنها هاوية الشعر المقدّسة التي تجعل اللغة تسمو شعريا وجماليا وتغدو منبعا للحلم والعشق والصبابة، اللغة، في جوهرها، هي « بيت الشاعر ومسكنه عبْرها تفجّر الذات أهواءها، وتمارس الحلم فهم استبطاني للعالم، لتعي وجودها « . وهويته التي تعبّر عن كينونة الذات في مواجهة العالَم. ولا غرابة في ذلك مادام الشاعر يجعل من «الوردة» رمزا منفتحا على دلالات شتى إذ تثوي معنى عشقيّا كامل الصفات،تنجلي في شوق المعشوق والسلام يقول:( وردتي تُجتلَى/ في حنين الحبيب/ لفق الوصال/ وردتي طفلة/ تنتمي لودا السلام…) فوردة الشاعر غيمة الحب والوجود يسري عطرها حبّا وصبابة، إن دال (الوردة) تتحوّل إلى استعارة تفيض معاني وأبعادا يحدّد سياق القول الشعري، غذ يتم تشخيص الوردة لتحمل صفات طبيعية (يد الورد تنساب من مزهرية منفاي) وإنسانية ( لا تقيّد يد الورد/ يد الورد توصيك …) ذلك «أن الاستعارات الخلاقة تنبثق عن صدمة إدراكية ، أي من نمط علاقتنا بالعالم الذي يسبق الفعل اللساني ويحفزه» على التقاط المدهش والفاتن في العوالم المسيّجة لكينونة الذات. فالملمح الاستعاري المبني على بنية التناقض من السمات الجمالية المضفاة على الخطاب الشعري في هذه التجربة، مما منح له القدرة على خلق دلالات مشرعة على التأويل اللانهائي، مما يميّز الخطاب بالتجديد وابتكار اللغة الانزياحية، والمتأمل في هذه الرموز الاستعارية ( قناع الغبار/ ملح الرحيل/ نذر القصب/ الريح تنحت /حليب الحصى/ سرير الردى / سفن الغضب/ ينزل الهمس/ وتر المستحيل/ فم الغراب/ منفى العبارات/ سؤال الليالي / ليل السؤال…) سيكشف عما تكابده الذات من مكابدات وجودية ناجمة عن العشق ودلالة الريح المثقلة بماهو سلبي وإيجابي في نفس الوقت، مما يبرز بنية المفارقات المؤدية إلى التوتّر والصراع. فبين الرحيل ومطاردة المستحيل تنوجد الذات لمجابهة الغبار والحصى والردى والغضب والغراب الليالي،لتعبّر بمعجم يشي بإرث المعاناة لذات ترى في الريح طريقا والرؤى لتحقيق المرغوب فيه يقول: ( قيل لي: بجنون الرؤى/ وبأجنحة الريح تأتي العزائم/ يا شاعر الذكريات…) ،هذا الجنون الرؤياوي يخصّب الخطاب الشعري، ويكشف على أن الشاعر من طبعه السباحة ضد التيّار بغاية التميّز والتّفرّد على مستوى الخلْق والإبداع، لا نجد الشعراء يغربلون اللغة من تصوّرات الآخرين وتوظيفها بالطريقة التي تتماشى مع رؤيتهم، والرامية إلى تحقيق التكثيف الشعري، وهذا لن يكون إلا بمعرفة شعرية تمكّنه من ارتياد المكانة الفريدة، وتعطي للغة أبعاداً جديدة ذلك أن « لغة الشاعر وحدها، وبواسطتها يبصر، يتأمّل ويعبّر. ومن ثمّ يبقى مسؤولا أمام لغته الفريدة والمتفرّدة، وأيضا أمام وعي لساني واحد. فاللغة، في هذه الحالة، معطاة له من الداخل لا من الخارج» . ففرادة الشاعر في قرته على تشكيل اللغة تشكيلا مختلفا عمّا هو كائن سمته الخَرق والانزياح وعليه» تبقى اللغة الشعرية تنوعا أدبيا. التنوع يعمل على الخرق والانحراف، حيث لا تطابق اللغة الشعرية في شيء بقية اللغات الأخرى»، ولعلّ هذا ما خلُصنا إليه، من خلال، تجربة الشاعر يحيى عمارة حيث لمسنا في خطابه الشعري لغة شعرية أخّاذة في تركيبها ودلالاتها،ومستفزّة للذائقة القرائية التقليدية، يقول الشاعر: ( ياسمين يمرّ ببيْت الشعور/ ببطء يدقّ الفؤاد/ يرتدي ثوب بدر عجيب، بلاموعد/ يجذب النّحل سرّا/ فلا نظير له ) فاللغة تشخيصية بوساطة إسناد المرور والارتداء والجاذبية للياسمين مما طعّم المعنى وخصّبه بحمولات جديدة نلمس فيها الابتكار والتجديد.

