حديث محبرة … ترويض النص الشعري أو الشعر موظفا لدى المؤسسات التربوية 2/2

هاجس التربية بوساطة الشعر كان حاضرا لدى الصَّحابة على رغم نهي القرآن من اتّباع الهوى والغواية التي يصونهما الشعر بمهارة واقتدار. فقد أثر عن عمر بن الخطاب أنه قال: (علموا أولادكم لامية العربي فإنها تعلمهم مكارم الأخلاق). أما اللاّمية فهي القصيدة الأشهرُ للشاعر الصعلوك الجاهلي الشَّنْفَرى، والتي يقول مطلعها:
أقيموا بني أمي صدور مَطَيِّكمْ فإنّي إلى قومٍ سواكم لأَمْيَلُ
فقد حُمَّت الحاجاتُ والليلُ مقمرٌ وشُدَّتْ لطياتٍ مطايا وأرْحُلُ
وفي الأرض منأىً للكريم عن الأذى وفيها لمن خاف القِلَى مُتَعَزَّلُ
كما رُوِيَ عن الفقهاء والخلفاء، احتفالهم المعتبر ب: (لامية العجم)، للطَّغرائي، والتوصية الملحاح بتحفيظها للنشء والأبناء، إذ أنها تنطوي، على غرار لامية العرب، على مكارم الأخلاق، وتدعو إلى تمثل المباديء السامية، والمُثُل العليا، والعمل بها.
أصالةُ الرأي صانتني عن الخَطَلِ وحِلْيَةُ الفضلِ زانَتْني لدى العَطَلِ
مَجدي أخيراً ومجدي أوَّلاً شَرَعٌ والشمسُ رَأْدَ الضحى كالشمس في الطَّفَلِ
فيمَ الإقامةُ بالزَّوْراءِ لا َسَكَني بها ولا ناقتي فيها ولا جَمَلـِـــــي
أُمَنّي النفسَ بالآمال أرْقُبُهــا ما أضْيَقَ العيشَ لولا فُسْحَةُ الأملِ
وفي كل هذا، في ما أشرنا إليه، لا يَنْبَهِم الوجه التربوي داخل الشعر، ولا يتوارى حتى في أكثر الشعر غرابة وانغلاقا، ذلك أن الجمال هو المطلب الأول والأخير في الفن.. في الشعر.. في الموسيقى.. في النحت، والرسم وغيرها.
وما لم يكن الشعر داعيا إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، فليس ذلك مثلبة فيه، ولا بتدهور أخلاقي يعانيه، وليس معناه أطِّراحه بعيدا، وإقصاؤه من ناظم القراءة والاطلاع، والسَّبْر، والبحث. فالقيمة التربوية التي ينطوي عليها النص، لا ينبغي أن تكون بالضرورة أخلاقية، بل قد تكون جمالية بحت، وفي ذلك ما يَشي بحقيقة النص الشعري، بشعريته، بسيماه وكيميائه. إذِ الجمال مدعاة للرضا النفسي، ومهماز ناعم شفاف إلى الاستمتاع والالتذاذ، والحمل بالحسنى الرقيقة الرهيفة على حب العناصر والأشياء والكائنات من حولنا، وفي مقدمتها الإنسان. وكفى بالجمال قيما رفيعة، وتربية سامية لأنها تحملنا على حب البشر، والحرص على استحقاق الإقامة المشتركة فوق الأرض: بيتنا الوسيع الشاسع المترامي، جميعا.
نعم، للأدب والفن، خارج وسياق ومشروطية نَتوجٌ، عمِلتْ على تنْطيفِه، وتخليقِه وتشذِييه، وتَعَهُّدِه حتى استوى نصا سويا، جميلا، فاتنا، حَمَّال أوجه، ومستبطن غايات ورؤى، وهذا ما عمِل نقاد كبار على التذكير به، والتنبيه إليه آنَ عَرْضه وتقديمه للتلاميذ والتلميذات داخل المؤسسات التربوية، عملوا على ذلك من أجل تخليص الأدب والفن عموما من الشكلانيات، والمقاربات البنيوية الميكانيكية التي أجهزت على روحه، ومحيطه، وغيَّضَتْ ماءه، ما جعل التلاميذ، يستثقلونه، ويمُجّونه، ويعرضون عنه في الأخير، في ما ذهب إليه أحد أساطين النقد البنيوي = تودورف في كتابه الذائع : الأدب في خطر : la littéraure en péril»، ولسنا بصدد تقديم الكتاب ولا الوقوف على مرتكزاته وأطروحته العامة، وإلا فإن المقالة ستفيض على حدودها. قَصَدْنا الإشارة، وحسبُ، إلى أن ماحاوله تودورفْ كان إنقاذ تدريس الأدب من الورطة «الرياضية» والتجريد، والرسوم الهندسية التي سقط فيها ردحا طويلا من الزمن في فرنسا بالتحديد. إذ تسربت هذه المناولة النقدية والتدريسية ذات البعد الواحد للشعر الفرنسي والكوني، إلى برامج ومناهج اللغة الفرنسية، وإلى الكتب المدرسية، بعد أن كانت مقصورة على كليات الآداب والعلوم الإنسانية.
