عباس بن فرناس يحط بحاضرة فاس ( 3 / 4 )

كانت غرف الحي لاتنام، تغلي بالنشيد والهرج والمرج والشعارات والكلام. كانت أوكاراً أو بمثابة ذلك، لِـ ( ثورة دائمة ) بالمعنى التروتسكي ـ وكانت ثورةً في فنجان أو دِنان، للأسف، أيها الإخوان ـ. خلايا نحل لا يهدأ أزيزه، ولا يفتر طنينه وبخاصة أثناء الليل بعد تناول وجبة العشاء الجماعي بمطعم الحي الجامعي او اللّيدو. ففيها عرفنا السياسة والإيديولوجية، والتاكتيكات والاستراتيجيات التي ما مرت ببال لينين ولا ببال ماوتسي تونغ . كانت المنازعات والصراعات ( صراعات الديكة )، والتحديات، والأغاني، وفلسطين، ومرويات الحب، وقراءة الأشعار الثورية، والإنصات إلى الأغاني السياسية الهادفة الملتزمة مثل أغاني الشيخ إمام، ومارسيل خليفة، وأحمد قعبور، وسعيد المغربي، خبزَنا ليل ـ نهار، خبزنا الساخن لا الحافي، المدهون بعسل الأماني والأحلام. وعرفنا فيها، أيضا، برامج وفلسفة الأحزاب قاطبة، ومشاريع وأفكار أطياف اليسار، تلك الأفكار التي وُسِمَتْ بمرض الطفولة اليساري، والتي وَسَمَتْ بدورها كل الأحزاب الوطنية « المشروعة « بالرجعية والتقليدية، والتحريفية الجديدة، والتواطؤ مع النظام، ووكلائه و» أزلامه «. مما جعلنا نرمي بعضنا بعضا بالتفاهة، والضحالة والخواء، والاصطفاف إلى جانب المتخاذلين الخائفين، بل الوشاة المتعاملين مع البوليس السري، والمخبرين.
وفي الغرف إياها، دارت الكؤوس التي أشعلت النفوس، ودوخت الرؤوس فارتفعت عقائرنا إلى عَنان السماء، تهتف وتصيح بالشعارات الثورية، والأغاني الملتزمة لإمام، وخليفة، وقعبور، وسعيد المغربي.
قلدنا تشي غيفارا المغدوربفعل راعٍ دَلَّ عليه بمخبئه في أحراش جبال بوليفيا، بإطلاق شعورنا / سوالفنا، ولحانا، واعتمار قبعات ( بيريات ) سوداء أو كاكية. ودخَّنا، ونحن نمشي تيها وعجبا بين الطالبات، الغليون أو السيجار الرخيص نُبْقيه بين شفاهنا يحترق على مهل، ونعيد إشعالة الكرة بعد الكرة. قِرَدَةً مقلدةً كنا لغيفارا ولغيره من فلاسفة الوجودية والعبثية، وفوضويي المرحلة. كنا نحفظ أغاني جاك بريلْ، وليو فيري على وجه التحديد، وإيفْ مونتان، وإيديثْ بيافْ، وجونْ بايْزْ الهائلة، فضلا عن أغاني فيروز ملكة الإحساس الرفيع العلوي، والروح الصافية المشرقة.
أذكر أن أنور المرتجي، وكان يملك صوتا جهوريا وقويا، كان يزلزل الحي جميعه لأننا كنا ننتقل بين الغرف كما تنتقل الفراشات بين الأزهار، وهو يردد بإحساس يمس الشغاف رائعة فيروز الهادفة الحالمة: ( سيفٌ فليشهر الآن الآنَ وليس غداً، أجراس العودة فلتقرع…. أنا لا أنساك فلسطينُ، أنا في أطيافك نسرينُ .. الخ ). وعندما يروق مزاجه، وينصت إلى وجيب قلبه وخفقان وجدانه، يردد بحزن وأسى بديع نجاة الصغيرة: ( شكلي تاني حبك إنتَ.. شكلي تاني شكي تاني، حب نار مذوبني….)، وبدائع فيروز: ( طلعت ياما احلى نورها شمس الشموسي )، و ( عمْ بضوي الشمس على الأرض المزروعة، الخ الخ).
ولم يكن الغناء الشجي ليؤثر في صلابة وصرامة صديقنا عبد الهادي. فكان أشبه ما يكون بالعظيم المتنبي الذي سيختاره موضوعا لنيل الإجازة. فهل كان الأمر صدفة؟ إذا عرفنا أن المتنبي هو الفائل:
