جمالية التفكك والتشظي في «ذاكرة رجل مختلف» لعثمان ناجي

«ذاكرة رجل مختلف» هي العمل الروائي الأول للكاتب المغربي عثمان ناجي، صادرة عن دار التوحيدي في طبعتها الأولى: أكتوبر 2022 بغلاف صمم من طرف القسم التقني للناشر، نسجت عوالمها السردية على مساحة ورقية ممتدة إلى178 صفحة وتوزعت الى 48 لوحة مرقمة وبلا عناوين، مع فصل بدئي لا يحمل أي رقم، يحيل القارئ على الحدث المحفز للحكي: زيارة السارد للشخصية المودعة مستشفى الأمراض النفسية، الشخصية التي ينتهي مشوار حياتها إلى درجة الصفر، إلى العدم والانمحاء. ومن فضاء المستشفى الكئيب، الفضاء الذي تعتم فيه الأشياء وتلتبس الرؤية، يبدأ القص مرتدا إلى منعطفات حادة في سيرة الراوي الذي يتجسد على أنه «أنا» و»هو» في الآن نفسه، وفي سيرة ريحانة؛ الأنثى المروي عنها والتي يتقاسم معها الراوي دور البطولة في فعل قص يأتي من الذاكرة ليتقاطع مع العديد من اللقطات المشهدية من الزمن الراهن.
ولأن النص، أي نص هو نسق من العلامات، و»نسيج من القول ومن تسلسل الجمل والمتواليات التي تتعانق في ما بينها لتخلق شروط التمظهر اللغوي»(1) ، فإن قراءتنا لهذا العمل الروائي تروم تفكيكه للكشف عن تماسكه الداخلي واستكناه العلائق المتحكمة في اشتغاله وفي إنتاج دلالته.

1 – المناخ الروائي

تتشكل الرواية من لقطات أو لوحات تتمحور حول شخصيتين اثنتين: الأولى ساردة والثانية مسرد عنها ولها، في عالم روائي قاتم يتنفس أجواء الكآبة والاغتراب،كاشفا عن علاقات متأزمة للذات الانسانية التي تعيش عزلتها في عالم متشظ وبلا معنى.تواجه الشخصيتان؛ يوسف الراوي وريحانة الأسئلة المستعصية و تتقاطع رحلتهما في زمان ومكان ينتهيان بريحانة الى حالة من الاكتئاب التي فصلتها تماما عن محيطها فتجذرت قطيعتها للناس وللعالم، وينتهيان بيوسف الى حالة من التيه والغرق في دوامة الافكار والأسئلة عن معنى الوجود ومعنى الحب والموت والحياة ليقف حائرا أمام التحولات التي قوضت منظومة القيم وأصابت الذات بجراح يستعصي تضميدها. ويحدث التماهي بين ريحانة ويوسف إلى الدرجة التي يعلن من خلالها هذا الأخير في مفتتح سرده أن حكايته هي حكايتها :
«أبدأ حكايتي أنا، علها تكون حكايتها هي أيضا،
أشلاء مبعثرة لشخصين مختلفين، جمع بينهما الفرح والألم وأشياء أخرى لا اسم لها سوى ضجيج الحياة
لا أميز جيدا بين حكايتي وحكايتك، هما متداخلتان ومتشابكتان في الزمن وفي أماكن الكون الفسيح» ص11
«هي حكاية عشق أزلي بين الشبيهين المتناقضين»ص178 كما جاء أيضا بآخر صفحة من الرواية.
ويبتدئ السرد باليوم الذي دق فيه السارد منزل ريحانة وقد أبلغ بدخولها مستشفى الامراض النفسية لتنتابه حالة من الضياع والتيه لما عاينه من صمتها وانعزالها. لم تكن العلاقة بينهما هشة ولكنها انتهت الى أفق مسدود في مجتمع يجهض الفرح عند عشاق الحياة «ريحانة لم تتريث حتى ننهي سويا رحلتين منفصلتين ومرتبطتين كذلك خارج هذه البناية الرهيبة/المستشفى»ص 8. وفي محاولة لترميم ذاتها والتشبث بالحياة وتجاوز الانتكاسات المتعددة في مسارها الحياتي تستنجد بيوسف كغريق منهك وخائف، تقول بعد فشلها في استجداء بعض الفرح « كن صريحا وقل لي أنني أعيش حالة الفاشلين التعساء، تسألني عن جدوى الحياة حين لا تتحقق الأحلام» ص 110. لقد غرق كل منهما في بحر الحب « أقوى مخدر في العالم» ص7، كما استشعره يوسف في أعماقه حتى صار وفاؤه لهذه العاطفة المقدسة يضاهي وفاءه للوطن «انت مثل هذا الوطن يا ريحانة، أحبك رغم كل شيء وأعترف لك سيدتي انك منذ اليوم الأول كنت نهرا حارقا يحمل في أحشائه كثيرا من الغموض»ص106.
إن العالم الروائي لـ»ذاكرة رجل مختلف» أشبه بنفق مغلق حالك يحاكي عالم الواقع الموحش، القاسي والفارغ، ترحل ريحانة بحثا عن حياة جديدة بعد فشلها في إقامة بنيان أسرة، ولكن الحنين إلى تربة هذا الوطن يعيدها ليزج بها في غيابات اغتراب داخلي مقيت. ومع رضوض الذاكرة وشروخها يتقاعس يوسف عن المضي في حبه إلى مداه؛
« ربما حان الوقت كي نفترق لأننا لن نلتقي أبدا،،، ما الذي يجمعنا كي نعرف ما سيفرقنا»ص122
« لم أجرؤ على مجابهتك لأنني لم أقبض على تلك الأشباح التي تدور بداخلك، تناورك وتجعلك مشتتة وتائهة» ص 108 «لا حق لي في هذا الشوق، ليس لدي الكثير لأعرضه عربونا لهذه اللهفة التي امتلكتني وأجبرتني مرارا على البحث عنك بكل قوة، لا أنا مستعد للزواج ولا أنت راغبة فيه» ص 153.
بين إيقاعي البعد والاقتراب يعيش السارد حالة تمزق وانشطار» أنا بحاجة إلى امرأة بوسعها سماع صرخات الشمس وهي تغرق في البحر، إلى امرأة ينشطر قلبها إلى ملايين الشظايا تحت نغمات البيانو كأنه يحاكي انفجار بداية العالم..(لكنني) لا أمتلك منك سوى ما سقط من ذكريات مؤلمة لم تعودي في حاجة إليها»ص106.
ومن جوف قصة يوسف وريحانة تتوالد قصص منتقاة من الذاكرة لينفتح السرد على مسارات متوهجة لكنها مستسلمة للمشاعر المشتتة وللجراح والإحباطات أمام تعقد العلاقات الانسانية والتباسها، وتحكم ذاكرة الحكي مسار الشخصيتين لترسم ملامح هوية تتعرض للتشظي بعد فشلها في الاحتماء ببقايا أحلام تنطفئ أمام سلطة واقع متفسخ قميء، ولتجسد بذلك وعي الذات بأسئلتها المستعصية وبأحلامها المؤجلة وبمصائرها العالقة ولتسقط ريحانة فريسة الاكتئاب كورقة خريف ذابلة، وليبحث يوسف عن سبل الهروب من عذاب الفراق ومن أسئلة الذات، ويصير هذا الفراق بمثابة القطرة التي أفاضت كأس الحزن المترسب في هذه الذات، كما أن وجود ريحانة بالمستشفى فسح المجال لطوفان العذاب كي يستفحل من جديد بعد سنوات من البعد عن يوسف. تحضر ريحانة في ذاكرة الحكي وفي واقعه لتعمق الشعور بالغربة والضياع، وهي الهاربة أيضا من سؤال الوجود والانتماء، باحثة عن مسكن جديد وفضاء آخر بعيدا عن رتابة اليومي وواقع الزيف والكذب. إن علاقة يوسف وريحانة هي الشعلة التي خنقتها عفونة الهواء، وعبر أزمنة ماضية متباعدة تشكلت ذاتيهما المتشظيتين.
إن الحضور الكاسح للذاكرة يجعل من الرواية نص ذاكرة بامتياز يسعى السارد من خلاله إلى ملاحقة خيوط التلاشي والتشتت في شعابها، ليتحرك السرد بذلك من لحظات معيشة سابقا نحو لحظات تكتب لاحقا بحبر الوجع والأنين، وهكذا يصير التذكر عملية إيغال في الداخل وكشف عن تجارب من الماضي ترتبط بسياق تفقد فيه الذات القدرة على التواصل والاستمرارية وقد أقصيت مشاعرها وتم اغتيال معنى وجودها، ويظل السارد أسيرا لهذا الماضي متكبدا الآلام في سبيل نسيانه، يقول في نص العتبة «الانتصار الحقيقي في حربي الخفية هو تحرير الروح من ذاك الماضي الأليم الذي كاد أن ينال من انسانيتها، الانتصار الحقيقي هو الحب بلا حدود والنسيان قدر الممكن، بكل بساطة»ص5 .

