عبد الغني عارف يسكن بين الأفق والغيمة

ولأن الشعر سيد الكلام بتوصيف رومان جاكوبسون، فهو يقيم فينا كامنا وراء اللغة وانزياحاتها اللذيذة، عابرا بنا قارات ومفازات لا حدود لها، جغرافيات عديدة مفتوحة على كل الاحتمالات نتهيأ لاحتضانها ونحن نغوص في عالم التأويل المفرح أو الغاضب، نتهيأ لولوج الممكنات في عالم اللغة الرحب والشاسع، ونُشرع النوافذ على تعددية القراءة وعلى احتمالات المعنى كما يقول بول ريكور.
نحن أمام منجز شعري اختار الشاعر عبد الغني عارف أن يسمه بعنوان باذخ يحمل استعارة كبرى،» كأني أفق تراوده غيمة»، استعارة مثقلة بكوكبة من الأدلة التي قد تزعج الباحثين عن الاحتماء بالسهل والمتداول، مزعجة بتشبيهها، وبالمشبه به الذي ينزاح عن التقليد اللغوي البسيط ليركب موجة عاتية تتزاحم فيها الصور والأيقونات .
تشبيه يسكن البداية تتشبه فيه الذات، ذات الشاعر، بأفق منزعج بفعل أنه تراوده غيمة، انزياح تام يختزل صورة شعرية عميقة تنفتح فيها الإشارات والدلالات عن طبيعة المراودة السماوية التي لا يعلم جاذبيتها إلا الشاعر. الأفق فاتن، جميل، جذاب لذلك تراوده الغيمة عن نفسه، المراودة دعوة علنية ينفتح فيها الشبق والغواية لانصهار قد يتم أو قد يجهض كما في قصة يوسف نبي الله الجميل…الأفق متمنع، متكبر فهل تشق الغيمة قميصه من قُبُل أم من دُبر أم تتركه ليوم لا ريب فيه تسقيه مطرا ومزنا، ماء وحياة. هل سيستجيب الأفق لغواية وإغراء الغيمة ويقضم من تفاحتها كما فعل جده آدم ؟أم أنه سيستعصم ويترفع وينعت غيمته بكون كيدها عظيم؟
عبد الغنني عارف واحد متعدد باهتماماته الفكرية والأدبية والتربوية والسياسية والجمعوية، يطأ عالم الشعر وهو عارف بمفارقاته وعذاباته، ولعل كتابه النقدي الذي سيصدر في الأيام القليلة المقبلة «بلاغة التوازي في الشعر العربي» دليل على ذلك، رحلة نقدية في تاريخ الشعر في علاقة مع ظاهرة التوازي .
وبالعودة إلى ديوانه الذي ضم أربع أضمومات: «شذرات الجنون»، «شظايا الوطن والحنين»، «وصايا نورس»، « ملحمة ميلاد الياسمين»، إضافة إلى تقديم ذاتي وسمه «بغيمة أولى الكتابة: بوح الألم ونداء الفرح»، تقديم استثنائي موجه ومثبط لجموح التأويل، حتى وإن كان يتحول إلى بيان للكتابة في بعض فقراته، أربع أضمومات تؤرخ لشساعة العالم الشعري المهاجر بين ضفاف الكلام .
شذرات الجنون:لا تستقيم هذه الشذرات في الفهم إلا بكونها تجليات للحظة انفلات كبرى، لا تعرف الذات مقصدا واتجاها سوى أن تحتمي بالظلال وتستكين للذكرى فاتحة بين اللغة شقوقا منها تعيد تشكيل المحتمل والآتي:
تلمست صوتي
ذات غفوة
فما وجدت سوى نظرة كسيره
أرهفت السمع لعيني
ذات هفوة
فانهمر الشوق …ذكرى مريرة
شممت دمع قلبي
ذات نسمة
فردّ النبض…فرحة حزينة
بحثت عني
ذات ليله
فما وجدتني
وفي أنشودة عبير تائه
يغني بسمة..خصلة وضفيره
رحلت بين ظلال مبعثرة
استجمعها حلما
وكنت بدل الظلال
كنت أنا ظلا لظلي….ص8
شظايا الوطن والحنين: ترحال في أزمنة موشومة بالصدأ والخيبات، وأمنيات شاردات عن هذا الذي تأخر قدومه وتعطل وصوله ورمانا في متاهة الانتظار، بين الوطن والحنين تكمن شهادة مثقلة بوجع الترحال أو ملوحة الترحال، وقصيدة «رقصة المشتهى» نشيد حالم يترقب عواصف هجرتها الرعود، نشيد يترقب صباحا غاب عنه الصبح الموعود.هي رقصة لا تحاكي إيقاعا خارجا عن سيرورة الذي عاشه الشاعر، رقصة تعانق المنفلت الهارب والغامض الكحلي الذي يسكن في عيون سوسنة، وفي ارتعاشة صبية حالمة وفي حمرة ليلة استباح ظلمتها الظلام وفي امتداد الأمسيات الحزينة…إنها سيرورة اللامتناهي الذي يعزف على أوتار المواجع الدفينة كل هذا البوح الفريد، تغريدة للمدى الموغل في صحراء العمر:
تقول نهاية القصيدة:
تبحث في الأفق عن وقتها
تقيم للبوح أعراسا من عويل و…همس
فهل يادمعي
أراقص المشتهى
أم رقصتني
رقصة المنتهى
وصايا نورس: جسور خفية موصلة بين القبلة والحب والشوق والفرح، امتدادات تقيم بين القلب والشفاه تنساب كماء الحياة، هي وصايا الحكمة التي تحاكي لعبة الحروف فتكون النقط بوصلة للقبض على جمرة المعنى.
غامر في دروب الكون بخطوك الأول
ومن ارتباك البدايات
أزل واو «الحبو»
وكن لما تبقى من اللفظ مريدا
يقيم بين الشفاه طقوس الوله
ولتيه العشاق في رموش الحبيبات
صل لهوى يجعلها قريبة
تلك الأمنيات البعيدات الجميلات
ملحمة ميلاد الياسمين: ملحمة وجدانية باذخة يعيد فيها الشعر رتق جروح غائرة، منها وإليها هذه الساكنة في أعماق وجدان الشاعر تنفجر النداءات، «ياسيدتي» نشيد وإنشاد معطر بكمياء الحب المنفلت، الحب الهارب من بين أًصابع الشاعر، ملحمة عطشى لنبيذ الياسمين، تسافر بين البوح والجرح وتنصت لنبض العاشقين ولصمت الحائرين، تجمع بين البهاء والهباء في رقصة صوفية لها الاشراق، لها انفتاح الملكوت على رحابته ، ولها التبشير باكتمال الأضداد.
أقول…أنا العارف بأحزان الورى:
فيك….منك….إليك البدء
أرتقي سلم الكرامات
أناجي هوى يقربه مني بعده عني
أُخفي قطوف شوق بالفؤاد يانعات ص79
شكرا للشعر الذي حرر شاعرنا من بؤس اللحظة، ومن العثرات الراسيات التي تحجب الأفق، شكرا للشعر وهو يمد أمامنا أفقا جميلا تراوده غيمة.


الكاتب : محمد خفيفي

  

بتاريخ : 01/04/2022