حائط ُالفلسفةِ

أيها الغريبُ ..
يا شقيقَ المحنِ والهباءِ،
كنتَ ذكرى ملقاةً –عبثا-
كالمعاني في الطريق، يلهو بها
قِطٌّ قَدَرِيٌّ أَعْمَى.
لقد سبقتَ وجودكَ
إلى الدنيا،
ووجودُكَ – بالكاد – يظهر،
لأنك في الأصل – ما كنتَ،
أَوْ
كنتَ صَدى ضَجَّةٍ عَبَرَتْ، لأَرْجُلٍ
فوق بساطِ أوراقٍ مَيْتَةٍ،
قطرةً اِنْزاحَتْ – بغتةً – من
بَنْطالِ مَطرٍ مُمَزَّقٍ،
شَرِبَتْها ألسنةُ الشمسِ المُتَشَقِّقَةُ،
وَداسَها يَباسٌ رَصَدَ سقوطَها
قبل أن تقع على لوحٍ مقلوبٍ
يَتَلَجْلَجُ كمِثْلِ سلحفاةٍ مُشَقْلَبَةٍ،
لَوْحٍ متروكٍ لطيشِ أطفالٍ
وَلاَ مُبالاةِ السّابِلَةِ.
هل كنتَ قبلَ اليومِ،
وما ستصيرُ إليه بعد اليومِ،
وَما أَنتَ فيه يومَ اليومِ؟.
بقرةٌ صفراءُ تَخورُ في عينيكَ.
غيمةٌ داكنةٌ تَرَقْرَقُ في صدركَ.
خنادقُ مفتوحةٌ على الطّلْقاتِ،
تشْهَقُ ذهابا وإيابا
تحت تحية الرصاص.
وطاويطُ، غريبةُ الهيئةِ،
كأنها أبابيلُ
تأكل يَرابيعَ القشِّ،
تُجَرْجِرُ – مُهْتاجةً – تلابيبَ الشمسِ.
وقطةٌ جرباءُ في كتابكَ.
غِراسُكَ حصىً وعظامٌ
ستتحول إلى أشجار ناشِفَةٍ،
وبُطْمٍ محروقٍ،
وأدغالٍ تنتحبُ بين
غابات اللَّايقينِ،
ورعود النسيانِ !.
فأيُّ غَيْبٍ سَرْسَبَ الوجودَ إليكَ،
دَحْرَجَ الظلالَ الثَّمِلَةَ في
وِهاد رُفاتِكَ،
وَنَسَجَ كَفَنَ قيامتكَ؟.
أيُّ عدمٍ أَعْشَبَ في خاطرك
حتى صار ما أَنْتَهُ…
ما كُنْتَهُ..
وما ستكونُ…؟.
أيُّ هاتفٍ عُلْويٍّ،
أي نداءٍ سُفْليٍّ، يجوسُ في
التقاطُعِ المُسْتَريبِ المُرْتبكِ،
تَحَسَّسَ ميزانَكَ حيث الحَشْرُ نَشْرٌ،
والنحل الآدميُّ سحابٌ يَتمزَّعُ
تحت أنْصالِ ما أريدَ لكَ لاَ ما أَرَدْته ُ؟.
الزئيرُ مُضْغَةٌ أُولَى وَمَلِكٌ.
الزفيرُ تَعِلَّةُ الخَلْقِ البَدْئيِّ.
والرَّعْدُ الهادرُ نَتُوجٌ.
بين يديه، تبرق سماواتُ الغَضَبِ،
وَتَصُبُّ – مِدْرَاراً- مَراسيها،
أقداحا أيضا للسَّوْرَة والتسليةِ،
مثلما تَكيَّةٌ في الطُّرُقِ المَوْءُودَةِ،
تُظَلِّلُ الهاربين المُدْلجين، وتَفْرِشُ، السَّعْفَ
والأذكارَ والتَّقْوى، للقلم والكتابِ
والمَنِّ والسَّلْوى.