وليس بين أهل الأدب والفن والنقد، من يطعن في أهمية المقاربات الشكلانية والبنيوية والتفكيكية للنصوص الإبداعية. فقد خدمتها خدمة جُلَّى وهي تقف على أدبيتها وشعريتها، وجوهرها الجمالي الباني الثاوي في الدخائل والمطاوي، غير أن إقراء الشعر وتدريسه ضمن مجال محدد، وفضاء معلوم ومتعين، وهو المؤسسات المدرسية، يفرض تطويعه وتقريبه وتحبيبه، والتقاط معناه، هذا المعنى الإنساني الذي لاحدود له، القمين بتوحيد مسعانا نحو أفق مضيء مشترك نحو ما يؤَنْسِنُنا. إنه المعنى المحفوف بالوشوشات المدغدغة البعيدة، والملفوف في قفطان الورود والأزاهير النَّضِرة العَطِرة، والمحمول على أجنحة طيور لا تُرَى، ترتفع عاليا في سماء الوجد والعرفان، أو تنزل عميقا إلى أغوار النفس والإنسان. ذلك هو المعنى المطلوب، المُرْتَجى المَروم الذي تقتضيه المعاملة العارفة والفاهمة والسابرة للنصوص الشعرية، وهي تتقدم وتُقَدِّمُ بكل الألق اللغوي، والعنفوان الأسلوبي، والتجنيح التخييلي، والرفرفة المجازية، إلى المتعلمين والمتعلمات، بعيدا عن تفكيك «البراغي» الذي يُمارَسُ بوعي أو بدونه، على النصوص الشعرية سواء أكانت إحيائية تقليدية، أم رومانسية ذاتية؟ أم حرة تحديثية؟.
وما لم نُحبَّ الشعر، فإننا لن نُحَبِّبَه مطلقا للناشئة المتأدبة والمتعلمة.
وما لم يُراعِ واضعو البرامج والمناهج: الأشباحُ، معطياتِ التقدم والتطور المعرفي، وحصائل ما تحقق ويتحقق في مضمار الفن والرواية والشعر وطنيا وإقليميا، وقاريا، بالتتبع والانتقاء، والاصطفاء، واستدعاء العارفين بالمجال من شعراء، وروائيين، ونقاد أدبيين، وأساتذة تربويين ذوي تجربة وكفاءة وحضور، فإن وظيفة الشعر لن تتخطى الفهم والإفهام، والحض على المروءة والصبر والوطنية، والصلاح والفلاح، بشكل مكرور معاد ومستعاد. أي لن تحقق الرهان المطروح والمرتجى، وهو: هل يحقق النص الشعري الراهن المسطور في الكتب المدرسية، الإشباع الجمالي كوظيفة تكوينية أولية وبعدية، لدى التلميذ؟. وهل الزمنية الإقرائية التي لا تتعدى الحصتين، قادرة على إيفاء النص الشعري حقه من قراءة منهجية محكمة موصلة إلى معناه القيمي والجمالي، وبنيته التعبيرية العامة التي تحتضن – طبعا- الشكل والمضمون في تَضامٍّ واقتران وانْدِغام، لا مجالَ معه للافتكاك، والانفصال، والإبعاد، والغَصْب؟.
ومع أن تنصيصات الكتاب الأبيض، والميثاق الوطني للتربية والتكوين، والتوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة اللغة العربية، حاضرة في تدبيج مقدمات الكتب المدرسية المقررة، وفي مصاحبة الأستاذ(ة) في أثناء تخطيطه للنص الشعري، وتدبيره، وتقويمه، فلا مناص من حضور وازن للأستاذ، ما يعني لا مناص له من الاستعانة بمقروءاته المختلفة في مضمار النقد الشعري والأدبي، حتى يحسن إلى النص، ذلك الإحسان الذي يتمثل في توصيل قيمة خلقية أو قيم في إهاب من الفن والجمال، حريصا على تَبْيان وإبراز حقيقة أن اللغة لا تحيا إلا بالشعر… و تلك فضيلة ما بعدها فضيلة.

( نص مداخلتي في ندوة عقدها بيت الشعر حول موضوع: « الشعر والتربية «ــ يومي الجمعة والسبت 20 / 21 أبريل 2018، بحاضرة مراكش.)


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 01/04/2022