أصخرةٌ أنا ما لي لا تحركني /// هذي المدامُ وهذي الأغاريدُ
ألأنه كان مهجوسا بضرورة نشر أدبيات وفلسفة ( الاتحاد الاشتراكي )، مهموما بإيصال رأيه وموقفه من قضايا الوطن والمواطنين، إلى أوسع شريحة طلابية، ودائرة شبابية، علما أنه كان واحدا من الذين لا تفوتهم زفة غرف الطلبة الغنائية ، والمشاركة فيها؟. وكنت أعجب كيف أمكن لهذا السطاتي النبيل أن يجمع بين الميدان النضالي الذي يتطلب حضورا يوميا، ومشادات لا تفتر مع الخصوم الإيديولوجيين، وبين عكوفه على كتابة بحثه لنيل شهادة الإجازة والذي دار ـ في ما أذكر ـ حول معشوقه الكبير المعتد بشعره، ومنزلته الفذة فيه، أبو الطيب المتنبي، كما أشرت للتو.
وسيأتي حينٌ يكون فيه التقرير الإيديولوجي للحزب، مناطَ قراءة واستقراء، ومحطَّ متابعة واستقصاء، وموضوع تحليل وتأويل داخل جل غرف الحي. وكان من العمق والشمول بحيث اعْتُبِر ـ أيامئذ ـ إنجيلَ المناضلين والمناضلات قيادةً وقاعدةً، شبيبة ونساء، إذ جمع ببراعة وإحكام بين الأبعاد التي تشكل أرضية ومنطلق وأفق كل حزب يحترم نفسه، وينسجم مع تسميته أيما انسجام. أما تلك المقومات والأبعاد فكانت سياسية وإيديولوجية ومعرفية، وتراثية مشرقة، وادبية ومنهجية. وقد نهضت زمرة من مناضلي الحزب، المقتنعين بخطه وبرنامجه واستراتجيته، بشرحه الضافي وتحليله الوافي، ومقايسة جملة وافرة من أفكاره وانظاره بالمراجع والمصادر المعتمدة لدى الأحزاب الاشتراكية الغربية، ولدى الماركسيين عموما إِنْ في توجههم الغرامشي، أو منحاهم الألْتسيري، أو وِجْهتهم الماركسية رأسا، واللينينية، والماوية، بما هي أصل ومرجع وجذع متجذر ومركوز.
ولا زلت أستحضر جلسات وحلقات النقاش التي دارت حول التقرير إياه وغيره من تقاريرَ أُخْرى كالتقرير السياسي ، والتقرير التنظيمي، والتي كانت تستمر حتى الهزيع الأخير من الليل، بل وإلى طلوع النهار في أحايين كثيرة، وارتماء أشعة الشمس الأولى على الأسرة والبُسُط، كسلى مخمورة تتمطى رويدا.. رويدا لتغمر الغرفة / الزنزانة كلها. ولهذه الغاية، شمرنا عن سواعدنا، ورحنا نحاور ونحاول إقناع من لم يقتنع، واستمالة واستقطاب الجموع إلى الحزب العتيد الذي كان بالقوة والفعل حزب القوات الشعبية. هكذا، كان عبد الهادي، بدأبه المعهود، يطير من غرفة إلى غرفة. وكذلك كان أنور، وبوشتاوي، وعبد الكريم الأمراني، فيما تكفلت رشيدة بنمسعود بالطالبات، وغندور الذي كان أستاذا للفلسفة بإحدى ثانويات فاس، والذي كان كثير التردد على الحي الجامعي: محللا، ومفسرا ومؤطرا. ( وهل لي أن أذكر أنه استضافني أنا وبوشتاوي حيث قمنا بإلقاء درس فلسفي بالتناوب على تلامذة الباكالوريا بثانوية مولاي رشيد، كان له الوقع الحسن بشهادة الأستاذ غندور، وشهادة تلاميذه؟ نعم: ونحن ـ آنذاك طالبان بالسنة أولى لغة وآداب إنجليزية ؟).
ثم كانت الطريق الرابطة بين حانة موحا والحي الجامعي، مزهرةً مغردةً مضاءةً بأصواتنا، وأناشيدنا الثورية:
ــ إذا الشعب يوما أراد الحياة /// فلابد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن يـــنـــجـــلي /// ولا بد للقيد أن ينكسر