أرَأَيْتَ النطفةَ،
أين كانتْ، ومِمَّنْ تحدَّرَتْ،
كالدَّرْقِ المَهينِ اكتسى لونا بعد ذلك،
وَارْتَدى عَظْما ولَحْما، وموْجوديةً كاملة أو تكاد؟.
أَرأَيتَ العَماءَ،
يَصْفِرُ – كَقُبَّرَةِ المشيئةِ – في أذن الصُّورِ.
يعلو طبقاتٍ، ثم يغمرُ بالسواد
أجنحةَ الجهاتِ حتى تَنْحَجِبَ مشمولةً
بالمحو، والتلاشي، والدُّثورِ،
وغازات الانفجار العظيم؟.
غير أنك سُوَّيْتَ من طينٍ.
ومن صلصال انبثقتَ، وحمإ مسنونٍ،
فجئتَ الكونَ ذاهلا مذهولا،
أسنانُكَ في العجينِ المتلون بأقواس المطر..
وفي أذيال الغيوم الأشهى والأَطْرَى من
زبدة الموائد الشقراء.
يداك في حرير اللحم الشفيف،
في اللذة المتشنجة.
رجلاك –مع القُنْدُس الفكاهي-
فوق سلالم الريح الزاجِلةِ..
في رموش الأحلام المُسْدَلَة.
وعيناكَ على مَهْبِلِ الخروجِ:
مغارةِ الخَلْقِ والخليقةِ،
كهفِ الحمامة الحكيمةِ،
وبيتِ الرُّتَيْلاءِ العذراءِ !.
كأنكَ دائرةٌ طُبْشوريَّة
يسْكُبُ عليها مجنونٌ ماءَ الخرافة،
وَبُولَ العنقاءِ.
كأنك مُرَبَّعٌ اعتلاهُ الكَوْسَجُ،
وَحاطَه العوْسَجُ،
وَحازَهُ–كما في قوانين الضَّواري-
جمعُ الغيلانِ النَّهِمَةِ للأشْناتِ اليابسة،
والقواقع المَيْتَة، والرجال الجُوفِ الذين –مع ذلك-
هُمْ مِلاَءٌ كالضفادع البرمائية المزخرفة.
كأنك القمرُ في كامل كُسوفِهِ،
الشمسُ في أوْجِ خُسوفِها،
والظلامُ في أمْعائه المليارِ، وطياته اللاَّتُعَدُّ.
كأنك الكائنُ الذي لم يكنْ.
الموجودُ – المعدومُ.
العدمُ – الخَواءُ.
الهباءُ – الفراغُ – التجويف – العَمَاء –الشَّاووسُ-
البياضُ الصَّاعقُ المُعْشِيُّ
النَّبوتُ المَدْعوسُ.
الجسد الفتيتُ.
العقلَ الخَرِبُ الذاهبُ.
الظلامُ الدامسُ حين أرومُ الرؤيةَ التي أرومُ.
الرمادُ المسحوقُ يَغْشَى مخيلتي،
وَمَا أنا بِهِ أصيرُ.
مَا صِرْتُ شَيّا.
ما كنتُ في بال الخالق حتى أصيرَ !
فكيف أقولُ أصيرُ؟.
وَمَنْ يَنْبِسُ، مَنْ يَكْبِسُ،
من يُفْسِحُ للهواء طريقا هَنيّا
مُعْوَجّاً أوْ سَويّا،
حتى أُفْصِحَ، وأقولَ شيّا؟.
الهواءُ نأْمَةُ الحياةِ..
ونسمة الكينونة، بينما أنا مُغْلَقٌ،
أَغْلَفُ، مُصْمَتٌ، فمِنْ أين يَدْخلُ؟.
أكْدَحُ كيْ أَعْرِفَ وما عرفتٌ.
لكني أقولُ لنفسي سكرانَ ـ صاحياً،
أو يقالُ لي على الأرجحِ:
وَمَا شأنُكَ أنتَ بشأنِكَ،
مَا أمْرُكَ إنْ كان ثمَّةَ أمْرٌ؟.
ما قصة دنياكَ الزائلةِ،
أيها الزائلُ الفاني، المعدومُ،
ما قصتها، وَهْيَ الأضيقُ من جُحْر الضَّبِّ؟.
وما قصةُ أُخْراكَ الباقيةِ الآتيةِ،
أيها الضَّجِرُ –القَلِقُ- المَلولُ – كارِهُ الصبرِ والانتظارِ.
الْقَفْقَافُ..
التَّأْتاءُ..
الحمارُ المُسْتَنْفَرُ..
المَهيضُ..
المُخَلَّعُ، المرصودُ للفَتْكَةِ الْبِكْرِ،
والمحوِ الدائمِ المستدامِ المستمرِ؟.
مَا بِكَ؟،
أَنْتَ الذي – إِمَّا وَضَعْتَ رأسكَ
بين قُرْطَيْنِ – تبيعُ ما تملكُ وَتَدُوخُ !؟
فكيف تَسْألُ..؟
تُسائِلُ السؤالَ أيُّها العَيِيُّ التافهُ،
الأُمِّيُّ الخَرِفُ، الجاهلُ الجهولُ، المنذورُ للرَّوْثِ
في أحسنِ حالٍ، والدُّودِ الشَّرِهِ الجوْعانِ
-أبَدَ الدهر- في أَسْوَئِهِ.
غيرَ أَنَّ السُّوءَ أجدرُ.
أما الحَسَنُ فإلى ميقاتٍ إذْ سَرْعانَ ما يندثرُ،
ويتجلى، إثْرَئِدٍ، كثغر ياقوتٍ، خلف الخِمارِ،
بعد سبعٍ وسبعين لَفَّةً.
أنغاما تَزِنُ الكونَ
تقيسُ الأبعادَ،
وتعيدُ ترتيبَ الخَلْقِ والنشأةِ الأولى،
فماذا تقولُ؟.
أتُرى أعرفُ ما أعرفُ..
أنني هباءٌ ورمادٌ،
أنَّ بوْصَلَتي عَمِيَتْ،
أنَّ بَيْنِي وبيني، نهراً أسودَ
ملوثا مأهولاً بالسّحالي والطحالب العفنة،
وَسَدَّادتِ الأَنْبِذَة الفاسدةِ، ولوالبِ مَنْعِ الحَمْلِ
منتهيةِ الصلاحيةِ، والرُّزَمِ البلاسْتيكية وَعُرَى الصحونِ الخزفيةِ المكسورةِ وسواها
من الخُوَذِ البْرونْزيَّةِ المُقَوْنَسَةِ، والصناديقِ الخشبيةِ
المحشوةِ بالبارود المُنْطَفِي، وَبِمَا لاَ أدري؟،.
أَنَّ الظلَّ لاَ يَقينِي لَهَبَ اللاَّيقينِ.
أتُراني أَشَهَدُ موتي علانيةً،
وَأُشْهِدُ الحياةَ على موتي،
والموتَ على حياةٍ خاويةٍ غاويةٍ،
مَا حَوَتْ أطايِبَ. كانَ الغَمُّ دَيْدَنَها، وَسُبلَها الأكاذيبُ
والخِزْيُ، والتُّرَّهاتُ؟.
مَا تَبَقَّى سِرُّهُ أنتَ.
ما خلاَ سرِّي لَوَحْدِي.
مَا سَيَأْتي: شكلي في هيئة كبشٍ مليحٍ ذبيحٍ،
أوْ أَيِّلٍ جبليٍّ يرْعَى وَيَسْعى – كَدَأْبِهِ- إلى حَتْفِهِ
الذي ينتظره، حَتْفٍ يُقْعِي كذئبٍ جاع منذ دهرٍ، أو كمثل
نَمِرٍ هنديٍّ مُرَقَّطٍ أوْ مُخَطّط، أميرِ الموتِ الذهبيِّ الذي
يَذْرَعُ السَّافَانا والأدغالَ، والأعاليَ، والمُنْخَفَضاتِ،
منتظراً وُصولي.
فهل أكونُ وصلتُ؟.
كَفَى.
لقد وَصَلْتَ،
أيها الكائنُ البائسُ؟.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 01/12/2023