(3) الْعُبُورُ
إِلَى مَتَاهَةِ التَّأْوِيلِ:

إن الشاعر يحيى عمارة يؤسس لكتابة ترتّب فوضى الذات و الأشياء والعالَم، وفق سؤال محوره الأساس كتابة شعرية تنتصر لوعي شعريّ ما بعد حداثي، هذا الوعي الكامن في عناصر رئيسة في خطابه الشعري، ذلك أن صوت القضايا الكبرى حاضرا في البدايات، ليخفت هذا الصوت في مرحلة التجريب ويحضر نداء الذات العميق والمكنون والكتابة باعتبارها تجاوز وهدم للقائم والسائد، وما يؤكّد ذلك هو الاحتفاء بأسماء شعراء لهم قيمتهم الإبداعية،وحملوا مشعل الحداثة كامرئ القيس والمعري وابن عربي و السهروردي والمعريوسان جون بيرس وأدونيس وسعدي يوسف وطاغور وقاسم حداد وابن عربي، مما يبرز انتماء الشاعر لهذه الأصوات المتمرّدة والخالقة لأفقها الشعري بوعيّ معرفي وثقافي متعدد وعميق، لهذا آمن يحيى عمارة بأهمية الكتابة الشعرية بأسئلة الشعر التي تحتفي بالفوضى المعقلنة التي تجتاح الكائن والكائنات والكون، حيث السؤال والتجريب والاغتراب مهيمنات نصية على خطاب الشاعر في عمله» فوضاي تكتب نثرها» يقول ( لغتي تجرّب/ منطق الطير العجيب/ تقول لي: ذوّب دم الغرباء/ في لذائذ السؤال / جدّد واغترب …) إن أسئلة الكتابة عند يحيى عمارة مرتبطة بالذات ككينونة مهدّدة بفوضى العالَم وباللغة التي تقتحم أراضٍ جديدة، مما يجعل «الشعر لونا من الارتياد والكشف والمغامرة الدائبة في سبيل إعادة صياغة رؤيتنا للكون، وإضفاء معنى جديد على ما يبدو خلوا من المعنى فيه»، فالشاعر ، من خلال، هذا التوحد والصعود إلى التماهي مع الذات يفضي إلى خلق كينونة تتجدّد بالترحال والشعور والخيال يقول: ( أحمل فانوس المشي/ أعانق صر المينرفا/ وأدق الأجراس بما أملك / من حسّ وخيال / وأكمل دورة دمي / دورة / دورة/ وأجدّد أسفاري…) هكذا «يتجلى المعنى في أبهى صورة، فتزيد المتعة على قدر الجهد المبذول في الغوص على المعنى المكنون»(14)، لذا فالشاعر لا يكف عن مطاردة هذه الفوضى ذلك أن ولادة الشاعر تنبثق من رحم الآخر/ المرأة التي ينسج معها سؤال الوجود بلغة شفافة ذات نفَس حسّي يقول ( أتسلّل مثل هدوء الصبح/ من خدّيْ ورد/ من شفتي شمس/ آتي رفقة شاعرة/ تعجن بأصابعها الثلج الأسود…) صور شعرية تنداح بأريحية تجربة « تحفر في ذاكرة اللغة،وتلتقط الشارد والمدهش الغريب، تؤسس لإيقاع جديد يسري في داخلها ويطلع من مكوناتها، لا من حضور النغم والصوت فقط)
ومن تجليات قلق الكتابة الشعرية عند الشاعر يحيى عمارة كونه يروم إلى إنقاذ صوت أدونيس والمجاطي من لوثة الاجترار يقول( أنقذوا حنجرة أدونيس / من غثيان التكرار/ الذي يقيّد أحلاما / أنقذوا لؤلؤة المجاطي / من فقهاء الفروسية المادحين ) فالتكرار موت واغتيال للأحلام والرؤى ، ولؤلؤة المجاطي لن يدرك جوهرها إلا الذين يمتلكون القدرة على تفكيك المحجوب والمعتم. ولعلّ هذا ما يسمُ الشعر باللاثبات والارتكان إلى الجاهز بقدر ما يسعى إلى فضّ بكارة اللغة وكشف الجغرافيات المنسية من الكينونة والكون لأن « المعنى في الشعر ليس كيانا ثابتا، ظاهرا يكشفه القارئ نت أول صلة له بالنص، وإنما هو جُماعُ معان كامنة في النص»
ختاما:
هذه القراءة ستظل غير مكتملة، بل مفتوحة على احتمالات ممكنة تحفّز المتلقي على إعادة فتْح قنوات أخرى بإمكانها أن تضيء ما ادلهمّ علينا ونحن نقارب تجربة شعرية لها مكانتها وأثرها في الشعر المغربي، وما علينا إلا الإصغاء مليّا لهذا المنجز المتراكم الذي حققته القصيدة المغربية المعاصرة،وبالكشف عمّا تزخر بها من إبدالات وتغيّرات تثير الدهشة الشعرية.


الكاتب : صلاح لبريني

  

أخبار مرتبطة

  تشكل القراءة التاريخية لتجارب بعض الأعلام المؤسسة للفعل السياسي و الدبلوماسي في المغرب المستقل، لحظة فكرية يتم من خلالها

لحظة شعرية بمسيم كوني، احتضنها فضاء بيت المعتمد بن عباد بأغمات، ضمن احتفاء دار الشعر بمراكش بمرور سبع سنوات على

يقول بورخيس: “إن الفرق بين المؤلف والقارئ هو أن الكاتب يكتب ما يستطيع كتابته، بينما يقرأ القارئ ما يشاء”. فالكتابة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *