حول التقليعة الفايسبوكية الجديدة «أش كتعرف علي»

 

إذا كان الفايسبوك يتاجر في عواطفنا، فلأننا نمنحه مشاعرنا سرا وطواعية، وهاهو اليوم يجاري أمزجتنا بسخاء وبمنتهى السحر والجاذبية، يغرقنا في محيط شاسع من الرغبات والإغراءات والاستيهامات عبر تقديمه مآت الوصفات والاقتراحات ذات الطابع البرغماتي، القابلة للتفاعل. فمن اللائق أن نختار زمان ومكان السباحة في هذا البحر الذي لا قرار له؟ وللحقيقة ، فصاحب التدوينة يعتبر نفسه أنانيا حقا ، فكل ما يمكن أن يجرح الناس أو يثير اشمئزازهم يمزقه أيضا.
التقليعة الفايسبوكية الجديدة «أش كتعرف علي» في شكلها الأنثوي تفرض اليوم على ناشطي الفايسبوك أكثر من سؤال: هل هي استجداء مكشوف للمدح والثناء المفتقد أم رغبة مزاجية لاقتحام أسوار الذات من خارجها؟ هل هي دعوة مكشوفة للكشف عن الخبايا والأسرار الدفينة ونشر غسيل ما مضى، أم مجرد استجلاء بريء للآتي من الطموح والانتظارات والأحلام بعيون أكثر اتساعا؟ الحقيقة أن المرء لا يدري لمن يختلقون هذه الأفكار الفجة، في حين أن كل ما نحتاجه اليوم من الفايسبوك هو فكرة هادفة ونقية.
وبالمكشوف، ماذا تريد سيدة تدرج صورتها الشخصية في كامل أنوثتها مرفوقة بعبارة «أش كتعرف علي» بالضبط ؟ ليس لدينا صلاحية الإجابة طبعا لكن ما نود التأكيد عليه هو أن السؤال شجاع جريء ومفتوح مفتوح مفتوح ياولدي، ومشرع على كل الاحتمالات. قد يبدو الجواب الأقرب إلى الفهم: أن السؤال علامة استفهام كبير لإيقاظ الشياطين الناعسة، لا سيما تلك التي تنام بعين واحدة. لا يهمنا حقيقة إن كانت السيدة في كامل وعيها، وأناقتها المزهرة أثناء تحرير هذه الفكرة العجيبة، ولها كامل الحرية والحق في ذلك، لكن ما يهمنا بالأساس هو تلك القوة والقدرة على التحلي بشجاعة منقطعة النظير، خلافا يعتقده الكثيرون.
ولنتحرى الدقة في شخصية السيدة، وهي تنظر إلى نفسها في المرآة بالمجهر، وتختبر قوة المساحيق وفعاليتها السحرية قبل أن تقدم على إدراج صورتها المفضلة والمنتقاة بعناية فائقة، ترى هل ستكون لها نفس الشجاعة والقدرة على التحمل وهي تستقبل ملاحظات موجعة ،منحرفة الهدف، وموجهة توجيها غير سديد، وما أكثرها، تعليقات صادرة عن أناس تجهلهم ويعرفونها، كما أنها تعرفهم ويجهلونها. لعلهم من صداقات الجوار، أو لربما من تلك الصداقات الطائشة المشيدة على أنقاض اللقاءات العابرة مع جنسيات افتراضية خارج الحدود، كما على الشساعات الكوكبية.
ولربما نستطيع النظر أبعد من ذلك، هل تقبل الناشرة بفكرة أن الصورة المدرجة خضعت لسكانير ولمسح ضوئي دقيق قبل العرض. بل وأنها تعود لزمن مضى ولا تعكس حقيقة الوضع الراهن. فكيف تتفاعل مع آراء الفسابكة المختلفة الأمزجة التي قد تتعدى الصورة لتتقتحم عوالم أخرى ؟ وكيف ستدبر نظراتهم الزيغاء المتجهمة، والتي تقول مالا تفعل، وتفعل مالا تقول؟ فعالم الأزرق بقدر ماهو جميل هو سافل أيضا.
