حيــرة سعيد بنكراد حول مآل الجامعة المغربية : رحم الله الجامعة المغربية… عاشت الجامعة المغربية : تهويل أم تنبيه؟

 

إفادة وإنارة: جامعة محمد الخامس بين رؤيتين

لا أدري سبب استحضاري في هذا السياق لكتاب بعنوان: جامعة المستقبل، نحو جامعة مغاربية تنافسية، لحفيظ بوطالب جوطي. وهو باحث جامعي في فيزياء الطاقات العالية بكلية العلوم بالرباط، ورئيس سابق لجامعة محمد الخامس. وهو كتاب صادر سنة 2012، أي قبل سنتين بالضبط من انتقال سعيد بنكراد بالجامعة نفسها سنة 2010. الأول يبشر بجامعة جديدة للمستقبل، مستحضرا واقع الجامعات العالمية الكبـرى في العالم، ومحللا قضايا منظومات التعليم العالي والبحث والابتكار زمن العولمة، ومجتمع المعرفة وثقافة البحث والابتكار، وضرورة الاستثمار فيها لتكوين « مواطنات ومواطنين ذوي خبرة وكفاءة عاليتين، سواء في المجالات العلمية أو العلوم الإنسانية والاجتماعية أو تقنيات التواصل والتفاوض، يشكل أفضل وسيلة للدفاع عن المصالح الحيوية للبلاد وأحسن ضمانة لتنافسية فاعلة» (ص12)، والثاني، موضوع هذه الدراسة، وهو باحث جامعي في السميائيات، ينعي الجامعة المغربية، ويعلن نهايتها المحتومة: «رحم الله الجامعة المغربية». (انتهت الإفادة والتنوير).
ثانيا- سعيد بنكراد طالبا في الجامعة أو ثقل التاريخ المزدوج

الرفيق سعيد بنكراد طالبا بجامعة سيدي محمد بن عبد الله: ورطة النضال

التحق سعيد بالجامعة طالبا سنة 1974، «مندفعا نحو الكوني والأممي» (ص37)، وقد جاء من مدينة بركان مهيأً ومعبأً لمتابعة النضال السياسي في جامعة سيدي محمد بن عبد الله، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، بفاس، تحت يافطة «اليسار الجديد»، ممثلا في منظمة 23 مارس 1965 «أول حركة جماهيرية واسعة النطاق في مواجهة النظام السياسي المغربي بعد الاستقلال» ( علال الأزهر، الماركسيون في المغرب، ج1، 111) ومنظمة إلى الأمام (ص52) التي انخرط فيها مذ كان تلميذا، بتلقائية وعفوية. كان الانتماء فجائيا وتلقائيا وبوازع مقاومة المهانة و»التهميش والظلم والغبن والحكرة» (ص52/53)، وعينه عصرئذ، بكثير من الحماسة والسذاجة، على ثورة ضد النظام القائم(العمري، زمن الطلبة والعسكر، 182) ، كان يعتقده نمرا من ورق، من أجل إقامة دولة الفقراء، والطبقة البروليتارية. كان واحدا منهم، كما يقر بذلك في مناسبات كثيرة في السيرة. وبفضل أساتذة تخرجوا من الجامعة المغربية، وبعضهم من خريجي الجامعة الفرنسية من الأجانب، علموه، وهو تلميذ بالتعليم الثانوي، العلم والمعرفة والوعي السياسي والحس الوطني» (ص42)، وأسهموا في «توريطه» في النضال، بمضمونه اليساري الجديد (ص 52).
في مدينة فاس، كما يقول الطالب سعيد بنكراد،» ستبدأ حياتي الجديدة، في المعرفة والسياسة وروح المغامرة والسفر والمنفى بعد ذلك. لقد كانت مرحلة مفصلية في كل اختياراتي اللاحقة»(ص59.) كان الطالب سعيد منتميا لشعبة اللغة العربية وآدابها بتأثير من أساتذته في الثانوي، غيـر أنه أدرك في ما بعد بأن «أغلب المواد المقترحة في هذه الشعبة من طبيعة تقليدية، وكان توزيعها على السنوات الأربع للإجازة اعتباطيا ودون معنى في أغلب الأوقات. كان التركيز منصبا على تاريخ للأدب يختلط فيه الدين بالاقتصاد والسياسة والاجتماع وأشياء أخرى لا رابط بينها وبين الإبداع الأدبي… لم نكن نناقش ما يُعرض علينا، ولم يكن يُطلب منا رأينا في ما يلقى علينا. كنا نتلقى هذه الدروس باعتبارها حقائق ثابتة لا يأتيها الباطل من كل الجهات…».(ص60).
قد تكون هذه الأسباب وغيرها مدعاة لعدم الاهتمام بتلك الدروس، إذا زدناها أن أغلب الأساتذة حينها كانوا يعتمدون إملاء دروس، وبكثيـر من الفتور والرتابة، وبقليل من الجدة وروح الابتكار. الأحرى من كل ذلك، أن مضامين تلك الدروس الملقاة على الطلبة، أغلبها «منتهية الصلاحية»، وغريبة عن محيطها المجتمعي، وعن حقائق الواقع ودرجة المتاح الحضاري المغربي. دروس تغلب عليها يقينية الإجابة، وسكينة المُثل المحنطة، وجاهزية القناعات.
مما زاد الطين بلة وقتها، وسعيد بنكراد يعدد «أمراض» الجامعة، الربط اللزومي الحدّي بين الجامعة و»النضال»، بين الثورة والماركسية، بين سقوط نظام حاكم ونهوض آخر، بين الرجعية والتقدمية، بين تحرير فلسطين وتحرير الشعوب. وأحسن الأمثلة على ذلك، بحث تخرجه في شعر أحمد فؤاد نجم الذي غناه الشيخ إمام، وهما المحسوبان على النضال اليساري التقدمي. كان الشعر والأدب وقتها عموما في الجامعة المغربية، « امتدادا للمعركة النضالية التي لا تقل هي الأخرى أهمية من النضال في ساحات الحرم الجامعي» (ص78)، في المظاهرات والتجمعات العامة الاستقطابية، والمناسبات التحريضية والثورية. كانت الجامعة المغربية عصرها مطوقة بالأيديولوجيا، وبالنزوع القومي، والصراع السياسي، وفي أجواء احتقان قوي واستقطاب مانوي حاد: معي أو ضدي. الأمر الذي كان على حساب مهام الجامعة وأدوارها في التأطير العلمي والبيداغوجي وإنتاج المعرفة العلمية.
كان سعيد بنكراد وقتها ماركسيا حتى النخاع، بل و»ماركسيا لينينيا يرى العالم مقسما إلى فوق وتحت، يشكل التفاعل بين الطبقتين الأصل في كل شيء، في السياسة والاجتماع والثقافة»(حوار في مجلة البلاغة وتحليل الخطاب، ع3، ص133). لا يفكر سوى بالبنية الفوقية والتحتية، والصراع الطبقي، ودولة البروليتاريا، وبالثورة والعمال والجماهير… كان يعيش ورفاقه عصرئذ في «طمأنينة ثورية قل نظيرها «يجسدون الحقيقة وينطقون باسمها، ودونهم العماء. يقول في هذا الشأن، وبصراحة وجرأة نادرتين، وفي ظل مراجعة شجاعة:» كان الاستقطاب مانويا دائما، معي أو ضدي، أبيض أو أسود، ولم يكن هناك من حد ثالث بين الحق والباطل، وبين الظلم والعدل، بين الفقر والغنى، والديمقراطية والدكتاتورية. كان هناك أيضا فاصل بين الشعب وحكامه. بين من يملك كل شيء ومن لا يملك أي شيء. وهذا الاستقطاب هو الذي كان وما يزال يغذي كل نزعات التطرف والتشدد» (ص72)…
وإذا أضفنا إلى ذلك الحضور القوي للقضية الفلسطينية في حياة الطلبة بالجامعة المغربية، أدركنا غلبة الإيديولوجيا على العلم، والسياسة على المعرفة. من لم يساند الشعب الفلسطيني وقتها، ولم يحضن القضية، سرا وعلانية، صار خائنا ورجعيا، و»مشكوكا في نضاله وثوريته» (ص81) عند طلاب اليسار، وبنكراد واحد من قاداتهم الميدانيين. إنها أكبـر من قضية وطنية، تسكن الوجدان وتستبد به، وتقيم في كل تفاصيل الحياة وتستوعبها، في الكوفية ملفوفة على الأعناق، وفي حفظ الشعر والاحتماء به، وفي الانتماء للفن التشكيلي والتماهي مع رموزه (حنظلة مثلا). إنها أكبر من قضية وطنية، رغم أنها، بتعبير عبد الله العروي، «بعيدة عنا. لا نستطيع التأثير فيها، ولكن تلهينا عن نفسنا»،( عوائق الحداثة، ص62). قضية يهش بها اليسار الطلابي وامتداداته حينها على «النظام المخزني الرجعي، وعلى كل الرجعية العربية من الرباط إلى الرياض»، ليس فقط من أجل فلسطين وتحررها، بل باعتبارها سندا رمزيا لبناء «أوطان جديدة بلا عسف ولا قهر ولا: حكرة» (ص82). وقد كانت ضريبة المسار ذاك قاسية بالنسبة لسعيد بنكراد، بل بالنسبة لجيل منتظم في هذا الأفق. تجربة اعتقال مرة ومرعبة، مختلة وغير متكافئة. مطالب بسيطة، وقمع شديد، أحلام صغيرة، وتعذيب رهيب.. حيرة وتيه، ظنون وشكوك…
كيف حصل الذي حصل؟ ولماذا حصل الذي حصل؟ كان سعيد بنكراد يحكي تجربته مع الجامعة ويتأمل ويؤول فيستخلص بوعي اليوم والأمس ما ينبغي استخلاصه. فهو طالب ضمن طلبة ذلك الزمن، أو أغلبهم، من أبناء الفقراء من الفلاحين، والعاملين فيها. كان يعيش، وأهله وعشيرته، في أمن وسكينة، منسجما مع متاحه الحضاري في السلوك والتفكير، علمانيا كان وكانوا بالفطرة (ص28)، يرون الواقع كما هو «غيـر مزيد ولا معدل»، ربما «ذنبه» وذنب جيله من الطلاب الوحيد، أنهم كانوا يحلمون بثورة تقضي على الفقر والمهانة والظلم والغبن والحكرة (ص52)، وتبشر ببصيص من الحرية والديمقراطية، على قاعدة معادلة: «كلما اتسعت دائرة الممارسات الديمقراطية ببلد ما انعكس ذلك على طرق تدبير الجامعات» (بوطالب، مستقبل الجامعة، ص161)…لكن بكثيـر من الطوباوية والديكتاتورية، وفائض من التطرف والتشدد، والاطمئنان الثوري (ص66)…تلك تجربة مفارقة عاشها بنكراد ومجموعة من طلبة اليسار من كل جهات المغرب، وإن أقرّ، بكثير من الشجاعة والتجرد، بأن «موقفنا هذا لم يكن سليما» (ص71)، لأنه ورفاقه أسقطوا في حساباتهم، كما يقول، «كل ما يشكل متخيل الأمة ومحكياتها. كان الدين في تصورنا «أفيونا للشعوب»، أي أمرا طارئا في حياة الناس، وأن السلطة تستعمله من أجل تبرير القهر والتفاوتات الطبقية، وسينتهي بانتهاء الشروط التي أنتجته…» (ص76).
كانت الجامعة المغربية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، كما عاشها سعيد في فاس وامتدادها، وإن بدرجات متفاوتة، مسكونة بالأيديولوجية (يسارية مهيمنة، ويمينية صاعدة مشاكسة) وفي الوقت نفسه، كان محيطها الاجتماعي متصالحا مع نفسه، ومتسامحا في ما بين أبنائه وبناته. لا توجد حركات أصولية تمنع الكتب، وتقمع الفرح، وتفرض تدينا معينا على الناس وقد توارثوا الإيمان كما يتوارثون انتماءهم إلى الأهل واللغة والثقافة (ص72). كان المغرب وقتها منفتحا ومتفهما ومتعايشا، رغم أنه كان يعيش ما كان يعرف بسنوات الجمر والرصاص. مفارقات، وحيرة وظنون. ماذا يمُوج في الجامعة المغربية ويعتمل فيها؟
غيـر أن جامعة اليوم، كما نعيشها اليوم… غيـر جامعة الأمس كما عاشها بنكراد، وهو طالب. فقد ضعف مد اليسار وتراجع، وصعد الإسلام السياسي وانتشر ثم تراخى وتفكك، وتقلصت مساحة النضال الماركسي وتراجع، وخبا النزوع القومي وبهت. كما خف «وهج» القضية الفلسطينية وتوارى ألقها، وغرق طلبة اليوم في عوالم غيـر العوالم، واهتموا بأسئلة غيـر الأسئلة، خاصة مع الثورة الرقمية، والشبكة الافتراضية. هكذا تراجع النّفس النضالي والثوري والقومي، وعاد التطبيع. لم يعد طالب اليوم يخاف الاعتقال لانتمائه إلى اتحاد طلبة المغرب، أو يهاب العسف والتعذيب إن هو انتمى إلى تنظيم يساري، ولا رفاق عنده أصلا يساندهم أو يخاف عليهم. فهو غارق في عوالم الفضاء الأزرق يبحث عن بطولات وهمية، وتحقيق رغبات عابرة، بنقرات يسيرة وسهلة. حيـرة قائمة، وظنون ممتدة…
مذ كان سعيد بنكراد تلميذا فطالبا ظل مهووسا بالسياسة والأيديولوجيا، مسكونا بالواقعية الاشتراكية، بها يزن السلوك والرؤى والمواقف والنصوص ويقومها، ويحكم على النوايا ويحاكمها، بل وظل «مسكونا» بالقضية الفلسطينية، زمن إحراق السفن، وبناء المدينة الفاضلة، حيث الحرية والانعتاق والعيش الكريم والكرامة الإنسانية، لكن بالانتساب إلى جامعة السربون سيولد من جديد مع إبدال حضاري وثقافي جديد، وسيدرك حجم الخسارة التـي منـي بها هو شخصيا، بما هو ذات ورمز لجيل، وما منيت به عموما الجامعة المغربية لما كان طالبا وأستاذا. رحم الله الجامعة المغربية» (ص110)، ورحم الله تجربة طلابية هيمنت عليها السياسة والأيديولوجية والقومية والماركسية، وحلم تغيير نظام الحكم، ورحم الله عبثية التكوين، ورحم الله الحروب الصغيرة والكبيرة بين الأساتذة أنفسهم… إنها دعوة إلى النسيان، ومسح الطاولة، ودفن للماضي…وفي الوقت ذاته فتح صفحة جديدة. ذلك ما سيحصل بالتحاق سعيد بنكراد بجامعة السربون بفرنسا التي صارت بالنسبة إليه نموذجا للمقارنة والاحتذاء ورصد المفارقات الفاقعة؛ ذلك ما سجله عبد الله العروي أحد طلبة السربون بباريس في سيرته الفكرية: بين الفلسفة والتاريخ، لما قال: «من الواضح إذن. أن كل طالب أجنبي أتى بهدف التكوين في جامعة غربية، لا بد وأن يزخر تحت ثقل تاريخ مزدوج، تاريخه هو، وتاريخ البلد الذي يستقبله» ( ص26). ألم تكن تلك حالة سعيد بنكراد؟


الكاتب : إدريس جـبـري

  

بتاريخ : 03/10/2022