2 – صور التشظي والانشطار
في النص الروائي

تحكم الرواية متواليات سردية انشطارية مبنية على جدلية التماهي بين شخصية السارد وشخصية ريحانة وبين زمنين: زمن الذاكرة وزمن الواقع،يضطلع السارد في متنهما بمهمة إعادة بناء سيرته وسيرة ريحانة بفضاءات متباينة على شكل شظايا تتوزع على جسد هذا النص، يقول السارد « جربت مرارا أن أستدرجك لرواية شريط حياتك في جلسة واحدة،لا فائدة، علي أن أجمع شظايا بوحك ،،،بصبر وأناة كأنها صدف عقد انفرط فوق رخام ملون» ص128. ويعمد قارئ هذه الرواية إلى جمع ما تناثر من سيرتيهما معا ساعيا إلى فك شفرات النص وتعقب مظاهر التشظي في هاته العلاقة المرتحلة أنسجتها في الزمن الشاسع للذاكرة. ويغدو التعبير عن هذا التشظي» ثنائي المنبت، فهو من أ إلى ب، وفي الوقت نفسه من ب إلى أ، كل متكلم هو أيضا، وفي الوقت نفسه، مستمع، أو كل مستمع هو أيضا، وفي الوقت نفسه، متكلم. فالكلام مخاطبة وتوجه، إصغاء لنطق ونطق، إنه علاقة»(2)، وبالرغم من أن الكلام يأتي في العديد من فصول الرواية بوحا بضمير الأنا حين يتوسل السارد المونولوج أسلوبا للتعبير، فإن موقع يوسف السردي لا يبدو قائما بذاته بل هو قائم في علاقته مع موقع الآخر، ومن خلال هاته العلاقة يولد النمو اللغوي والشعوري المنتج للدلالة.

ملامح الشخصيات:
ترسم الشخصيتان في نص عثمان ناجي الروائي بأسلوب خاص ولافت يمتلك دلالاته وإيحاءاته المختزلة لفكرة الانكسار والعجز: فيوسف الراوي الشاب المشرف على عتبة الأربعين، يعيش عزوبته منفردا «أنا متيم بعزوبتي الطويلة، أعيش على ماض انتهى، وحاضر يتساقط كحبات رمل في قبضة طفل صغير حالم» ص122، يسجل السارد موقفه من مؤسسة الزواج ويعلن عن غرابة هذا الارتباط «هو غريب فعلا، علاقة متناقضة، فيها جذب وصد يستمران مثل المد والجزر»ص 76، وتحتفظ ذاكرته بقصص طفولته التي يخبئها «كقطعة حلوى ثمينة في جيب يتيم يوم العيد» ص25، الطفولة التي تختزن قصة حروب طاحنة بين والديه، انتهت بانفصالهما و هجرة أمه إلى العراق، الأم التي تستحضرها ذاكرة السارد في المنعطفات الحادة من حياته.
بعد سنوات من هجرتها، تقوم أمريكا بقصف العراق لتتقاطع محنة يوسف الشخصية بمحنة وطن ينهار في حروب متتالية لا معنى لها،وينهار معه عالم طفولته ليدرك عالم الكبار متشربا حكايات جدته «استمرت حكايات جدتي لسنين، وفي كل مرة أحصل على شظية من لغز أجمعه في ذاكرتي» ص61، درس بالجامعة متقلبا بين الاحلام والكتب، عايش تجارب حب فاشلة، يقول عن احداها «عشتها بصدق الشعراء حين يتوبون عن الكذب والصور المجازية» ص47 ، وعن أخرى يقول معترفا بمراوغاته الغرامية:»أفهم أنها تماهت مع مجازات الدروس الرومنسية،،، شتان بين الحب والرغبة…رغم محاولاتي البائسة للتمويه، أقر لها أنني لا أحمل لها في قلبي المشاعر التي تبحث عنها» ص98.
ينخرط يوسف في النضال من أجل الحرية غير أن حلم التحرر ينتهي بالإبادة «منذ بضعة أعوام في زمن آخر، كنا نحلم بالحرية، أنا وأنت، زبيدة عادل وآخرون» ص57 .يتذكر المأساة وثمن الحرية، تقتل زبيدة بالرصاص ويقف «عكاز صديقي شاهدا على ما أقول، يشعرنا دائما أن الثمن كان غاليا»ص 58.»الرشفات الأولى للقهوة تعيد ذكرى الرفاق والرفيقات، من رحل ومن لا يزال حيا» ص93، وكان أخ السارد أحد هؤلاء الذين أحكم ملاك الموت قبضته عليهم، وتمر السنين وتتحول الوجوه الطفولية الضاحكة إلى»خفافيش معلقة في السقف دون حراك، الصبوة التي أكلت القلب والآيلة إلى السقوط، الوعود الزائفة عن الوفاء، الوجوه المنسية تمر كشريط، كانوا اخوانا وأخوات، أصدقاء وصديقات وعاشقات، صاروا أطيافا سمجة» ص78.
إن التصدع الذي اجتاح العلاقات الإنسانية داخل الأسرة صار عاملا جوهريا لانسحاق الذات وانكسارها»الكلمات المتساقطة خلال حديث عابر تشبه ألغاما تزرع ليلا داخل حقل كبير» ص155. وليس الموت فقط ذلك القدر الحتمي الذي يفجع قلب من بقي على قيد الحياة، هناك نوع آخر من الموت: الموت الرمزي أو المجازي، يقول يوسف «الموت أنواع يا ريحانة، لا ينتهي الأمر بكل الموتى تحت التراب، بعضهم يسير ويتنفس، أتعرفين من هؤلاء؟ من كانوا يعيشون بداخلنا، عليك أن تنتزعيهم بقوة النسيان، أن تمزقي صورهم العالقة في ذهنك، بلا رحمة، لا تذهبي إلى مكان جمعك بهم يوما، الموتى تحت التراب ينهون حياتهم بمراسيم شجاعة، الموتى الآخرون يتركون عالمك في غفلة منك، وفجأة يغرسون في ظهرك خنجر الهجر والنسيان» ص 54.إن جراح السارد عميقة ومتأصلة ولم يتوقف نزيفها مع مرور الزمن حيث تلف الحيرة قلبه أمام الأسئلة المستعصية «أنا أراوغك ثم أراوغ سؤالي، في الملعب تتشابك خيوط عنكبوت رفيعة، كل حركة تلف حولي قيودا خفية، كل ابتسامة ، كل كلمة تسقط داخل قلبي مثل قطرة ماء في حلق عطشان ، كل هذا الخليط يلهو بذكائي وبكينونتي، يجعلني في حيرة لا تنقطع» ص147.
إن الانفصال الذي يعيشه السارد في علاقته بعالم مفكك، يتحول إلى نوع من الاتصال الذي تذوب فيه الفروق بينه وبين ريحانة، وفي لحظة تماه مطلق بينهما يقول «كيف لي أن أعرف أن بهروبي منك لن أهرب إلا إليك».
ولا تختلف ملامح شخصية ريحانة عن ملامح شخصية السارد، حكايتهما كما يتم التنصيص على ذلك في أكثر من سياق متشابهتان متداخلتان، ريحانة التي تقف على أعتاب العقد الرابع لم تجد بدورها الحياة التي كانت تبحث عنها انتهت الى رفض التواصل مع المحيط وأصبحت مجرد كائن محملق ومحدق في رعب داخل المستشفى بعد أن كانت تقف متحدية لسلطة الأب ولسلطة الزوج، تمردت على مؤسسة الزواج وحملت لقب المطلقة ولكنها امتلكت قدرة رهيبة على تحمل الألم، هي شخصية هشة وشفافة، كتلة من المشاعر المتداخلة والمتصارعة، امرأة تبخرت أحلامها وتلاشت أمنياتها؛ «تشرحين كيف أحببت رجلا أذاقك كأس الذل والمهانة، ثم تركك على ناصية الطريق ككلب متخلى عنه» ص31، وعن الأب الذي تحكم حتى بمسارها الدراسي والمهني تقول:»كل اختياراتي كان همها إرضاء غيري، بدءا بوالدي، هذا الرجل حولني منذ ولادتي إلى عجينة رخوة يشكلها بمزاجه الذكوري»ص74. كبرت ريحانة على وقع صراخه وشتائمه التي ظلت تتردد بداخلها حتى بعد رحيله ، « ظل جرح الأب الغائر كأنه ضربة سكين ياباني مفتوحا ما بقي الزمن…وحتى عندما طعنك زوجك بقسوته ووحشيته، أحسست كأنما يستكمل عمل الرجل الأول في حياتك» ص145 وكانت ريحانة نسخة من أمها» سبقتني إلى جحيم لا يطاق، هل قدر النساء أن يتأرجحن بين حياة ظاهرها وردي وباطنها عبودية وإذلال؟» ص،75 وظل شعور الوحدة يلازم ريحانة حين غادرت الوطن «رافقتك ذكرياتك مندسة في تلابيب أمتعتك كأنها سلعة مهربة، وأفسدت محاولة هروبك من نفسك» ص152، والسارد يوسف الذي يسرد ويصف وينتقل عبر الأزمنة والأمكنة يرثي لحال ريحانة ويخاطبها قائلا:
«أدرك أن جروحك القديمة كلها لا زالت مفتوحة
طريق الآلام طويل ولن ينتهي بسهولة
هي ذكريات كالمسامير، تشغلك ساعات النهار والليل بلا كلل، تمنعانك من السير قدما
في كل خطوة تنزف قدماك الحافيتان» ص175
وحتى علاقتها بيوسف تظل ملتبسة لا تأخذ بصددها موقفا حاسما :
«خيط رفيع يقودني إليك
تلك الابتسامة تهمس في روحي حديثا لا أملك فهمه بعد
تصدر دعوات متناقضة: اقترب، ابتعد.
لا علامات واضحة سافرة.» ص20
«أقنعتني أن الحياة هنا لم تعد ممكنة. قلت لي أنك تعبت من أقراص النوم والأدوية المهدئة، تريدين أن تشطبي سجل خيبات الأمل المتكررة، أن تبدئي العد لحياة جديدة مختلفة، لم أقتنع بمرافعاتك الطويلة، أعرف جيدا أن ما تهربين منه يسكن داخلك، ينتشر كفطر خفي داخل أوراقك وجوازك وروحك المعذبة» ص63.
وتسقط ريحانة ضحية اغتراب أسري، حين تصاب علاقتها بأختها بالتصدع «أنصت اليك وأنت تروين تفاصيل قطيعة طعمها علقم، تغالبين دموعك حين تلفظين اسمها قبل أن تستطردي في بكاء صامت» ص155. لحظات تيه تعيشها ريحانة التي استنفدت كل طاقة في محاولة عيش حياة بلا ألم.
في النهاية لا يحسم كل من يوسف وريحانة في أمر علاقتهما، تغلق ريحانة كل الابواب لتصبح ضحية الشعور بلا جدوى الحياة وانطماس كينونتها وانسحاقها أمام جبروت الواقع وليرجع يوسف إلى وحدته وإلى جلد الذات حين يعلم بوجود ريحانة في مستشفى الأمراض النفسية .
ما يمكن أن نخلص إليه بعد تتبع مسار شخصيتي «ذاكرة رجل مختلف» أن القمع الذي يحكم العلاقات الانسانية والموزع بين مؤسسات الأسرة والزواج والسلطة هو الذي شكل ملامحهما وأنتج ذاتين تأذت حياتهما، تشظت مشاعرهما وتبددت أحلامهما لتنتهي إلى نفق مسدود، وحتى ما يمكن أن يشدهماإلى الحياة / الأطفال ويمثل أملا في مستقبلهما غيب في هذه الرواية، ريحانة عقيم ويوسف يتشبث بعزوبيته، بذاكرته الطفولية رضوض وشروخ يستعصى تضميدها.

انفلات الزمن وانكساره
في الرواية:
إن علاقة الشخصيتين بالزمان في هذا النص الروائي علاقة عدائية انفصالية، فهو أشبه بتنين ينفث نيرانه في كل اتجاه ليحرق ذواتا هشة شفافة…وإذا كان تاريخ المرء الشخصي يبدأ من يوم ولادته، ويصير هذا اليوم، رمزيا، ميلادا للسعادة، فإن ليوسف وجهة نظر تشذ عن القاعدة «يوم مغادرتك لرحم أمك إلى عالم بارد تنبعث منه رائحة الكحول الطبية وأنت عار، بلا أسنان، بلا اسم وأنت تبكي بشدة، ويداك تضربان الهواء كغريق بلا حيلة، بحثا عن النجاة، ليس أبدا يوما سعيدا…هناك أيام أخرى للسعادة، من حقي أن أختار يوما آخر غير هذا التاريخ الدموي» ص168. إن رؤية السارد الأليمة والقاتمة لزمن الولادة تجلي بعض جوانب الانشطار في الذات بل وتختزل الزمن في شقاوته وقسوته على رغبة هذه الذات وأحلامها… ريحانة تعترف بهزيمتها أمام الزمن حين يقهرها المرض ولا تنجح في الافلات من قبضة الأرق ليلا، وإن غفت فإن الكوابيس تكون لها بالمرصاد. هي عاجزة عن فك لغز الزمن الذي يزج بها في عوالم المشاعر المتضاربة « يمر الوقت وأنا لا أعرف في ما أفكر، أشياء مقلقة وسوداوية» ص75.
تبدأ معاناة الإنسان الوجودية عادة حين يقف في منتصف الطريق بين أزمنة مريرة متكررة مطلا على شباك الذاكرة،»وتمر السنين ويمضي قطار العمر دون أن يلتفت أي منا إلى دمار الروح واندثار مشاعر لم تصمد أمام توالي ضربات الأيام» ص158. ويموت الانسان موتا بطيئا إلى أن يحل الموت الأكبر، الموت الذي يمتلك في هذا النص شعرية خاصة وقسوة قدرية يترجمها الكاتب بملفوظات حادة، يقول: «الموت يتلذذ بإنجازه، كل ما عليه الآن هو قطف هذه الروح الصغيرة البريئة»/ روح الأخ ص 44، الموت قدر مرتب بإصرار ويصير صوت الزمن في الرواية هو الصوت الأقوى والأقسى. ويظل سؤال الموت سؤالا ملحاحا:
«ألم تفكر في موعد الموت المحتوم يا يوسف؟
سؤال يرعبني، ليس هناك سؤال أكثر إلحاحا من هذا، أعرف يا ريحانة أن الرحيل الكبير قادم لا محالة» ص113.
يرسم النص نسقا متكاملا عن اضطراب الزمن الذي تعمد ذاكرة السرد إلى عدم ترتيبه لتنتج بذلك دلالة معاناة الذات وانكسارها، ولتؤسس رؤية نفسية شائكة مبطنة بالقلق والحيرة والتوترتعمق لدى القارئ الإحساس بالذوات المتشظية. فالليل كفاصل زمني «يضاعف حجم الأشياء والمشاعر، ضوء الشمس فاضح وواقعي، حين يغيب يصبح الكون في قبضة الأشباح» ص133، «كلما حل المساء علي أن أفاوض وحدتي المشاكسة» ص133.
إن الزمن في الرواية هو زمن الذاكرة المنفلتة الهاربة من تأطير الواقع الخارجي إلى حريتها الداخلية، وهو زمن مرهون بحركة الذاكرة واتجاهاتها..
عتمة الأمكنة في الرواية:
للمكان سطوته في نص عثمان ناجي؛ فضاء المستشفى فضاء مقيت يرتاده أناس مشبوهون يشبهون «مدمني المخدرات»، «هو بؤرة البؤس والانهيار الإنساني يشبه غرفة انتظار مفتوحة على العالم الآخر، حديقة المستشفى بدورها تصير مجرد «مقبرة لأحياء أموات»ص10 والممرضة الواقفة في هذا الفضاء كأنها «حارسة برزخ يفصل بين العقلاء وبين التائهين…المنشغلين عن الدنيا والناس بأنفسهم، أرهقهم المرض وشلت المهدئات وشتى أصناف الأدوية تفكيرهم» ص10. المكان كئيب وكل مافيه يوحي بالكآبة، حتى البيجامة التي ترتديها ريحانة رمادية اللون تضاعف كآبة المكان. ويقترن الانتظار في غرفة المستشفى وفي كل مكان عند السارد بالموت» أكره غرف الانتظار، كل غرف الانتظار، الانتظار هو الموت بعينه» ص66.
بيت العائلة يصير « أطلالا لا قيمة لها، يتحول مرارا إلى خنجر يعاود فتح الجرح مرات ومرات» ص35 .ويبدو أن الشعور الذاتي بالمكان هو ما يمنحه إما صوره المشرقة الوهاجة وإما ملامحه السوداوية الكئيبة، فمنزل العائلة قبل أن تغادره الأم كان فضاء رحبا يشع بهجة وجمالا، أسهب السارد بشاعرية فذة في رسم معالمه «منزل العائلة كان فسيحا جميلا رغم بساطة الأثاث، في نهاية الربيع تثمر شجرة الخوخ القصيرة وتنشر بناتها الصغيرات مثل فنان مزهو يستعرض لوحاته» ص35 منزل يتلون بسعادة ذويه وفرحهم الذي سيتحول الى فقد وحرمان لدفء الأم داخله: «الحديقة الأمامية الكبيرة المزهوة بشجراتها الثلاث تحولت فجأة لمقبرة موحشة، اختفت رائحة طعام أمي، الغرف الكثيرة صامتة كأنها ربع خال»ص33. لم تكن الأم وحدها من يملأ المكان ويضفي على جنباته كل الحبور، للجدة أيضا حضورها في ذاكرة المكان، المكان الذي كانت تشتغل به مصطحبة معها الصغير يوسف:»كنت أتجول داخل المكان، مقتنعا بأنها تمتلكه وتمتلك الدنيا بأسرها» ص61 وحين تموت يصبح قبرها مكانا مقدسا تحفه الأنوار «أتعمد الانحراف بسيارتي لكي أمر بمحاذاة الربوة التي ترقد فيها إلى الأبد، أرفع رأسي في اتجاه روضتها وأحس نورا وطمأنينة يحفاني من كل جانب « ص62.