أكتب هذه التدوينة، وذاكرتي مفتوحة على اتساع أزرق، حيث تتراءى لي كثبان حرية التعبير جلية واضحة ومصانة للجميع ، وبقدر ما تتقوى تلال الذات والخصوصية والأمور ذات الطابع الحميمي تبدو الخصوصية مختالة ومتحايلة ومكشوفة في صدر الأفق البعيد.
عندما تطلب منك أنثى غاية في الجمال إبداء رأيك فيها من خلال صورتها ؟ أنت الفايسبوكي الذي لا تعرف عن السيدة الماثلة أمام عينيك سوى الصورة، أو ما تتقاسمه صاحبة الصورة على صفحتها تبعا لخلفيتها الثقافية والتربوية طبيعتها مزاجها وأسلوب حياتها ، كيف ستتفاعل؟ وما لذي يبدو لك على فجأة القيام به ؟ وما أولويات هذا التفاعل؟ ما الجانب الذي تراه جديرا بالمدح أولا؟ الصورة تقنياتها وأبعادها الفنية اللون الكادراج زاوية الالتقاط الضوء أو المزاج الشخصي المتحكم في الصورة؟
هل تستطيع القول مثلا هذه الصورة قديمة ولا تعكس الشكل الحالي لصاحبتها؟ وتثبت بالملموس انها تعود لمرحلة ما، وهل لديك الحق في ذلك؟ وقد تذهب بك الجرأة بعيدا وتحدد العمر بالسنوات وتلك مجازفة غير محسوبة العواقب. هل تتحدث عن لون الماكياج مثلا وتناسبه مع الخدود والشفايف المعدلة؟ أم تتحدث عن شيء آخر غير ما تظهره الصورة؟ وتستقري الدلالات ما بين السطور، ربما تسارع للتنقيب عن فترة من حياتها السابقة أو عن مرحلة مشتركة من شكلها المهني أو وضعها الاعتباري في المجتمع. أو تستعجل لسانك للكشف عن أمور مسكوت عنها وذات طابع خاص. وهل تريد هذه السيدة شيئا آخر غير ما تنطق به الصورة ؟ وما الهدف بالضبط من إدراج صورة نصفية لسيدة في كامل أنوثتها، غير مدح جمالها من النظرة الانطباعية الأولى مرورا بالتسريحة المرتبة بعناية فائقة، ولون الماكياج وتناسبه مع الشفايف والخدود؟ وهل ستقتنع بأن الأمر في مجمله لا يعدو كونه استجداء لآلاف الإعجابات والتصفيقات واللايكات وترصيدها، أو حتى تلك التعليقات المرسومة بغباء بكلمات شعواء ومشاعر مقتبسة متحجرة العواطف؟؟؟
هل تريد هذه السيدة أن تسمع رأي الناس فيها حقيقة؟ منذ متى كيف، أين حدث ذلك ولماذا؟ هل ترغب في معرفة كيف تبدو للناس بصفتها الحقيقية في الواقع، أم من خلال صورة فقط ؟ هنا تحديدا لا أحد بإمكانه ذلك، ليس لأن حياة الناس باتت مكشوفة من تلقاء الذات بل لأن ثمة خصوصية تشكل خطا أحمر. ويمكن أن تنهار علاقة صداقة مع صديقة بمجرد تحديد سن السيدة ولو مزاحا . أية شجاعة وأية مغامرة؟
وإذا ما سلمنا للمرأة بواقعها المتفاعل، ماذا يريد رجل يدرج صورة له أيام الشباب، ويطلب من أصدقائه إبداء الرأي في شخصه كما لو أنها بعدسة اليوم؟ لقائل أن يقول أن الصورة مضى عليها 40 سنة، وصاحبنا اليوم بعد أن حصل على تقاعده الوظيفي تتقاذفه العزلة وكراسي المقاهي من زاوية إلى أخرى. إذا كان الفايسبوك يتاجر في عواطفنا، ونمنحه مشاعرنا طواعية ويغرقنا في محيط شاسع من الإغراءات عبر تقديمه مآت الوصفات والاقتراحات ذات الطابع البرغماتي، فمن اللائق أن نختار زمان ومكان السباحة؟ وللحقيقة فانا أعتبر نفسي أنانيا حقا، فكل ما يمكن أن يجرح الناس أو يثير اشمئزازهم يمزقني أيضا.


الكاتب : عزيز باكوش

  

بتاريخ : 07/12/2020