على هامش الدورة الأولى من مهرجان مكناس الدولي للمسرح : قراءة في العرض السويسري«JOY » الجسد الفرجوي باعتباره مُتَنَفَّساً للاَّشعور، وتطهيراً للأنا

قراءة في الصورة:
على جدارية دار الثقافة محمد المنوني علقت ملصقات العروض المسرحية التي تضمنها برنامج تحت شعار: مكناس خشبة لمسارح العالم. ملصق واحد اتسم بالغرابة والإثارة والمفارقة !. وفي ذلك مؤشر على أننا بصدد عرض استثنائي من حيث بنيته الدرامية، وهو ما أشعل فتيل الفضول، وأسهم في رفع سقف الإنتظارات لدى جمهور متعطش لعروض التشويق كجمهور مدينة مكناس على الخصوص.
لقد كان لافتاً رؤية امرأة متجهمة تستحوذ بجسدها وساعدها على أكثر من ثلثي مساحة الملصق، تسدد لكمة قاصمة في اتجاه رجل بدا مستسلما مهزوماً، ومكتفيا بإزاحة وجهه جانبا.
أ- الغرابة:الغرابةٌ تتبدى في كون الصورة تعكس واقعا متخيّلاً صادما!الفاعل أنثى، تَفَجَّرَ من داخلها ماردٌ جعل منها كائنا عدوانيا شرسا. والمفعول به شخص ذو أناقة؛ ثبت أنه لم يكن سوى قناع لذكورة زائفة، رجولة فاقدة لحِسِّ الكرامة.
ثلاثة ألوان صنعت من الصورة حدثا ذا معنى: الأبيض، الأصفر والأحمر. امرأة ورجل يحتلان مساحة المربع الأصفر الفاتح الذي يتوسط خلفية بيضاء. الأصفر الذي يرمز للنضج والقوة والثقة بالنفس يمثل حلبة الصراع. أما دال الحمرة فهو مفتوح على أكثر من مدلول:
1) فهل هي علامة على لهيب الأحقاد الموقدة في الأفئدة التي مسخت الكيان الأنثوي فحولته إلى عالم قفر، وأحال كيانها العاطفي الناعم الحالم إلى كومة من الغِلِّ المتراكم يتحين فرصته ؟!.
2) وهل هو تعبير على الشعور بالإحباط الذي استحال يأسا من كسب وُدِّ امرئٍ في عالم أُلْجِمَتْ فيه الألسنة عن حرارة الكلمة ودفء العبارة التي تنزل على القلوب الرحبة شلالا شافيا فتُحيى ولا تـُميت؟
3) أم أنها صرخة الأنوثة المكلومة في وجه ذكورة بلا رجولة؟
بـ الإثـــــارة: وأما الإثارةُ فتتبدَّى في العنوان. لفظة إنجليزية كتبت بالأبيض على شريط أحمر أسفل وسط الملصق: JOY !، تقابلها في اللغة العربية كلمة سرور، وJoie باللغة الفرنسية.
• فأية علاقة ممكنة بين دال: JOY (سرور) ومدلول: عنف؟!
•أية حالة ذهنية سوف يتلقى بها المتفرجون عرضا موضوعه: عنف المرأة في تزامن تام مع الخطاب الرائج الذي يُخَلِّدُ مناسبة اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة؟ !(25 نونبراليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة)(*)
أية حالة سيكولوجية سيكون عليها المتلقي حين يتخيل عرضا موضوعه عنف امرأة، يكون ضحيته رجلاً. تخييل يصعب تمريره ذهنيا في بيئة اجتماعية تقليدية أُبوسية ذكورية، أمامها أشواط جيلية لكي تتخلص مما علق بمخيالها الجمعي من تصورات تسكن عقلها الباطن، تختصرالكائن الأنثوي في الجسد باعتباره أداة استمتاع، وآلة إنجاب؟!.
هل هي رسالةٌ تحذيريةٌ للرجل المغتر بذكورته في عالم تغولت فيه الأنوثة؟
5 – وما الذي أوحى لمخرج هذا العرض بملصق يجسد فعل العنف؟!
جـ- المفارقة: وتتمثل في كون الملصق– على غير ما هو معهود- لا يحمل في أعلاه اسم الفرقة، ولا جنسيتها. وليس به اِسْمَا مؤلف النص ومخرج العرض، وخال تماما من أسماء الممثلين. اسم واحد فقط سُطِّرَ بالقرب من العنوان: Joshua Monten. فهل هو المؤلف أو المخرج، أو هما معاً؟ وهل العرض مُعَدّاً أو مُقتَبَساً؟؛ وهل نحن بصدد مونودراما؟… وسوف يتبين في العرض أن المسمى: J. Monten يجمع بين التأليف والإخراج، بالإضافة إلى كونه ممثلا أيضا !
فأي عرض هذا الذي أحاط نفسه بهذه الهالة من التعتيم والغموض؟!
2 – تيمة العرض:
العنف هو تيمة عرض JOY. سلوك عدواني عمدي موجه نحو هدف لفظي، معنوي أو مادي. ويتخذ شكل مواجهة الآخر، مصحوب بتعبيرات تهديدية، أو استفزازية، أو تصرفات طائشة مؤذية غالبا ما تكون ذات دوافع غريزية. وإذا غاب التعبير الكلامي في العرض باستثناء جملتين فرنسية وعربية نطقت بهما الممثلة الأنثى الوحيدة في العرض؛ فإن المجال كان متاحا بقوة لإطلاق العنان للانفعالات الحبيسة أو المكظومة في ذوات الممثلين لبلوغ غاية التطهير Catharsis، ويحدث هذا بتأثير عروض المسرح التراجيدي على الخصوص؛ غير أن الغاية في هذا العرض ليست أكثر من مجرد استنساخ صورة مطابقة لما يجري في الواقع. وقد كشف Joshua Monten أن حرص الممثلين على الإبتسام كان للإيحاء بأن ما يجرى على الخشبة ليس دعوة للعنف، ولا تحريضا عليه، بل مجرد لَعْبَة Simple Jeu.
أما اعتماد الجسد كأداة للتعبير، فلأن تعابيره لامتناهية، ودلالاته مفتوحة على أكثر من تأويل.”وأنه ينطوي على شكل رمزي، وأن لديه لغات متعددة ينبغي أن نفكك رموزها في نطاق اشتغالها (أي حسب نوعية الجسد). وفي هذا الصدد أشار رولان بارت إلى وجود عدة أجساد منها:الجسد الأنثروبولوجي الذي يتحول عبر التاريخ،الجسد الإتنولوجي الذي يعرف تنوُّعاً في طبيعته حسب المجتمعات،الجسد الديني الذي يقيم صلة مع المقدس والجسد الجمالي الذي أصبح موضوعا لتمثيليات فنية.”
وواضح أننا في عرض JOY بصدد الجسد الجمالي، لأنه في حالة فرجة أمام جمهور. والفرجة بطبيعتها تولي أهمية كبرى للجسد في شموليته. وقد تمثلت جماليته وشموليته في خُلُوٍّ فضاء اللعب من الإكسسوارات، وفي فراغ اللعب ذاته من اللغة الكلامية. في ذلك إشارة إلى أن للجسد سنوغرافيته ولغته الخاصة. وهي الأقدر على تشخيص مكامن العقل الباطن من أية لغة أخرى.
3 – عرض مسرحي أم لوحات من التشكيل الجسدي؟:
على مدى ستين دقيقة ونيف من الإثارة والتشويق، استمتع الجمهور بعرض مادته التعبير الجسدي representation chorégraphique، وليس بعرض مشهدي بمفهوم المنجز المسرحي Performance . العرض عبارة عن مشاهد من الكوريغرافيا chorégraphie قدمته فرقة سويسرية تضم خمسة عارضين: أمريكي، سويسري، ويوناني، وأيطالي، وبولونية. مسوؤل الفرقة المتعددة الجنسيات multinationale هو السويسري ذو الأصل الأمريكي كما صرح بذلك.
يتألف العرض من خمس لوحات:
أ- اللوحة الأولى(عنف مادي ضد الذات/مازوشية) Masochisme: وقوف الممثلين الخمسة على المستوى الأول من الركح-Premier Plan وجهاً لوجه أما الجمهور، نظرات شاخصة في صمت مريب، ليبدؤوا في تبادل الضربات في نظام وانتظام، بدءً من الأول على اليمين. الممثلة البولونية كانت الرابعة في الترتيب، وقد نالت نصيبها من الضربات من الذي على يمينها لتنهال بدورها على خامسهم. اللافت في هذه اللوحة هو الغياب التام للمكونات السينوغرافية في فضاء اللعب؛ حيث لا إنارة ولا قطع الأثاث ولا مؤثرات موسيقية ولا منطوق كلامي. انطلق العرض بذات الإضاءة العادية التي كانت تملأ فضاء اللعب. وفي ذلك رسالة مؤداها أن هذا الركح مجرد امتداد لأي مكان آخر، وما سَيُشَخَّصُ أمام أنظار المشاهدين ليس سوى صورة طبق الواقع.
بـ ـ اللوحة الثانية (عنف معنوي ضد الآخر): بين الإقبال والإدبار، أدى الممثلون الخمسة لوحة تعبيرية قوامها الجسد، وتعبيراته الموحية بالقوة والتحدي. إيقاع الموسيقى قوي، وإضاءة مختلف ألوانها منبعثة من مِسْلاطات Projeteurs مبثوثة في كل زوايا الركح. ألوان المُعَلَّقَةِ منها في السقف فاتحة (أبيض وأصفر)، وأما التي بُثَّتْ في أرضية الخشبة، فكل مِسْلاطٍ كان يشتعل وينطفئ بلون معين شأن ما يجري في علب الليل. عند الإقبال إلى الأمام يُصْدِرُ الممثلون من شفاههم أصواتاً شبيهة بمن هو بصدد البصق إلى أعلى. وقد تكرر ذلك أكثر من مرة. وقد كان مفاجئا ومثيرا للغرابة فعل”البصق”هذا الذي أتقن العارضون أداءه في تفاعل تام مع إيقاع المؤثرات الموسيقية، وكأنه من مكونات اللوحة التعبيرية.
جـ اللوحة الثالثة(عنف جسدي ضد الأنثى): بالقرب من طاولة وُضِعَتْ في وسط الركح، تناوب الممثلون الذكور على إلحاق الأذى بالممثلة التي اكتفت بتلقي الضربات في مختلف مناطق جسدها. كل ممثل يستجمع قواه في انتظار دوره ليسدد لها حصة من اللكمات، وهو يبتسم كأنه يشفي غليلاً كامناً. وقبل أن يفسح الممثل المجال للذي يأتي بعده، يوجه لها صفعة مدوية ذات وقع عنيف ورهيب على المتفرجين. وعلى الرغم من أن المشهد مجرد تمثيل؛ فقد كان فوق طاقة ما تتحمله الآذان المرهفة، والعيون الرحيمة، لأن براعة الممثلين في الأداء شدت مشاعر الجمهور واستنفرت أذهانه. وسوف ينحو الحدث في اتجاه تَخْفيفِ الضغط على الجمهور، بعد أن اعْتَلَتْ الممثلة الطاولة لتنخرط في رقص بالي Ballet حالم على إيقاع موسيقى السمفونية السابعة لبيتهوفن، تفنن جسدها الأهيف ذو القد الممشوق في التشكل الانسيابي على أنغامها والتماهي مع إيقاعها، ولسان الحال يقول: يخبو العنف وتتبدد بشاعته إذا سمت قيم الفن والجمال. لقد شدت هذه الممثلة الأنظار لأنها انفردت لوحدها بالرقص من أعلى الطاولة، وبدت كإلهة من آلهات الأساطير. ولم يكن المقطع السمفوني هو ما أضفى عليها صفة الملاك، وارتقى بها إلى مُدْرَكِ البهاء والكمال وحسب؛ بل لأن جسدها كانت له موسيقاه اللحظية الخاصة باعتباره نسقاً له دلالاته التواصلية. فقد دخل لحظة الرقص في حوار لاشعوري مع أجساد المتفرجين بلغة إشارية بليغة. “إن الإنسان حينما يرقص يستعمل جسده الخاص لتنظيم الفضاء، ولإعطاء إيقاع للزمن. لذلك، نراه يُطيع صوتا داخليا يقول له: “قف وارقص”إلى أن تنبثق قوة سحرية تنفث فيه الحياة والعافية والانتصار، كما تُوَحِّدُهُ بباقي أعضاء المجموعة وذلك بانتشاله من وحدة “الأنا”. فكما أن معاشرة غرامية تدفع المحبين إلى القيام بسفرة قصيرة، كذلك الرقص، فإنه يتيح لنا القيام بسفرة طويلة في نطاق جماعة بشرية، الشيء الذي يسمو بالإنسان إلى عوالم الآلهة. ألم يقل الشاعر الصوفي جلال الدين الرومي: “من يعرف الرقص يحيا في ذات الله”.
د- اللوحة الرابعة(عنف اللامبالاة) L’indifférence: بدا الممثلون الخمسة في هذه اللوحة بزي عسكري ميداني يؤدون لوحة راقصة ذات إيقاع صاخب. وقد تضافرت لغة التعبير الجسدي مع اللغة الميمية لتبليغ رسالة فَحْواها أن العنف سلوك غريزي يُعَبِّرُ عن الحالة اللاشعورية للكائن البشري. لذلك، وجب تصريفه كلما كان متاحاً. وقد تمثل هذا التصريف من خلال تبادل نظرات حادة تنم عن دافع قوي للعقل الباطن لإلحاق الأذى بجسد الآخر. وهو ما حصل حين تقدمت الممثلة إلى الأمام الذي يرمز للحلبة رفقة ممثل. وطَفِقَ الإثنان في عنف متبادل. ورغم أنها كانت ترد كل ضربة بضربة إلا أنها صرخت من فرط تألمها بعبارة بالفرنسية:” Tu m’a fait mal “، ثم أتبعتها بجملة باللغة العربية مخاطبة إياه: “أنت خبيث”!. وقد كان المنطوق اللفظي مثار اندهاش واستغراب المشاهدين؛ إذ كان مقدمةً لتحوِّلٍ في حبكة العرض. انتفضت الممثلة، وأصابت نِدَّها في عُضْوِه الذَّكَري إصابة مُميتة أوقعته أرضاً. ففي الوقت الذي تعالت أصوات بعض المتفرجين كتعبير عن تعاطفهم معها حين تأوّهت متألمةً؛ فإن إقدامها على تسديد ضربة أصابت غريمها في منطقة حساسة وهي في حالة انتشاء، كان كافيا لبث الشعور بالتَّذَمُّرِ والاشمئزاز. ومما زاد من فظاعة المشهد عنف اللاّمبالاة؛ فقد اكتفى الممثلون الثلاثة بتتبع الطريح الذي كان يَتَكَوَّرُ من فرط الألم في أرجاء الركح بعيون التَّشَفِّي!. وهو ما جعل المشاهدين أمام عنف مركب: عنف جسدي، وعنف معنوي (اللامبالاة).
هـ اللوحة الخامسة(العنف كتعبير غريزي) Expression instinctif: كان الركح خاليا إلا من واحد وقد بدت عليه إمارات الاندهاش، ولسان حاله يقول: أين الآخر؟!. الانارة المسلطة عليه والموسيقى الصاخبة المصاحبة أَشَّرَتْ إلى أن ما سيأتي سيكون على قدر من الإثارة. ومع ازدياد صخب المكون السمعي تقاطر الممثلون الأربعة واحدا واحدا ليندمج الكلُّ في مواجهة عنف، وضرب، وتدافع متبادل على إيقاع تعبير جسدي موحد. وحدها الممثلة كان يصطدم رأسها بآنية معدنية معلقة كلما ضُرِبَتْ ودُفِعَتْ. وسوف يأتي رد فعلها عنيفا جدا حين أسقت أرضاً من كان يدفعها. وأخذت في صفعه، ولكمه، ونتف شعره، وتكسير أسنانه. ما أثار الإعجاب هو انخراط الممثلين الثلاثة في إِحْداثِ الأصوات المناسبة لما تقوم به الممثلة ضد المطروح أرضاً. فقد أحدث صوت تمزيق قطعة جوخ صوتا يحيل على نتف الشعر، وتَمَّ الضرب في قِرْبَةٍ مملوءةٍ هواءً للدلالة على الضرب في البطن، والضرب على صفحة لَدائِنٍ بقوةٍ لإسْماعِ صوت شبيه بالصفعة على الخد، وإلقاء قطعة معدنية على آنية حديد كإحالة على تكسير سِنٍّ. ولعل ما كان أكثر إثارة، إقدام الممثل الضحية على عض حلمة ثدي الممثلة أكثر من مرة، انتقاماً مما فعلت به.

البنية الدرامية في عرض JOY:
بالرغم من أن كل لوحة من اللوحات الخمس مستقلة بذاتها من حيث شكل تعبيراتها الجسدية؛ إلا أنها تكاملت في إطار حبكة درامية تهيمن فيها الدوال البصرية يالقياس إلى مثيلاتها السمعية، مع الغياب الشبه المطلق للدوال اللسانية التي بدت – على قلتها- حشوا لا يمثل قيمة درامية مضافة. غير أن الحضور غير المباشر للدوال اللاشعورية شكلت بؤرة الفعل الدرامي. فقد تبين منذ اللوحة الأولى أن الحدث الذي هو العنف ليس حدثا عاديا، بحكم دوافعه الغريزية؛ وهو ما يفسر انخراط الممثلين في سلوك عاصف بمجرد ظهورهم على الخشبة من دون سبب يذكر. فقد تبادلوا عنفا بعنف. والأكثر إثارة هو حرص أَيٍّ منهم على الابتسام كلما تلقى ضربة، وكأن في الأمر سرٌّا خفيّاُ يُلبّي دوافع لا مرئية. ومن التعنيف الذاتي للجسد تطور الفعل الدرامي إلى عنف معنوي ضد الآخر. فقد أطلق الممثلون الخمسة العنان لرغبات غامضة في إلحاق الأذى العمدي بالآخر الذي لا يعرفونه. فكان أن عمدوا إلى البصق عليه من بعيد. وسار الفعل الدرامي في منحى تصاعدي بعد أن تناوب الذكور الأربعة على الإيذاء المعنوي بالأنثى من خلال تعابير وجوههم وعيونهم، والإيذاء المادي عبر انتهاك حرمة جسدها.
العقدة تمثلت حين اتخذ العنف بعداً جنسيا باستهداف العضو الذكري. إن ضغط المكبوتات المنفلتة من العقل الباطن دفعتها إلى تفجيرها بفعل الضغوط والموانع والقيم السائدة التي كرسها العقل الذكوري. إنه صراع اللاوعي (الجسد) رمز اللذة والخيال والجمال ضد الوعي المتمثل في أنا السلطة (الذات الواعية) التي ترمز للقمع والقهر والتسلط. وهو الصراع الذي سوف يمتد رمزيا بين أنوثة حاقدة وذكورة متسلطة في اللوحة الأخيرة؛ حين انقضت على غريمها انقضاضا استمر حتى بعد سدول الستارة كإشارة إلى النفس البشرية الأمارة بالجنس والعنف.
5 – الجسد باعتباره لغة تواصل وتعبير عن المسكوت عنه
إذا كانت اللغة الكلامية هي ما يميز الكائن البشري عن بقية الكائنات الأخرى، وهي ما تصلح لنقل المعارف والمعلومات، والوسيلة الحيوية للتعبير الصريح والمنطقي عن قضايا الفكر ومشكلات الواقع، فإن لغة الجسد تتجاوز حدود المنطوق الكلامي على أساس أن استخدامها يتم لا شعوريا، وأنها الأقدر على التعبير عن المسكوت عنه، وأن لها من الجرأة على تعرية المستور، وكشف الحقائق كما هي. “وهذه اللغة هي الأكثر صعوبة في كتابتها، ولكنها ربما كانت هي الأكثر أهمية في العلاقات الشخصية المتبادلة بيننا، وهي أيضا اللغة الجديرة بالاهتمام على نحو خاص من جانب الراقصين الممثلين والميميين، وغيرهم من الفنانين المؤدين.” وحين يحضر الجسد تحضر الانفعالات، وتتكون في أذهان المتفرجين انطباعات مُنْطَلَقُها إيحاءاته التي تحرك المكبوت الجنسي والدافع العدواني. وفي هذه الحالة، فإن عيون المتفرجين تكون شاخصة وفاحصة إلى درجة يكون فيها اللاشعور في حالة يقظة غريزية، مثلما حصل في عرض JOY الذي خلا من اللغة الكلامية، باعتبارها لغة الشعور والعقل والمنطق التي تفتقر إلى الصدق والتلقائية.
لقد نجح الفنان والمخرج الضعيف بوسلهام في رهانه حين تبنى مقولة: مكناس خشبة لمسارح العالم، وحين وقع اختياره الذكي على مسرحية JOY لاعتبارات ثلاثة:لأنها شديدة التميز من حيث الخصوصية الأممية للفرقة Multinational (خمس جنسيات)، لأنها تناولت تيمة العنف في علاقته المركبة بالجسد، ولأن الخصوصية الثقافية لأي جمهور لا تحول دون التفاعل مع عرض تبنى لغة الجسد أداة تواصل لتبليغ الرسالة.
طُرحت جملة من الأسئلة على مسؤول الفرقة بعد العرض، وكان الجواب مقتضبا ومُلْتَبِساً:هل يتعلق الأمر بتعبير جسدي أو عرض مسرحي؟ بهما الاثنين معا.!
ما السر في كون الفرقة متعددة الجنسيات؟ لأن العنف لا جنسية له.!
لماذا غاب الكلام وحضر الرقص؟ لأن الأمر يتعلق بـ مجرد لعب Un simple jeu !
تتبادلون الضربات وأنتم تبتسمون، كيف؟ لأنه تمثيل ِC’est du théâtre .!
هوامش:
(*) قدم عرض JOY يوم الخميس 20 دجنبر 2018
– دكتور حسن المنيعي، الجسد في المسرح، مطبعة سيندي- مكناس، ط1-1996، ص10
2- نفسه، ص9
3- جلين ويلسون، سيكولوجية فنون الأداء، ترجمة د, شاكر عبد الحميد، سلسلة عالم المعرفة الكويتية، العدد 258-2000، ص167


الكاتب : الدكتور عبد الرحمن بن إبراهيم

  

بتاريخ : 19/01/2019