شادي عبد السلام: مابين التأصيل والحداثة في الفكر السينمائي العربي

1 -مقدمة
ظل الحديث عن السينما العربية و لمدة تاريخية طويلة، مرتبطا بالحديث عن السينما المصرية باعتبارها شكلت السينما العربية بامتياز، لدرجة اتهامها في فترة معينة بوقوفها حاجزا أمام سينمات عربية أخرى، وذلك قبل أن تبرز سينمات عربية شابة بأسلوب جديد ووعي فني جديد، لكن هذه التجارب المختلفة ظلت أسيرة الشروط الإنتاجية المجحفة، لكن أيضا أسيرة التجريب القريب من الحرفية بدل الاحترافية، وهو تجريب وفي بعض الأحيان استنساخ لتجارب غربية، مما صعب من التحقق في توليفاتها لتنصيفها داخل اتجاه أو تيار معين وفق المعايير المتعارف عليها نقديا، وهو ما جعل أيضا عمرها الافتراضي محدد بزمن إنتاجها، مما يجعلها تنتمي لتاريخ صاحبها أكثر من انتمائها لتاريخ السينما التي تنتمي إليها، بالأحرى خلخلة قواميس تاريخ السينما العالمية بالاصطفاف ضمن إحدى علاماتها الراسخة.

وحدها السينما المصرية، والتي تميزت بنوع من النبوغ في تنوع تجاربها واتجاهاتها، استطاعت أن تحقق التحاما بالعين العربية في صيغة الجمع من خلال تجاوز قطريتها للحديث عن مشكلة الإنسان العربي، ومن خلال بعض الأسماء التي نقلت الصورة العربية للكونية، نخص بالذكربعض أفلام «يوسف شاهين « على الأخص، سواء تلك الأفلام التي فجرت معاناة الذات مع الأنا والآخر ولو بنوع من النرجسية كما في أشرطة «اسكندرية ليه» أو «اسكندرية كمان وكمان « …..أو بأفلام العودة للماضي للنبش في التاريخ كمدخل لقراءة الحاضر كما في أشرطة «المهاجر» أو «المصير»..
وإذا كان «يوسف شاهين» يدين بشموخه النسبي عربيا لوفرة أنتاجاته (حوالي 32 فيلما)، كما لجرأته وما رافق ذلك من جدل حول أفلامه و الدعاوي القضائية ضد يعض منها، فإن هذا الإبن المدلل لمهرجان كان، لم يستطيع قلب نظام التخمين إزاء التصنيف ضمن التحف الكونية الخالدة كما فعل مخرج مصري آخر وبفيلم طويل واحد فقط «المومياء» جعله يدخل قواميس السينما باعتباره من الأفلام التي غيرت من معمار السرد السينمائي وطورته بعيدا عن النسخ او التماثل مع تجارب أخرى.
لقد حمل هذا الشريط الذي رسم ملامح جديدة في تاريخ السينما العربية مخرجه «شادي عبد السلام» لمنزلة الصفوة النادرة من المخرجين العالميين من خلال (رؤيته الفريدة للثقافة المصرية القديمة، وكذلك للترات الإسلامي)، كما اتفقت على ذلك العديد من الكتابات.
لقد كان شادي عبد السلام يرى أن السينما مشروع متكامل الهوية الثقافية و الحضارية، مما جعل بالفعل من شريط «المومياء» صدمة حضارية وفنية (يتمتع بأصالة التفكير و حداثة السؤال)، وحده المخرج التونسي «ناصر لخمير» سيستلهم روح هذا المنهج من خلال شريطيه «طوق الحمامة المفقود» و الهائمون»، حيث النبش في التاريخ المفقود في ارتباطه بالمفهوم الإنساني، وليس كمجرد قراءة ثانية لحدث تاريخي، وهو ما انتبه له «بنيونس عميروش» قائلا ( من عبق المسار الأركيولوجي تنبعث روح شادي عبد السلام).

2 – مسار البحث عن المغايرة
لم يكن الاسكندراني شادي عبد السلام المزداد سنة 1930 ليقاوم غواية الفن، وهو ما دفعه للالتحاق بمعهد الفنون الجميلة قسم العمارة وهو الذي كان يفكر في دراسة المسرح أو السينما مبررا هذا الاختيار بالقول «كان الأهل يحتقرون السينما ويرفضون التحاقي بها، كانوا يريدون شهادة ، لكني لما دخلت قسم العمارة، دخلت لأنني أحب العمارة أيضا، و في رأيي أن فن العمارة أساس كل الفنون ، و من المعروف أن إيزنشتاين و هو أكبر منظري السينما في العالم بدأ مهندسا معماريا».
لقد شكل هذا الوعي النوعي في علاقة الفنون بالعمارة جرعة إضافية في عشقه للسينما التي سيدخل محرابها صغيرا عبر بوابة أب الواقعية المصرية «صلاح أبو سيف» من خلال أفلام «الفتوة»و»الوسادة الخالية» و»الطريق المسدود»، ليتحول إسمه إلى علامة بارزة في العديد من الأعمال المصرية والدولية التي اشتغل بها إما كمساعد مخرج، نذكر على سبيل المثل شريط « كيلوباترا» سنة 1963 مع المخرج «جوزيف منيكيفتش»، أو كمصمم ديكور للعديد من الأفلام من قبيل «صلاح الدين الأيوبي» وشريط «وا إسلاماه». لكن يبدو أن المنعرج الذي سيؤجج رغبته للانتقال إلى عالم الإخراج هو ذلك التأثير الفني والفكري الذي تركه التعامل مع المخرج الإيطالي « روسيليني»، خصوصا في شريط «صراع من أجل الحياة». هذه التجربة التي تركت في نفسه كما اعترف بذلك «تأثيرا من الناحية الفكرية و ليس الإنتاجية الشكلية، وذلك لما يمتاز به «روسيليني» من بساطة التفكير السينمائي مع العمق في نفس الآن».
ومن خلال هذا الانبهار بواقعية «روسيللني» في بعديها الفكري و الفني مع إلباسها وعيه الهندسي المعماري ليس كأشكال ومجسمات، بل كاسترجاع ثقافي، سيحقق «شادي عبد السلام سنة 1969»شريطه الطويل الأول أو تحفته البصرية الأولى « المومياء»،ليتبعه بالفيلمين القصيرين « الفلاح الفصيح» و «جيوش الشمس» وبعض الأفلام التسجيلية الوثائقية،لقد أسست هذه الأعمال لمدرسة سينمائية عربية أعمدتها عشق التاريخ فكريا، والاهتمام بمفردات اللغة السينمائية فنيا و ربما لدرجة الهوس في تقديم سينما خالصة حيث لا مجال للصدفة، لكن أيضا الاعتناء بالتفاصيل من خلال ترقيم اللقطات،وتصوير أماكن التصوير فوتوغرافيا، والاهتمام باللقطات التي كان يرسمها أو يرسم خطوطها العريضة على الورق قبل تصويرها، لقد كان «شادي عبد السلام» يكره اعتبار المخرج مجرد حرفي فقط قائلا (لابد أن يكون للمخرج وجهة نظر، ورأي يلتزم به، حرفة المخرج تماثل المعرفة باستخدام القلم)،
لقد كان العمل عند «شادي عبد السلام» هو الحياة من خلال القراءة و الكتابة و الرسم، ومن خلال هاجس العودة للنبش في التاريخ واستحضاره، لأنه كان شديد الارتباط بالذاكرة بفلسفة جديدة في استحضارها بصريا ، منتقدا الأفلام التي تتحدث عن التاريخ بنوع من الترهل في الاسترجاع قائلا (إنهم يصورون أفلاما عن التاريخ بمفهوم منقرض،كيف يمكن لهم أن يعيدوا التاريخ ؟ هل بالملابس و الماكياج و المعارك، إنه اجترار لما يتخيلون تاريخا، التاريخ هو ان تنظر إلى الموضوع بمفهوم عصرك الذي تعيش فيه)، وحتى يعطي الدليل و البديل لما يجب على السينما أن تنهجه في علاقتها بالتاريخ, جاء شريطيه « المومياء» و «الفلاح الفصيح» كعلامتين بارزتين في مشواره الفني.
3 – «المومياء»: التأريخ بمنطق أركيولوجي

تعتبر حياة شادي عبد السلام السينمائية رحلة في دروب الألم و المعاناة، بداية من سنة 1966 حيث ما كان ليحقق فيلمه «المومياء» لولا تدخل «روسيليني» الذي أعجب بكتابته ونصح بدعمه، إلى خنق طموحه في إخراج فيلم «إخناتون» الذي كان ينوي إخراجه في 19 مشهدا حول فترة من فترات قبل الميلاد إبان حكم « أمينوقيس» قبل أن تداهمه الموت سنة 1986، وهو المشروع الجنوني على حد تعبير الناقد «خميس الخياطي» الذي كان استمرارا لثورة سينمائية عربية تنتفض على السائد و المألوف الذي برمج المشاهد العربي ضمن قوالب جاهزة للمشاهدة، وهو ما يفسر لامبالاة الجمهور و تحامل النقد، قبل أن تعاد له قيمته بأقلام نقاد عالميين من مثل «غي هينيبل».
يندرج فيلم المومياء في إطار اهتمام « شادي عبد السلام» بالتاريخ، لكن من زاوية تحديد العلاقة بين الإنسان و تاريخه ، وهو عن قصة « ونيس» الذي يتمرد على قبيلته التي تعيش على بيع آثار الأجداد، إنه شريط تجربة الوعي و اليقظة التي يجتازها المواطن البسيط عندما يبدأ في إدراك قيمة تراث وطنه الذي عاش منذ شبابه يراه سلعة يتاجر بها قومه في غيبة من القانون و الضمير، ويقرر مواجهتهم مغامرا بحياته لكي تعود المومياءات إلى حيث ينبغي أن تكون، أن فيلم المومياء ( لايطرح مجرد فكرة إدراك التراث، بل إنه يطرح فكرا يمتد إلى معاني الوعي و اليقظة و التأصيل ) كما جاء في مجلة القاهرة العدد المزدوج 169-170، في نفس السياق إعتبر الناقد «كمال رمزي» شريط المومياء «فريد في بابه، إنه أقرب إلى قصيدة الشعر،أوقطعة موسيقى، يوحي أكثر مما يصرح،ويحتمل بلا تعسف أكثر من تفسير وأكثر من معنى… إن رؤية الفيلم المتعددة المستويات تجري في شرايين الفيلم كله ، في إيقاعه المتأمل المتمهل، في الشجن الغريب المهيمن على مجمل الأبطال، في الألوان التي يمتزج فيها الرجاء بالحزن».
لقد اعتبر العديد من النقاد و الباحثين بأن اكتساب شريط « المومياء « للعالمية لم يكن فقط نتيجة القضية التي عالجها،أو الفكرة التي طرحها، بل نطلاقا من الصيغة البنائية و الشكلية التي ثم التعبير بها عن الموضوع، خصوصا من حيث التعالم مع فنون العمارة الفرعونية، و التعامل مع الألوان و الضلال، و بذلك يكون «شادي عبد السلام» قد قدم معالجة فنية راقية، ولغة سينمائية جديدة نحتها على شكل روائع السينما العالمية لكن بأدوات مصرية، وهو ما اعترف به المخرج أيضا بقوله ( المومياء ليست أكثر من 24 ساعة تمثل لحظة وعي أو ضمير،إنني حاولت في الواقع أن أعبر عن قضية عامة جدا، لكنها تأخذ القالب المصري، البيئة و الحياة و التاريخ الذي أحس به أكثر من غيره).
4 – الفلاح الفصيح : تأمل في التراث الفرعوني

اعتمد شادي عبد السلام في شريطه « الفلاح الفصيح» الذي أخرجه سنة 1979 على تشكيل خطاب بنيته الحكائية مأخوذة من نص فرعوني قديم من التراث الأدبي المصري – البردية- ، وهي أسطورة تاريخية عن وضع العدالة ، وعن الفلاح الذي يستصرخ السلطة لتسترد له حقه،
عن السر في اختياره لهذه الأسطورة يقول «شادي عبد السلام: «ما حركني هو قيمة البردية نفسها، بردية عمرها آلاف السنين، ومكتوبة بمنطق يمكن القول بأنه منطق أدبي حديث، نص أدبي رائع وواضح…..».
لقد أكد هذا الفيلم أيضا على براعة التحكم في أدوات السرد ،وبناء فيلمي أخاذ، أثار العديد من الأقلام النقدية التي حاولت فهم عوالمه، منها الدراسة الهامة ، والتحليل العميق و الشامل التى خصها الناقد « فاضل الأسود له قراءة و تحليلا في كتابه المعنون (فضاءات الحكي- تشكيلات المكان مراوغات الزمن) وهي الدراسة المتضمنة ما بين الصفحتين 333 و362.

 


الكاتب : عبد الجليل لبويري

  

بتاريخ : 13/11/2021