رواية «عمر الغريب» للروائية سلمى مختار أمانة الله

الانسجام الحكائي وأبعاد الحدث السردي

 

 

عادة ما نضع أمام أعيننا ونحن نمارس فعل القراءة سؤال التموضع والتصنيف، في أي خانة يمكن أن يتموضع النص الروائي قيد القراءة، التاريخ، الواقعية السحرية، الخيال، الفانطازيا الخ، إضافة إلى سؤال الجِدّة، ماهو الجديد في أي منتج روائي خرج للوجود في أول ظهور له. ومن المعلوم أن الابتكار كما الإبداع يتأسس على تقديم الجديد، إذ هو المحفز المضموني الذي يدفعنا إلى أن نسرح ونَهيم «في امتدادات عوالمه المرئية والمحكية» عُمر الغريب، ص99. 

الرواية الجديدة «عمر الغريب» للكاتبة الروائية المبدعة سلمى مختار أمانة الله، وبعد روايتها الأولى (ولي النعمة) الصادرة سنة 2018، تقدم لنا الجديد، على اعتبار أنها قد أثارت مسألة  جديدة تتعلق بفلسفة بناء الذات وهدمها بمعزل عن الأصول. من يهدم من؟ ومن يبني أو يؤسس الآخر؟ ألذات أم الآخر؟.
إن جدارة العمل الأدبي تتحدد بإمكانياته الميتانصية التي لا تبقيك قابعا داخل إطار النص، وإنما تفتح أمامك نوافذ الكينونة، بأسئلته المستفزة وأجوبته الغامضة الأشبه بالأسئلة، استراتيجية الجواب عن السؤال بسؤال آخر أو الجواب الغامض الملغوم، بمعنى أن ثمة تحديدا مرسوما لحدود الأزمة المُناقَشَة وبالتالي تترك لنا فرصة العثور على أجوبة مختلفة. رواية «عمر الغريب» ليست رواية منغلقة بهذا المعنى داخل قيود وحدود التنصيص، وهي تضعنا في مواجهة ظاهرة الأطفال المتخلى عنهم وتداعياتها المستقبلية، سواء على الشخصية الفردية أو الجماعية، مواجهة تمكننا من تحديد شواغل النص التي تقدمها الرواية. فثمة شواغل إنسانية تشكل سلطة السرد والخطاب، وعلى أساسها تتطور أحداث نَصٍّ بدا فيه السرد «منسجما مع رسالته الإنسانية» ص71.
إن التفاصيل، مدارات الحكي، الانعطافات العلائقية للشخوص، وهيمنة التهيؤات البوحية، توقفنا عند جملة من الامتدادات التي تمثل تلك الشواغل، أو تلك الرؤية السردية المحمولة عبر أحداث وذوات مرتبطة بشخصية السارد ورحلته من طفولة مجهولة الهوية  إلى زمن الموت المُربك لشخصية الدكتور عمر. أسئلة تتوالد عبر خريطة الرواية تنهض لتعكس الأساس الذي ينطوي عليه الوجود والتحولات التي قادتنا إلى ذلك المصير المأساوي. بمعنى أن الرواية تضعنا أمام سؤال المصير. إن السارد حين يطرح سؤال الكيفية النفسية لحالة (أم محمد) مع الولادة « كيف بعد كل هذا الوجع والألم يمكن للأم أن ترمي ثمرتها بالقمامة كأنها فاكهة فاسدة» ص 75، يحسم تلقائيا في مأساوية الوجود القسري المتمثلة هنا في «ولادة غير مكتملة» ص34 للطفولة أو ما بات يعرف بالأطفال المتخلى عنهم.
عبر هذه القراءة سنلتقط باختصار شيئا من الاعتمادات البنيوية والدلالية التي اشتغلت عليها الروائية سلمى مختار أمانة الله لبناء الهندام الفني والمضموني للرواية.

عَنْصَرَةُ المشاهد الثانوية في تركيبة الحدث المركزي:

تَتَبدَّى احترافية الروائية سلمى مختار أمانة الله في عنصرة التفاصيل الجزئية داخل بنية النص، نقصد بمفهوم العَنصرة إضفاء قوة أسلوبية توليدية على مشهد ثانوي عابر تحوله إلى عنصر أساسي يؤطر المشهد العام للحدث ككل.
لعل تقنية الدمج والإقحام الفني تلك تستطيع أن تُعَنصر أحداثا بسيطة وثانوية داخل نسيج الرواية، الشيء الذي يضفي عليها طابع المقبولية من قبل المتلقي، ومن دونها يبدو المشهد الثانوي تافها وعنصرا دخيلا، بهذه التقنية مكنتنا الكاتبة أن نتقبل – مثلا لا حصرا- حضور حدث الرقية في مشهد امرأة في حالة صدمة، تحتاج للرعاية الطبية أكثر من تَنْفِيثَاث دَجلِ الراقي، وبالتبعية المضمونية سنتساءل بدلَ الرواية ونطرح سؤالا لم تطرحه الرواية هنا هو: لماذا نلجأ للبدائل الرديئة حين تعجزنا الحلول المُجدية أو لا نستطيعها. فثمة إقحام بطريقة فنية جعلنا نتقبل، جعلنا لا ننتبه لخط التلحيم الحاصل بين الحدث المركزي والحدث الهامشي. الحق يقال إن الروائية كانت بارعة إلى الغاية في استخدام تينك التقنية.
دعونا نسمي هذه التقنية بالاختفاء الانسجامي نظرا لتمام الانسجام بين المشهد الكلي والجزئي، مُنْتِجَةً بذلك تناسلا حكائيا تحت يافطة الأحداث الكبرى للرواية.
إن معاينة ما يمكن تسميته بالانبثاق التوليدي للمحكي تكشف هي الأخرى عن إشكالية التطرف الديني في القرية كحدث جزئي في خضم الحدث الأساسي، ولو أنها لم تتطرق بعمق لأسبابها الذاتية والموضوعية المرتبطة بهشاشة الكائن في بيئة فقيرة منغلقة ثقافيا، الحوار الذي دار بين السارد والسي علي يعزز نظرية التدين المعتدل القائم على السلم والسلام «- أنت شنو فهمت من الدين؟ (سي علي).
– الدين هو تدخل سوق راسك ، تخدم على والديك ووليداتك، ماتآذي أحد لا بالفعل ولا بالقول. (السارد).»115.
لنستنتج أن أزمتنا أزمة عقل لا أزمة دين «عقول مبرمجة بخطاب التحريم والتجريم والتعنيف والبطش «115.
وكنوع من الانشطار الحكائي داخل السرد، تومض لنا الرواية بعض الومضات عن الرغبة الجنسية باعتبارها قوة مُكبِّلة للجسد والفكر في حالة الكبت،»الرغبة المحمومة الجاثمة على صدري، المطبقة على كل تفكيري»164.
هكذا تنتظم بعض التجليات القصصية كنوع من الدعم الإسنادي لمسار السرد الرئيسي عندما تتطرق الرواية  إشاريا لمسألة الإشاعة، أو حين يتناسل الخبر ليكبر حتى يصير له رأس وأجنحة ويبتعد كل البعد عن محتواه الأصلي. قد لا يكون النسيان وقلة ضبط الذاكرة دافعا إلى تطويره وإنما قد يكون الدافع له علاقة بتشويه شخصيةٍ مَّا والتي تتحدد في شخصية الفقيه الطهرانية، تقول شخصية الفقيه مبررة احتضان الطفل عمر الغريب من التشرد «تخلي فقيه جامع عن طفل صغير بئيس يبكي وحيدا على عتبة بيت الله فيه مس بهيبته، لسان الحارس الطويل سيحكي الحكاية لكل من سيلتقي به، سيصنع لها رأسا ورجلين ويدين وأحشاء كثيرة، ولم لا عضوا طويلا فض بكارة بنت بريئة صغيرة فحملت منه واختفت بفضيحتها في إحدى القرى البعيدة  حتى كبرت الفضيحة، حتى كبرت وعادت به إلى والده الفقيه» ص28.
تفترض الرواية تفاعلا بين السارد والمتلقي، التفاعل الفعال أو التفاعل الانفعالي، بحسب الدكتور سعيد يقطين، نجد السارد يقول مثلا ؛ «تصوروا معي، حفل زفاف كبير لا يحضره أحد من المدعوين»93. هنا الرواية تدفعنا للانفعال والتأثر والشعور بحالة السارد النفسية حين لم يحضر أحد من أقاربه حفل نجاحه على رأس القائمة.
هذه العلاقة التفاعلية بين النص والمتلقي تحتم علينا أن نتدخل، بمعنى أن نتأثر لا أن نبقى على الحياد، ثمة أشياء تدعونا للتدخل في النص. تدفعنا إلى ذروة التأثر والانفعال والانخراط في الرغبة في الانتقام كما تعيشها الذات الساردة.
إن التناسب المضموني باعتباره مؤشرا قويا على تماسك النص، نستطيع أن نستشفه بين الأحداث المتغايرة ليس على أساس المناقضة وإنما على ما يمكن أن نصفه  بنص داخل نص أو قصة في قص، أو متن على متن عندما تقارب الرواية جزئية  الأمومة المفقودة،  وكيف تسعى أُمّ عاقر لإنجاب ولد بكل الوسائل حين تحرم هذه العاطفة، من خلال مشهد المرأة العاقر التي اتُّهمت بوضع الغراب المسحور لرضيعٍ خلال حفل عقيقته، امرأة «تسعى لأمومة حرمت وحدها منها» ص85. والعلاقة المباشرة بين هذا الحدث وبين حدث تجلي طقس الرُّقية كمعالجة خرافية لتخليص المصاب بهيستيريا «من عين الحسد ومس الجن وكل أعمال السحر الشيطانية»88، وهي بذلك تحدد موقفها من الخرافة كمصدر من مصادر التخلف في غياب الثقافة والمعرفة العلمية.
نخلص إلى أن ما أسميناه عَنْصَرَة المشاهد الثانوية في تركيبة الحدث المركزي  سمح للكاتبة بإنتاج نص منسجم بين أحداثه من البداية إلى النهاية دون حاجتها إلى تفصيل الرواية إلى فصول وعناوين، وهو ما يفسر غياب تلك الفصول نهائيا منها فتبدو الرواية كفضاء زمكاني متصل يصعب اختراقه. إنها انتقال من مشهد إلى آخر بنقطة ورجوع للسطر. يقف المتلقي على مشهد متصل سريع لعالم تتناسل مشاهده بشكل متداعٍ كأحجار الدومينو كما يصوره لنا السارد ،جثة الدكتور عمر، وبتعبير آخر نحن أمام تسلسل سردي لا يترك لنا الفرصة لنعرف كيف، بل لنخلق تمفصلات أخرى لا متناهية وهذا هو الجديد الجميل في الرواية.
هذه السمة بقدر ما تدل على التماسك البنيوي، فإنها  ترجمة حقيقية لمجموعة من السمات الفنية والجمالية والأسلوبية المعتمدة في النص كمنطق سردي منضبط بالمخيلة بمقابل  منطق التأويل المشروط هو الآخر بأهواء المتلقي وميولاته وتساؤلاته. فإذا كانت مخيلة الكاتب قد أنتجت النص، فإن مخيلة القارئ قادرة على  الذهاب بعيدا إلى أقصى زاويا الممكنات الدلالية، بمعنى آخر، مخيلة الروائي تنتهي عند حدود المشهد، وهذا المنتهى هو بداية التفكير  التفكيكي لدى المتلقي، إنه منطق السرد في مقابل منطق التأويل. بهذا المعنى تكون قراءاتنا «قراءة مولِّدة» بتعبير محمد بنيس.

الرواية وتقنية التسريب وسط الصخب:

بين أتون السرد وصخب الأحداث يتم تمرير مجموعة من الحقائق كتضمين ثقافي مُتَعَمَّد، على اعتبار أن  المشهد وحدة مضمونية لا تخلو من التقاطات واستنتاجات تابعة. فعندما يضعنا السارد أمام مشهد مجريات التحقيق في مقتله، يرن الهاتف أثناء التحقيق، يبتعد السارد – بإيعاز فني فائق الدقة من الكاتبة- عن مسرح الجريمة، ليكشف لنا عن تعالقات  تجسد سلطة القوة في معادلة السرد بحيث يوجه الكاميرا بدقة الى الهاتف، كأنه خروج عن النص، ليطلعنا على وضعنا الجديد المتمثل في «شريحة هاتف أصبحنا نختزل بداخله كل الحياة»139. وليأخذنا بإسهاب نحو استنتاجات السارد/المؤلف الضمني/ المؤلفة، نحو تحليلاته، خلاصاته، اعتقاداته الشخصية، ملاحظاته التي تعبر عن انتقادات لظواهر أو انتهاكات. فلقاء السارد بإحدى الشخصيات «من أصحاب تلك الأسماء المزلزلة»188 ووصفه لنا بريستيج اللقاء بشكل مسهب يمنحنا فرصة استنتاج فكرة  أن «الآخر لا يرى منك إلا ما تريد أنت تراه» 202.  «أُشكِّل الفكرة من نظرتي الخاصة» 208.
وجود هذا التركيز والتدقيق الشديد على التفاصيل يعتبر ضرورة من مكملات السرد، كما الحال بالنسبة للصورة باعتبارها مكملا للنص، بحسب رولان بارث.

(رصاصة) النهاية

ان التَّنَاسُب الحكائي بين الأحداث الجزئية والحدث المركزي، إضافة إلى مفاجآت اللامتوقع الحكائي داخل النص، هو ما يُعزز  أثر الجودة السردية ويُبقيه عالقا في أذهاننا، إنه يساعدنا، كذلك، على نحت مفهومات نقدية تفكيكية مرتبطة.
لن نتفاجأ في نهاية الرواية بمأساوية المصير فحسب، والذي تَعَرَّفنا عليه منذ البداية متجسدا في مقتل البطل على يد المرأة التي أنقذ سمعتها الشَّرفية من إهانات المجتمع بسبب حمل غير مرغوب فيه، بقدر ما ستُبهرنا كمية التفاصيل المؤثثة لتركيبة النص وهو ما أضفى عليه ثراءا دلاليا مُتَجَاوِزًا، في اعتقادنا، حدود ما استنتجناه من تآويل وتفسيرات.
لقد استطاعت الروائية سلمى مختار أمانة الله تدعيم ملامح الرجل الغريب بما يعكس اغترابه، أن تعبئ حركة انتقال السارد من الطفولة إلى المَقتل دون أن تكشف عن ملامح الجريمة، لأنها ببساطة لا تقدم تحقيقا بوليسيا أو قضائيا، والحال أن تلك التفاصيل الدقيقة التي تختفي بشكل منسجم في عمق الحدث/المَقتل قد استخدمتها الكاتبة كمؤشر على فشل علاقات الإنسان في حالة اغتراب، إذ لم يعد ثمة من حل سوى مغادرة العالم.


الكاتب : محمد غزلي

  

بتاريخ : 25/03/2022