أو : ( أناديكم وأشد على أياديكم /// وأبوس الأرض تحت أقدامكم // وأقول أفديكم )
أو: ( أنا احمد العربي // فليأتِ الحصار /// جسدي هو الأسوار، فليأت الحصار )
مَزَّقْنا سُجُفَ الليل صراخا، ومزَّعْنا أردية الظلام الكثيفة صياحا، حتى أننا لم نكن نهتم بالطقس أصحا أم أمطر؟ لأن انتشاءنا وسورة حماسنا كانا يسموان بنا إلى الذروة، إلى النيرفانا، فينشبك الزمان بالمكان وينصهران حتى لا إحساس ولا إدراك، فنغتر حينها ويخيل إلينا بأنا سُدْنا وصار الإقدام لنا ركابا، والدنيا مطية ذلولا. ونتوهم بأن المغرب هو الجامعة، والجامعة هي المغرب، اختزلنا الوطن في رقعة محدودة جدا، ومططنا الرقعة فتَصيَّرَتْ وطنا. ننام على تعاشيب الأحلام، ونفترش ثيّل الآمال، ونتوسد طنافس الأغاني والأماني، ونفيق في الغد على فيروز، ومارسيل، وقعبور، وأغاني الثورة الفلسطينية، وعلى الشعارات التي تشتعل هنا وهناك في رقع مختلفة من أرضية الكلية. ونختلف بين هذه وتلك، إلى المدرجات. نهتبل سويعاتٍ لحضور الدروس والعروض والمحاضرات، والجلوسِ، في خشوع وتقدير، إلى أساتذة كبار بارزين، بل هم الشأوُ كُلٌّ في ميدانه، وفي تخصصه. اِسفنجاً كنا نمتص ما يلقيه هؤلاء الأعلام، امتصاصا، ونَتشَرَّبُه تَشْراباً كما لو كان ما يلقونه من دروس ودُرَرٍ بمنهجية محكمة، ومعرفة مستنيرة، وعلم ثَرٍّ غزير، ترياقا وبلسما ورحيقا يُشْفي ويُغْني ويُحْيي أرواحنا، ويبعدنا ـ إلى حين ـ عن الضجيج اليومي، والغبار المثار الذي تثيره سنابك الإيديولوجيا، وحَدْوات السياسة الفولاذية.

( يتبع )


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 08/10/2021

أخبار مرتبطة

  تشكل القراءة التاريخية لتجارب بعض الأعلام المؤسسة للفعل السياسي و الدبلوماسي في المغرب المستقل، لحظة فكرية يتم من خلالها

لحظة شعرية بمسيم كوني، احتضنها فضاء بيت المعتمد بن عباد بأغمات، ضمن احتفاء دار الشعر بمراكش بمرور سبع سنوات على

يقول بورخيس: “إن الفرق بين المؤلف والقارئ هو أن الكاتب يكتب ما يستطيع كتابته، بينما يقرأ القارئ ما يشاء”. فالكتابة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *