عن الدرس الحسني لوزير الأوقاف والشؤون الإسلامية .. انتصارا لمنطق التاريخ

 

ظل المؤرخون الأفذاذ على مرّ الحضارات التاريخية الكبرى، مثالا لعمق النظر ..وسداد النقد..وعقلانية التفسير والتحليل والاستشراف..وضرورة العمل/ السياسة..لأنهم يؤمنون بسنن التغيير والتحول على المدى الطويل البطيء، والمتوسط، والقصير..ولأنهم يصغون، وفق هذا الإيمان، لمصالح وتطلعات دولهم ومجتمعاتهم كأولوية الأولويات..لذا ظلوا دوما في تماس ضروري وموضوعي مع الشأن السياسي نظرا وعملا..إذ لا يوجد، على حد قول ع الله العروي، مؤرخ محترف لم يحاول أن يلعب دورا سياسيا ( ع الله العروي، مفهوم التاريخ، ط الأولى، 1992 . ط الثانية، 1992، المركز الثقافي العربي، ص 45)، ويستوي في هذا الفلاسفة الذين كتبوا عن التاريخ..والمؤرخون الذين مالوا إلى الحكمة والتجريد..( ع الله العروي،نفسه، ص177). المؤرخ (والروائي) ذ. أحمد التوفيق لا يشذ عن هذه القاعدة. وإنه لمن دواعي البرهنة والتأكيد على رؤية/فلسفة هذا المؤرخ، أن يكون السند في حالة الرجل، ليس قوله النظري، والبحثي المونوغرافي في التاريخ فحسب، بل مسؤوليته السياسية/ العملية كوزير(..لمدة طويلة..) للأوقاف والشؤون الإسلامية، وهي الوزارة التي تقع في قلب التقاطعات والتجاذبات الأثيرة بين الواقع والمثال..النكوص والتطلّع..التقليد والحداثة..الدولة والأمة..الدين والتديّن..الدين والسياسة..
***
يمثل الدرس الحسني الرمضاني الأول الذي ألقاه الوزير بين يدي جلالة الملك هذا العام (1445 ) تحت عنوان « تجديد الدين في نظام إمارة المؤمنين « عنوانا قويا وشجاعا لرؤية المؤرخ في الوزير..والوزير في المؤرخ..بما يليق بالتاريخ كفلسفة، وليس صنعة وكفى..وبما يليق بالوزارة كميدان عملي لأجرأة التاريخ.. من حسن حظ الوزير المؤرخ، أن يكون مسنودا بسياق سياسي مؤسّسي دولتي تمثله (إمارة المؤمنين، رئاسة الدولة) في شخص جلالة الملك محمد السادس، بما هو سياق إصلاحي وتجديدي وتحديثي يتراكم منذ مطلع الألفية الثالثة هذه. وأستطيع القول هنا، أن ما تحقّق «..مواصلة لحماية اختيارات الأمة وتجديدا في بابها بما يناسب المتغيرات «(من درس الوزير) في ظل إمامة الملك، لم يستطعه علماء وفقهاء الدين طيلة هذا الزمن المعاصر الذي يتجاوز القرن..وبرأيي المتواضع، كما هو رأي آخرين، فما يستطيعه السلطان الخادم العادل المتنور، والمسنود بالشرعيات التاريخية والدينية والدستورية، تعجز عنه جمهرة النخب باصطفافاتها الإيديولوجية المتنافرة، وبتناقضاتها المرجعية، وبخلافاتها السياسية. وما حصل في الطبعة الأولى لإصلاح مدونة الأسرة مع بداية هذه الألفية لخير دليل. وأتصور، في هذا السياق، أن مستقبل الإصلاح، الديني والدنيوي، في بلادنا، لا يمكن أن تتوفر له أسباب النجاح، دون تدخّل وفعل أعلى هرم الدولة، بل وهذا ما نحضّ عليه لتسريع وتيرة الإصلاحات النوعية والحسّاسة.. نقول هذا، ونحن نعلم حذر وتهيّب وتريّث إمارة المؤمنين في التّعاطي مع إصلاح وتجديد الدين، بإزاء جمهور متعلّق بالدين ومحافظ.. لذا يحرص نظام أمير المؤمنين، دوما، على العقيدة/القاعدة: عدم تحريم الحلال، وعدم تحليل الحرام..مما قد يعلّل أحيانا ( الإصلاحية المحافظة، بتعبير محمد الطوزي) التي يمكن أن يصدر عنها هذا النظام..
يعرج الوزير (في درسه) على التاريخ ليذكّر بالإصلاحات السياسية الميدانية للدولة العلوية منذ نشأتها، وبالنصائح السلطانية المتمثلة في ثمان رسائل سلطانية ( منذ سيدي محمد بن عبد الله إلى الملك الحسن الثاني- انظر الدرس..) تروم تجديد الدين ورفد ينابيعه..ليأتي، في المفصل، على سيرة ومسار الملك محمد السادس في حفظ الدين وتجديده من خلال عشرين قضية نلخصها في: تأصيل لقب رئيس الدولة (أمير المؤمنين) في شؤون الدنيا والدين، مشروعية الحكم على أساس البيعة، التزامات الحاكم الشرعية (أو الكليات الخمس)، « حفظ الدين باعتباره الصلة مع الله بالنسبة للمؤمن»، حماية النفس بضمان الأمن والطمأنينة، «حماية العقل» أي حماية العيش المشترك ضد الفوضى والفتنة، حماية المال بحماية الممتلكات وإجراء العقود والمعاملات، حماية العرض بضمان الكرامة للناس، الحريات العامة، الاجتهاد بكل ما هو مطابق للعقل من جهة المصلحة، حماية الأسرة بالتجديد القانوني والدعم الاجتماعي والإصلاح الحقوقي، قضية المرأة التي صارت «في نظام إمارة المؤمنين تحقّق تعادلا واستحقاقا مطّردا..»، قضية التعامل مع الأبناك، المسألة الاجتماعية ممثلة في قيم المشاطرة وأوراش التضامن، المسألة الثقافية مجسّدة في العلاقة مع اللغة والوطن والأرض، حماية القيم الروحية المعبرة عن عمق التدين، حماية الخصوصية المغربية في إطار الانتماء للأمة الإسلامية، رعاية نهج الوسطية في العقيدة، حماية الأرض كجزء من حماية الدين، وأخيرا صيانة الروابط العلمية والروحية مع بلدان إفريقيا بتعزيز ورفد المشترك العقدي والمذهبي..
***
لا جدال في أن هذه القضايا هي بمثابة أساسات ودعامات الدولة الأمة/الدولة الوطنية، والنجاح فيها هو توفيق في تجديد الدين والدنيا معا، وضمان لحظوظ البلاد في الاستقرار والنمو والتقدم. وإذ يصنّف ويواكب الوزير/المؤرخ هذه القضايا من/ في دائرة الحقل الديني، بما هي قضايا تعبّر بالملموس عن مسؤولية نظام إمارة المؤمنين/رئاسة الدولة في حفظ الدين وتجديده، فإنه، وفي نفس الآن وبالتداخل، يعكف على تصنيف وترجمة هذه القضايا في خانات مبادئ ومؤسسات وقنوات الدولة الحديثة، وكأن هذه الأخيرة هي غاية ومبتغى هذه القضايا الإصلاحية.. وما التجديد الديني إلا لمواكبة ومصالحة الدين مع مستجدّات التاريخ الطارئة والمتغيّرة باستمرار..
هكذا، وبمنظور الدولة المؤسسية الحديثة، يكون (أمير المؤمنين) هو (رئيس الدولة) الأصيل للدولة الحديثة..، وتكون البيعة عقدا قانونيا مكتوبا..، وتكون حماية النفس متجاوبة «مع محدثات العصر في باب توفير وسائل الأمن وشروط السكينة..»، وتقابل «حماية العقل» «حماية النظام العام بالقوانين والمؤسسات..»، ويكون شرط حماية المال العام في تجارب العصر هو الاقتصاد والتنمية في شموليتهما..، ويكون لحماية العرض «توجيهات مؤسساتية تتعلق بدعم الصحة خاصة ومستوى العيش عامة..»، وتكون الحريات العامة «من صميم الدين الذي لا انفصام فيه بين الفردي والجماعي»، لكن تعقد الحياة اليوم يستلزم «أن تضمن الدولة وتنظم هذه الحريات بالقانون وبالسلطة العمومية..»، وفي باب الاجتهاد أخذ نظام إمارة المؤمنين «بكيفية تلقائية بكل ما هو مطابق للعقل من جهة المصلحة..» وحتى وقد يتواجه هذا المبدأ مع عقيدة أمير المؤمنين «لا أحرم حلالا ولا أحلل حراما»..إذ لا اجتهاد أصلا دون تقابلات وتأويلات..، وتكون قضية الأسرة التي اهتم بها نظام إمارة المؤمنين «في جوانب التجديد القانوني والدعم الاجتماعي والإصلاح الحقوقي» باعتبارها المكوّن النووي الأول لمستقبل نسيج المجتمع المغربي على أنقاض عائلة الأمس الممتدة..وقد حققت المرأة في نظام إمارة المؤمنين اليوم «تعادلا واستحقاقا مطردا سواء في التعليم أو في مختلف الفرص» ( يقول «تعادلا».. ولا يقول «مناصفة».. الشائعة، ونظنّ أن هذا ليس تنويعا لغويا من الوزير فقط..)، وفي قضية الأبناك الشائكة (أي الفائدة) التي يعتبرها «بعض المتكلمين في الدين» هي (الربا) يقول الرجل «..أما الاقتراض في هذا العصر فمعظمه للضرورة أو الاستثمار..» والفائدة هذه قد «تقلّ بقدر نمو الاقتصاد في البلد..»، وفي المسألة الثقافية يأتي الوزير على مركّبها الشمولي التعدّدي الذي ينطوي على اللغة والوطن والأرض والبيان والحكمة..»واعتبار آيات الجمال في الفعل والإبداع والطبيعة» في نظام إمارة المؤمنين «ضمن رعاية التعدد الثقافي لمختلف مكونات الأمة»، وأسطّر هنا على (آيات الجمال) كتأكيد على مقام الجمال في الفنون والآداب والعلوم عند الذائقة البشرية المبدعة في التاريخ ومعه.. وتنهض «حماية الخصوصية في إطار الانتماء للأمة الإسلامية» على تحدّ مغربي خالص بوّأه في العالم الإسلامي مكانة محترمة عقيدة وأخلاقا، ومن هذه التحديات «رعاية نهج الوسطية في العقيدة» التي فوّتت على المغرب مضّار وفتن التشويش السياسي الإيديولوجي بالدين العقدي والمذهبي. ولا يفوت رجل الدولة/الوزير، في هذا الباب، أن يثني على هذا الاستقرار المغربي بفضل « مشروعية الحكم وبفضل حنكته الأمنية والسياسية». ومن معالم نجاح هذه الخصوصية المغربية جاذبيتها الخارجية في دينامية امتداداتها العلمية والروحية في بلدان إفريقيا المسنودة (هذه الدينامية) بتدابير مؤسسية منها (مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة). وأما مسألة «حماية الأرض كجزء من حماية الدين» بالتمويل والتنمية والدبلوماسية المضنية، فمن صميم نظام إمارة المؤمنين في الجمع بين حماية الدنيا والدين..الأمة والإمامة..الأرض والتاريخ..الماضي والحاضر والمستقبل..
هذه، إذن، هي دعامات الحكم الدستوري السوّي (عندنا أو عند غيرنا) في الدولة الحديثة.. وهذا هو البرنامج أو جدول الأعمال السياسي الشامل لوجود وفعّالية هذه الدولة.. ومن منطق التاريخ، أن ينبني موضوع/ مواضيع درس الوزير، على مفاصل تاريخانية قوية من مثل الإيمان ب»المتغيرات»..، والاعتراف ب»تحديات العصر» وب»محدثاته» وب»التطور المادي»..، والاعتبار ب»تجارب العصر»..، والتسليم ب»تعقد الحياة في هذا العصر»..والوعي ب» التحديات التي ستظل تظهر في الأرض»..هذه، إذن، مفاهيم تفصح عن وعي بشري تاريخي بالتغيير وما يستلزمه، من/ في الدولة، من عدّة نظرية وعملية لأجل التجديد والرقيّ.
***
عود على بدء يقرّ الوزير المؤرخ، في درسه هذا، بفشل تجارب تجديد الدين الإسلامي في العصر الحاضر، واستشراء الضعف الفكري والسلوكي أمام الغرب وحضارته، لذا تباينت ردود فعل المسلمين بين التبعية التامة لهذه الحضارة، وبين رفضها رفضا باتا، وبين التكيف معها ومجاراتها.. لقد أثمر الإصلاح والتجديد في الديانات الأخرى منذ عصر النهضة (في المسيحية أولا، وبالتأثير في اليهودية والبوذية والكونفوشيوسية) بفضل قراءة وتأويل النصوص الدينية في ضوء المناهج النقدية العقلانية، فترتب عن ذلك، في أوربا الغربية خاصة، ثورات فكرية وسياسية وعلمية واقتصادية عارمة ومتواترة..أما في الإسلام، وعلى الرغم من ظهور عدد من المجدّدين ( أمثال الهندي أحمد خان، والمصريين الشيخين محمد عبده وعلي عبد الرزاق)، وعلى الرغم من تنوع بل وراديكالية هذا التجديد ( كالتجرؤ حتى على الأصول..وإنكار السنة كمرجع..والتأويل للتلاؤم مع المراد العقلي والمعارف الحديثة..والدعوة لفصل الدين عن الدولة..) على الرغم من كل هذا، فإن «لا أحد من هؤلاء المجددين قدّم تحليلا عميقا لإشكال العلاقة بين المسلمين وبين هذا الطرف الثاني وهو الغرب»..و لا أحد ينكر أن تفوق الغرب قام أساسا على العلم وتطبيقاته الصناعية..ولا أحد من هؤلاء الدعاة « قدم تحليلا يدل على أنه فهم هذه الحضارة الغربية بكل مكوناتها وما جرى ويجري داخلها من نقاشات فكرية متعلقة بالوجود والسياسة والمجتمع والطبيعة»..ولا أحد قابل بين المثل الأنوارية للحضارة الغربية ومآسيها الاستعمارية الاستغلالية..ولا أحد قدم تحليلا تاريخيا وفكريا عميقا جديدا وافيا لمفاهيم التاريخ والليبرالية والحرية والدولة والاقتصاد والمجتمع..وقد زاد من عقم وعطب هذه الدعوات التجديدية رفعها لشعارات هلامية مستسلمة اختزالية كسولة من مثل «الإسلام هو الحل» و»الإسلام صالح لكل زمان ومكان» دون الوعي بالتاريخ الذي أساسه الوعي بالتغيير والتحول..(ولعل الاعتقاد الراسخ عند «بعض المتكلمين في الدين» أن الفائدة البنكية هي الربا، والذين ما رأى أتباعهم في درس الوزير إلا هذه النقطة..، من هذه الشعارات المتكلسة المكتفية بجاهزيتها الفقيرة..). وهكذا يخلص الوزير/المؤرخ، وبشجاعة معرفية وأخلاقية، إلى أن دعاة التجديد داخل الإسلام في العصر الحاضر « لم تقدم (دعوتهم) للمسلمين الجواب الذي لا يزال مطلوبا، وهو كيف يصلون بالتدين إلى الحياة الطيبة كما جاء الوعد بها في القرآن»..
بديهي، هنا، أن نستخلص أن هذا الجواب لا يزال على رأس جدول أعمال التجديد الديني المأمول..وهذا يحيلنا أيضا، وفي سياق مركب، على أطروحات عبد الله العروي في نقد أزمة الإيديولوجية العربية المعاصرة، وأزمة المثقفين العرب، وأزمة الفكر التاريخي العربي المعاصر..في ضوء التاريخ وعلى محكّه..
*** هذه «الحياة الطيبة» الموعودة، تجد علّتها الأساسية، حسب الرجل، في «نقص التدين». التدين بتعريف الوزير هو «ممارسة الناس للعبادة وعلاقة تلك الممارسة بنوعية حياتهم» ( وقد يكون التدين، بنظرنا، أيضا، سلعة أو ماركة تجارية، أوإيديولوجية سياسية..) وهو جانب منتف عند هؤلاء الدعاة الدينيين وهم «يواجهون الغرب كنظام إيديولوجي»..
في هذا السياق يجد الوزير/المتصوف هذه المرّة، الترياق في مفهوم «التزكية» كعملية تأهيل وتهيّؤ للمؤمن الحق كي يصير إنسانا جديدا، وكتربية أخلاقية تروم تحرير الإنسان من الشحّ وحضّه على حبّ أخيه كما يحب نفسه..ويتوقّف كل هذا برأي الرجل على «النفس» فردية كانت أو جماعية، هذه النفس الأمّارة بالأهواء والمصائر المتضاربة خيرا وشرّا..نجاة وتهلكة.. «النفس» التي صار لها اليوم، كما يقول الوزير، علما قائما يدرس ظواهرها ويرصد أحوالها.. ليعرج، في خضمّ هذا الدرس الحسني حول تجديد الدين، على الفيلسوف/ المؤرخ الفرنسي ميشيل فوكو ( كما على مؤلفين ومؤلفات غربية أخرى تهم المباحث الأخلاقية في الغرب، حتى يغتني ويتفاعل التراث الأخلاقي الإسلامي مع العقل الأخلاقي الغربي كمتاح للبشرية جمعاء، بلغة ع الله العروي)، فيما يمكن اعتباره مثاقفة عالمة جريئة مع العقل الأخلاقي الغربي، الذي يخلص (أي م. فوكو) «إلى أن الأخلاق المدنية الحديثة ترى أن معرفة النفس أساس الأخلاق..»، وتلتقي هذه الخلاصة، حسب الوزير، «مع الربط القرآني بين الشح وفساد النفس»..
وأمام هذه الهوّة السحيقة التي تنوس فيها الأمة بين الحضور الظاهري والاعتباري للدين عند الناس، وسلوكهم المخالف والمناقض لهذا الحضور..بين كمال الدين ونقص التدين.. وأمام قيام الإمامة بدورها..يتركز الطلب، إذن، لأجل التغيير والتجديد، على العلماء «علماء ربانيون متمكّنون يكونون نماذج للناس في التواضع ومحاسبة النفس» ( ولنتأمّل هنا لغة الرجل عن نوع العلماء المطلوبين..). وأما عنوان المشروع التجديدي لمثل هذه المؤسسة العلمية، فهو «تسديد التبليغ» بما ينطوي عليه من أولويات سلوكية وعباداتية وأخلاقية ملؤها الحب والخير والإيثار والصدق..ولعلّي بقولة الوزير في هذا السياق..» اعتبار العمل بالقانون من المعروف والإخلال به من المنكر» خير رابط انتقالي تفاعلي من/ بين الأصيل والمعاصر..الشرع والقانون..التقليد والحداثة..الأمة والوطن.. والمأمول أيضا من «تسديد التبليغ» التخفيف من نفقات التدبير السياسي (وقد يكون في هذا نقدا مبطّنا وضمنيا لأداء النخب السياسية..) و»اكتساب المناعة الجماعية ضد التشويش الداخلي والخارجي باسم الدين، وضد أنواع الفتنة..»ومن ثمة تملّك القدرة على مواجهة التحديات التي ستظل تظهر في الأرض بما كسبت أيدي الناس»، باعتبار أن صيرورة التاريخ مشرعة على التحديات الطارئة أبدا.
يبدو أن «تسديد التبليغ» هذا ينطوي على غير قليل من النوايا الحسنة..والمأمولات المتفائلة.. (وربما يعود الأمر إلى التشوّف الصوفي الصادق الحليم للرجل..وحيث التصوف يهتم بالتربية على التزكية..)، لكن بنظرنا المتواضع، وحدها الإرادة السياسية (وهي محط الثقة، ومكمن التفاؤل بالمعنى الغرامشي، على عكس تشاؤم الفكر) الشرعية الجريئة الشجاعة كفيلة بتنزيل وتنفيذ البرامج الإصلاحية والتجديدية في الدنيا والدين، وذلك بالعزم والحسم الضرورين..وتعنينا من هذه الإرادة الدولة أساسا، وبالمشاركة الأفقية والعمودية للمكونات المجتمعية الثقافية والسياسية والمدنية والتقنوقراطية..إن صارت (هذه المكونات) إلى إصلاح وتغيير ما بنفسها أولا..حتى وهي من بيئة هذا القوم الذي تريد تغييره..أو بالأحرى، لأنها، بالضبط، من صلب طبيعة وثقافة هذه البيئة.. يقول ع. الله العروي أن التاريخ مفهوم مزدوج وخطير، يعاكس دوما الاتجاه العادي في المجتمع: إصلاحي إذا عمّ الجمود ومحافظ إذا عمّ التغيّر (ع الله العروي، مفهوم التاريخ، ص 406 ). والاتجاه الديني في مجتمعنا اليوم يميل أكثر إلى المحافظة والنكوص، لذا نأمل أن يعاكسه منطق/درس التاريخ، ومنه درس الوزير/ المؤرخ هذا، بالإصلاح والتجديد.. للإشارة، فقط، وعلى المستوى الشكلي، جاء الدرس محكما في بنائه..فنيّا في ترتيب وتركيب فقرات موضوعه..كثيفا بليغا ذكيا في معجمه اللغوي..ولاّدا عنقوديا في نسج أفكاره، بحيث تصعب الإحاطة بمجمله..
ملحوظة:
أقوال ذ أحمد التوفيق في المقال، من الدرس الحسني الأول يوم الجمعة 04 رمضان 1445 /15 مارس 2024 ، والذي نشرته ج الاتحاد الاشتراكي في العدد 13.705 /23-24 مارس 2024 /ص10-11 .


الكاتب : محمد الحاضي

  

بتاريخ : 05/04/2024