ولأن السارد عادة ما يهرب من تشظيه إلى سيجارته وإلى أمكنة يفرغ في فضاءاتها شحنات الوجع والانكسار، تحضر الحانة التي تفصل بين زمنين: زمن الدخول إليها وزمن الخروج منها وبينهما تغشى الذاكرة لوثة النسيان، ينسى المرء ما قبل كي يستقبل ما بعد، ويسهب السارد في وصف أجواء هذا المكان، قائلا بالصفحة 91
«باب الحانة محروس بذات الرجل ضخم الجثة الذي لم يتغير منذ سنوات. كهل خمسيني يدخن، قنينة نبيذ وصحن سلطة أمامه، تحلق أصدقاء حول قنينات الجعة، تؤثث المكان قهقهات وأصوات تحاكي صوت المغنية المنبعث من أسطوانة مشغلة.تستمر السهرة بدخانها وأنغامها ومحتجيها،،، بنات الليل الكثيرات داخل الحانة استفردن بطرائدهن تبعا لاتفاق غير مكتوب بينهن…
رغم الفوضى الظاهرة، المكان له أعراف يحترمها الجميع» ص93
في هذا الفضاء، يتاح لمرتاديه الحديث في السياسة وسب السياسيين، فتغدو الحانة فضاء للبوح والفضح: فضح المشاعر المزيفة والعلاقات والسياسات المضللة ونقد لمؤسسة الدولة ومؤسسة الزواج ولكل النظم التي تحكم الحياة في مجتمع تنهار قواعده وتتفسخ قيمه وتتشظى فيه، الذات الإنسانية لتصبح بلا معنى وبلا هوية…
وفي أكثر الأماكن قداسة في الوعي الجمعي: المدرسة؛ تحضر القتامة والتسيب الذي استشرى في الحياة المجتمعية، ومن بقايا الصور في ذاكرة السارد الطفولية، نقرأ هذا الاحساس بفظاعة المكان:
«أقف وسط طابور طويل جنب المدرسة.
السور خشن وطلاؤه معيب وغير مكتمل. لا يتجاوز عمري ثماني سنوات، يتحرك الطابور بسلاسة، بينما تنبعث من أماكن بعينها روائح مختلطة.أضع يدي أمام أنفي وفمي حين ينشر الهواء حمولة كريهة في اتجاهي تهاجم كأنها سرب طائرات تحاول تدمير رتل جنود معاد» ص161
جل الأمكنة موبوءة وإن احتفظ بعضها / القرية مثلا بنقائها بحكم تنائيها عن التجمعات السكنية المأهولة، فإن هشاشة المسالك المؤدية لها تجعل منها فضاء غير مرغوب في ارتياده أو الإقامة في ربوعه، فيوسف الذي اضطرته الوظيفة إلى الالحاق بإحدى القرى المتربعة «بين جبال فقيرة، باردة ومقفرة» يقف على وضع الهشاشة داخلها؛ «القرية بالكاد تشرب الماء النقي، أقل من ساعة في اليوم ويختفي السائل الثمين من الحنفيات، وهي كذلك بلا كهرباء دائمة…أصحاب القرية هنا بشر على هامش الوطن لا يشغلهم إلا كسرة خبز حافية تبقيهم على قيد الحياة… الأزقة عشوائية والمنازل شديدة البساطة، هنا ينظر الناس إلي كسائح سيء الحظ، أضاع محفظة نقوده وجواز سفره، وانضم إليهم لضرورة البقاء حيا» ص119
وبتغيير السارد للأمكنة لا تتغير رؤيته الحالكة للحياة، ففي الحي الباريسي يرى الناس كأنهم «يعانون من ملل لا يطاق»، و»الركاب مسرعون يتقاسمون جميعا تعبيرا غريبا عن وجوههم، الأحاسيس يعكرها الوجوم، نظرة محايدة غير معبرة، النظرة أقرب إلى الاشمئزاز من العالم المكتظ حولهم» ص 53 و يستغرب كيف يبتعد السائرون الى العالم الغربي عن بيت الأب والأم وعن الصديق الحميم وعن رائحة الشاي وأصوات الآذان الشجية.
يغير الحنين نظرة ريحانة للبلد؛ حين ترحل إلى باريس في هجرة اختيارية رغبة في شطب كل خيباتها بالبلد وبحثا عن حياة جديدة، تنسيها ألم الفراق وتلهيها عن مواجهة الذات، تبعث ليوسف من هناك بهذا الخطاب: «تصلني رسائلك الجميلة إلى هنا حيث الجو بارد فوق الوصف، أقرأها فتنثر بعضا من حرارة البلد هناك وحلاوة جلساتي معك» ص.72 ولكنها أيضا تنفر من فوضى البلد وتنبهر بنظافة ونظام الآخر الغربي «أذكر فقط طعم القهوة المر وانا اتأمل المارة والسيارات في الشارع الطويل، الناس يرتدون ملابس نظيفة والثلج الأبيض يكسو مدنا مختلفة تماما عن أزقتنا وحاراتنا الفوضوية» ص 10 ورغم ذلك تصير باريس بدورها فضاء مسكونا بالقلق والحيرة وانشطار الذات في علاقتها مع أسئلتها وهويتها. باريس هي مدينة المنفى الاختياري، إنها المدينة القاسية التي توقف البطلة في منتصف الطريق وقد تلبستها حالة جنون.
في النص انطفاء للأمكنة كما لأحلام الشخصيات ومشاعرها، لأن الرواية في المقام الأول رواية ذاكرة، رواية أحلام مجهضة وجراحات عميقة لا تشفى، هي محكيات عن العشق الذي يكبر في الظل وعن الخيبات المتكررة في مسارات الحياة المتشعبة.

3 – البناء الفني للرواية

ليس الشكل سوى «حركة المنطق الداخلي العميق للمضمون في تحققه واكتماله، فالعمل الفني شكل كله ومضمون كله، لأن الشكل والمضمون يتحول كل منهما إلى الآخر وليس أحدهما داخليا أو خارجيا»(3).تميل بنية هذا النص الى القلق، الى شيء من عدم التماسك، وتوحي بلا ترابط خيوطها، إنه النص الذي يتفكك دون أن يمضي إلى غاية ما، هو النص الذي ينتهي ولا ينتهي، النص الذي يطرح أسئلته فلا يكون أمام قارئه سوى مهمة محاورته لمعرفة كيف يصوغ أسئلته وكيف يكشف في بنيته عن دلالات تشظي المشاعر والوعي والتي يختزلها السؤال المر: كيف يمكن للذات أن تجد ذاتها وسط عالم خرب شرس.»إن السؤال في أساسه إبستمولوجي لكن صوغه في بنية نصية وفنية يحرر النص من وهم الايديولوجي ويأسره في دائرة الفن…أي التسريد الضمني لمجموعة من المفارقات والتناقضات الصارخة بين ما يجب أن يكون عليه الواقع من منظور رؤية الفكر وبين ما هو عليه بالفعل.»(4)

جمالية «التفكك»

