عبد اللطيف الشوفاني.. بين الظل واللوحة : قصة فنان تشكيلي ينبض بالحياة في زمن الإهمال

من قلب دكانه بالزنقة المؤدية إلى ضريح الولي الصالح مولاي بوشعيب، يرصد عبد اللطيف المارين والزائرين، المتجولين بين حوانيت الهدايا التذكارية، يتتبعهم بعيون فضولية ينبعث منها شغف الفن، محاولا طبع صورهم قي ذاكرته وقراءة خطوات بعضهم المترددة أحيانا والجريئة أحيانا أخرى، يستنبط ما يجول في خواطرهم بل قد يدخل معهم في أحاديث ودية تبث بعض الألفة بين غريبين لم يتعرفا على بعضهما البعض إلا قبل هنيهات قليلة ليفترقا وقد ضربا موعدا للقاء قريب، هكذا هو ابن أزمور،عبد اللطيف الشوفاني، الفنان التشكيلي المتميز، ينقل تجاربه مع الناس واحتكاكه بهم اليومي على لوحات تشكيلية تعكس موهبة فنية فذة، موهبة قلما تجد لها نظيرا بين الكم الهائل من التفاهة التي أصبحت تؤثث يومياتنا، حديثه عن الفن التشكيلي لا ينتهي، في لوحاته يرسم الحياة والبدايات المليئة بالأمل والتفاؤل، وبعض الحنين إلى زمن ولى ومضى، حين تجالسه تخال نفسك مع فيلسوف من عصر غابر أو شاعر عرك الحياة فعركته، تجري على لسانه بسهولة الجمل المعبرة عما يشعر به، عن إحباطاته، وسنوات خذلانه من قلة الاعتراف، عن حياة طويلة حاول أن يجد له فيها مكانا بين التشكيليين المغاربة دون جدوى، عن أبواب دقها لكنها أبت إلا أن تظل مغلقة في وجهه، لا يتوانى عن الاستشهاد بجمل بلغة موليير رغم أنه لم يمكث بمقاعد الدراسة إلا قليلا، لم يدرس الفن ولم ينتسب يوما لأكاديمية، ولكنه يعرف رواد الفن العالميين، يحدثك عن تكعيبية بيكاسو وعن واقعية غوستاف كورنيه وعن موناليزا دافنشي..لوحاته تجذبك لتغوص فيها ..ولكنه يأبى أن يعرضها كيفما اتفق، بالنسبة لفناننا، لوحاته قطعة منه، ثمينة وغالية وعزيزة لا يعرضها إلا أمام عين عارف بخبايا الفن التشكيلي، ملم بمتاهاته فاهم لمعانيه، يرفض أن يسأل ماذا يريد أن يقول من خلالها، هي تتكلم عن نفسها يقول ..»لن أمسك سبورة وطبشورة للناس كي أعلمهم كيف يقرؤون لوحاتي… هنا ببلادنا وبمنطقة أزمور بالضبط لا أجد المتذوق الفنان لما أرسمه..الناس يبحثون عن أشياء أخرى، لا يبذلون جهدا ليفهموا ما أقوم به، أو ربما هو فوق إدراكهم، الناس يجرون وراء التفاهة le banal attire …حتى المعارض القليلة التي شاركت فيها لم أجد فيها كثيرا من الناس الذين يفهمون ما أرسمه»… وهو يعرض أمامنا بعضا من لوحاته المتميزة تشعر به محلقا في سماء الزهو والافتخار، سعيدا بلوحات رسمتها أنامل لم تعرف الكلل يوما، رغم مرارة التهميش وصعوبة التعريف بمنتوجه الفني الذي بدأه منذ كان فتى غرا في حواري أزمور ومتاهاتها.
هنا في هذا الدكان يأبى أن يفرد للوحاته العزيزة والأصيلة مكانا بين تذكارات وهدايا صينية مقلدة مصنوعة من نحاس وحديد وبلاستيك، بل يحتفظ بها بعيدة عن أنظار الفضوليين ، منتظرا أن تجد لها نقطة ضوء في أحد المعارض التي تنظم بمدينة مصب أم الربيع، المعروفة بفنانيها التشكيليين العديدين، وبمعارضها التي لم يكتب له أن يشارك فيها إلا لماما… يرفض أن يعتبر نفسه مشابها لأحد أو يتشبه بأحد سواء التشكيليين العالميين أو المغاربة، هو فنان بسيط عصامي ، شغفه بالرسم تملكه على حين غرة منه، فكانت الحياة خير معلم له، وسط طبيعة أزمور الخلابة وعلى ضفاف أم الربيع وبين مراكب البحارة المختلفة الألوان، وفي القصبة القديمة والحي اليهودي الأزرق، تشرب اللون وتملكته الفرشاة فملكها، مطوعا إياها في ضربات مركزة حبلى بالإبداع تعكس تفرده وتميزه في استخدام الألوان والخطوط، صابا ما بدواخله من مشاعر وأفكار، يرسم بالفرشاة كما يرسم بيد مجردة من أي أداة، على ورق أو قماش سيان، أعماله تحيل أحيانا على بعض الأفلام السينمائية التي شاهدها فأعجب بها أو مقطوعات موسيقية شهيرة هام بها، في لوحاته تبرز موهبة ومهارة حباه الله بهما لكنه لم يستطع إظهارها إلا للزائرين القلائل الذين يلجون دكانه، حتى أن أكثرهم لا ينتبهون إليه ولا يعرفون أنه فنان تشكيلي إلا حين يفصح هو عن نفسه، يغوص في مكنوناته ومسار حياته الطويل وغصة تستشعرها من كلامه بعد أن وجد نفسه محاطا بالصمت والإهمال، يرسم لنفسه ولبعض أصدقائه ممن تعرفوا عليه صدفة خصوصا الأجانب منهم، «ربما يأتي الاعتراف من الغريب الأجنبي، يقول، هناك في أوروبا يكرمون الفنان ويعرفون قيمته، هنا أنا مازلت أنتظر، على أمل أن تشق لوحاتي الفنية طريقها نحو العلن فقط، وليس الشهرة والمجد» …
في غمرة الهرج والمرج الذي يطبع هذا الدرب، خصوصا بعد العصر، ووسط عدد من ممتهنات نقش الحناء اللواتي يكدن يجررن الزائرات جرا إلى داخل حوانيتهن تحت سيل من عبارات الثناء والرجاء ونظرات التوسل المشفرة لمن يفهم فك طلاسمها، نغادر تلك الزنقة الشهيرة، التي وإن وجد بها عدد من السلبيات التي نتمنى زوالها إلا أننا قد نعثر وسطها على جواهر متلألئة تنتظر من ينفض عنها التراب وما رسامنا اليوم إلا خير مثال، عبد اللطيف الشوفاني ابن أزمور، الفنان التشكيلي ذو الأنامل الذهبية واللوحات الضاجة بالحياة والألوان، إشراقة فنية تستحق الاكتشاف والاحترام وأن تسلط عليها أضواء الاعتراف…


الكاتب : خديجة مشتري

  

بتاريخ : 27/01/2024