يتألف نص ذاكرة رجل مختلف من48 لوحة، وتبدو كما لو أن كل لوحة مستقلة بمشهديتها، وحتى لو تم تقديم بعضها على أخرى فإن البناء العام للنص الروائي لا يتأثر، ومع ذلك فإن الرواية ليست مشاهد مبعثرة أو عشوائية ، لأن تصميمها « المبعثر» ظاهريا، يحتاج من القارئ إلى جهد وروية في قراءتها.
تبدأ الرواية بزيارة يوسف لريحانة في مستشفى الأمراض العقلية لتنفتح على علاقة الشخصيتين معا بالأسرة والمجتمع بمختلف مؤسساته التربوية والقمعية، وهي علاقة تنافر تقوي الاحساس بلامعقولية ما يحدث في واقع مر أليم، وتبدو هذه اللوحات الحياتية الأليمة للوهلة الأولى متناثرة مفككة، ولكنها تنتظم في جوهرها بخيط رفيع هو» التغييب» أو» الإقصاء» من كل دواليب الحياة، فيصير النص متمردا على جماليات التتابع والنمو الحدثي، ليستعير جماليته من فكرة «التفكك»، حيث الانحرافات السردية على مستويات فنية متعددة وحيث التعاضد مع انشطارية الذات قويا في عوالم الفراغ واللامعنى. إن النص ببنيته المفككة والمهشمة يؤكد اضطراب الحقائق وتمزق الثوابت، وعجز الذات على التأقلم مع الواقع الغامض والعصي على الفهم.كما أن الانكسارات في هيكل النص توازي انكسارات الذاكرة التي لا تمتلك قدرة ترتيب الزمن المتسم بالاضطراب، ولكنها تعكس مكابدة السارد المضنية لاستعادة الحكاية. إنها الانكسارات والاختلالات التي تلغي انتظام السرد، السارد لا يهتم بنقل الوقائع في حد ذاتها، بقدر ما يسعى إلى اقتفاء الأثر الذي خلفته هذه الوقائع في الذاكرة وفي الجسد (جسد ريحانة المليء بالكدمات).
إن الجمع في ثنايا خطاب الشخصية بين الحلم والتذكر يجرد الحكي من بنائه المنطقي لأن الحدث يجري في الشعوروينتزع من الذاكرة، الذاكرة التي لا تستعيد الوقائع والمشاعر تبعا لانتقاء منطقي مسبق بل تستعيدها وفق قوة حضورها في الذهن، «وإذ تعيش الشخصية زمن قصها التذكري، المتكسر في حركته، تتهشم في هويتها، تتحرك بين وهمها وحقيقتها، بين رمزها وواقعها، متروكة بلا بطولة، أو متروكة لبطولة تغيب في التداخل وفي التكسر»(5). ومن هنا يكون الرفض للعرض التسجيلي للصور والنأي عن تقديم حدث عارض بالتركيز أساساعلى ما يجعل من مشاعر التشظي في النص عملا وظيفيا دالا.إن سرد الذاكرة يحول الكتابة الى معاناة فكرية؛فحين يفسر السارد ويعلق فإنه يكشف حقيقة وجوده، إذ أن تجربة التذكر تعمد إلى استثارة الاسئلة ومس منطقة الشعور الأكثر عمقا، مما يجعلها تجربة درامية. يقول السارد «أنا مثلك تماما لا أملك ما أحكيه لأهون عليك، لا أملك سوى أن أجيد فن النسيان كما تجيد الطيور فن الهجرة من برودة الذكريات وألمها نحو حرارة القلوب التي تهب دون مقابل» ص146.
إن الذاكرة الاسترجاعية في «ذاكرة رجل مختلف» تمثل كونا تخييليا حافلا بتفاصيل عالم مختلف، تمسك فيه اللغة بكل المعاني فتمزج السيكولوجي بالفني لتكتسي طابعا سرديا متمردا على البنى السردية التقليدية التي تعتمد مقولات التتابع والترابط والنمو العضوي للأحداث ومواقف الشخصيات.

شعرية المحكي الروائي
« تمثل ايحائية اللغة درجة من درجات تمفصل النص الأدبي بحكم أنها تعكس نظاما من الدلالة الخاص بالمظاهر التي يقوم عليها النص أساسا، وتجعله في النهاية قابلا لاحتواء عدة مضامين لا تقف عند حدود البنية السطحية للغة، وإنما تراهن على مستويات من الرمز والانزياح كما تعكس ذلك لغة الشعر»(6)
إن القراءة الصحيحة لأي نص ماثلة في لغته « اللغة التي «تتكلم»، داخل المؤلف والقارئ معا وتؤسسهما كطرفين في أدبية الأدب»(7)وهي لغة مضادة للغة التقريرية/الوصفية، يصبح معها الصوت الروائي حالة شعرية أو مناخا شعريا. وعندما ينكشف العالم، وتتكسر الذات لتتحول إلى شظايا، تكون الملامح الشعرية في العمل الروائي بارزة.
هناك تداخل في النسيج السردي بين الفن الشعري والنثر الفني مما يجعل رواية «ذاكرة رجل مختلف»واقفة على تخوم المحكي الشعري. ومع غياب الحركة في الرواية، فإن اللغة تنهض بمهمة التعبير عن المشاعر وخلق المناخ القاتم، اذ ينتقي الكاتب الكلمات والصور الدالة على التشتت والانكسار، وتصيركل الصور والتشكلات اللغوية منطوية على دلالات الانشطار، وهذه اللغة بالإضافة الى وضيفتها البنائية والدلالية فإنها تحفز القارئ على متابعة عملية القراءة في غياب النمو العضوي والحركية الحكائية. تؤدي اللغة في «ذاكرة رجل مختلف» مهمة إضاءة الدلالة بفائض من الكثافة الشعرية والتراكيب الشذرية الباذخة ليجوب القارئ من خلالها العالم الداخلي للسارد والشبكة العنكبوتية لذاكرته. ويمكن رصد العديد من الخصائص الفنية في هذا النسيج اللغوي:
اللجوء الى التراكيب القصيرة المكثفة أو الصيغة الشذرية في الكتابة والتي تمتلك القدرة على الغوص بعيدا في جغرافية الذات، ومقاومة تصدع العالم بالقليل من بديع الكلام. وهي محاولة لكتابة الصمت أو هي صوت ما بعد منتصف البوح. «تكتب الشذرة بحرقة في القلب وبعاصفة في الفكر»(8). وتحبل الرواية بصيغ شذرية باذخة نورد هنا بعضا منها:
«نظرتك الحزينة وابتسامتك المشرقة تبعثان رسائل كثيرة مشفرة» ص19
«غادرت واستمر عطرك يتسكع داخل المكتب، وأنا مشغول بك وبه دون جدوى» ص2
«بدأت أغرق فيك منذ رشفات القهوة الاولى» ص25
«تتحدثين بجدية زائدة، لتبعدي عنك وعني شبهة العشق» ص26
«عرجت على حانة واستنجدت بزجاجات جعة لأستفيق منك» ص27
«في دوران الأرض حول الشمس رقص لاينتهي» ص68
«صوت المطر، هدير الأمواج، هي رقصات الوجود، شطحات الصوفي على أنغام دف زاهد» ص68
«الرقص والموسيقى انتصار للنور في وجه الظلام» ص68
«أكاد أجزم أن فهم الأدب لا يحتاج إلى مساعدة، أعدل عن قراري أمام خضرة مائلة للرمادي تتدفق من عينيها» ص96
«نترك وراءنا بقايا الطعام وحطام ذكرياتك المؤلمة، ونغادر معا» ص113
«ربما ما يجعل الحياة جذابة هي قربها الدائم من الموت» ص126
«تبدعين في اقتناص ومضات السعادة: مذاق البن، نسيم البحر، أو قبلة شاردة بلا مناسبة» ص156
التوظيف الاستعاري:»في زمن التفسخ والانكسار تتلاشى الاحداث والأفعال، فتغيب الحركة ويتوارى النمو العضوي وتتولد الصور الوصفية والسردية التي تنمو من خلال الاستعارة»(9)، مسهمة في رسم مناخ روائي يسمه القمع والاقصاء والتغريب. ومن الامثلة الدالة على النمو الاستعاري هذا البوح الحارق:
« ستعلقين بحكمة ورزانة:
-منذ البداية كنت مخطئا يا يوسف، أنت تبحث عن صورتك في المرأة. تبحث عن انعكاس الضوء على سطح بحيرة هادئة بلا أمواج.
قد تضيفين بمرارة:
تريد جوقة كورال تردد بلا انقطاع ترانيمك الحزينة.
اعترف لك سيدتي أنك منذ اليوم الأول كنت نهرا جارفا يحمل في أحشائه كثيرا من الغموض. علي إذن أن أكفر بكل قصص العشق التي قرأت. ربما أستعيد سكينتي وحياتي» ص106
«انظر الى وجهك لأفكك تعابيره المتشعبة، أمواج البحر تتحرك ببطء نحونا، ثم تعود ثانية كأنها نسيت شيئا وراءها» ص121
وبشاعرية متدفقة، يقف يوسف عند مصب النهر ليقول:
« هنا يصل النهر لنهايته ليسلم سلعته المتدفقة للبحر بكل أمانة، عادة يجلس العاشقون على ضفافه بأيد متشابكة وعيون هائمة، اليوم أراقبكما أنت والنهر» ص24
« على عادتي، أبدأ النهار الموالي بزيارة لكائن لا يبرح مكانه أبدا، البحر، أنزل إلى مكان يطل على نقطة انكسار الموج على صلابة الجرف المتآكل الصامد وأشيع عمي الودود بحضور الماء والشمس فقط..أستسلم لدموع تنهمر بصمت وحرقة، تحجب عني زرقة المحيط، أتخيل أن هدير الماء يواسيني بكلمات لم أسمعها من أحد، أمسح دموعي وأبتسم للبحر» ص143.» يستمر الرقص على ايقاع ضربات قلبك المتعب معانقا أجزاء متخفية من جوهر روحك المرحة» ص71.

خاتمـــة

تنطوي رواية «ذاكرة رجل مختلف» على دلالات نوجزها في ما يلي: على صعيد الرؤية: يبتعد عثمان ناجي عن النظرة السطحية المباشرة في تناول أسئلة الذات فتمتزج رؤيته ببعد شعري وعمق فلسفي في استدعاء خزان الذات المعرفي والشعوري فينصهر جسد السرد، بما يتضمنه من علامات نصية تتعالق لتنتج دلالتها وتجسد العلاقة المعقدة بين الانسان وبين العالم، العالم الذي تتحول فيه الذوات العاشقة للحرية إلى كائنات متأزمة تؤرقها المصائر المرعبة المرسومة بأيدي القدر والبشر أيضا.
على صعيد العلاقة مع الواقع:لا تنفصل بنية النص الروائي عن نظام الواقع ولكنها لا تعمل على عكسه، بل تتعامل معه من منظور جديد من خلال تحريك منطقة اللاوعي، وإذكاء الحس الوجودي بتوظيف لغة أقرب الى لغة الحلم. يقول رولان بارث : «النص يبعث في لذة أحسن إذا ما أمكنه أن يجعلني أنصت إليه بكيفية غير مباشرة، إذا ما دفعني وأنا أقرأه إلى أن أرفع رأسي عاليا، وأن أسمع شيئا آخر»(10)
على صعيد جمالية التلقي: تؤسس الرواية لوعي جمالي جديد ساعية الى جعل القارئ متأملا ومثيرا للأسئلة حول بنائية النص، باحثا في دلالات تقنياته الاسلوبية وانكساراته المتكررة، صادمة بذلك للذوق التقليدي الذي تستهويه روايات الحبكة القائمة على الترابط والتسلسل الحكائي.
«ذاكرة رجل مختلف» تجربة روائية متفردة: من حيث بنائها وأسلوبها وفلسفتها، تجربة «حداثية» منفتحة على قراءات نقدية متعددة، يسعى كاتبها، بتأن وثبات، إلى أن يجد له موطأ قدم في ساحة الابداع الروائي المغربي والعربي عموما…


الكاتب : نعيمة غرافي (ناقدة)

  

بتاريخ : 10/11/2023