في الدرس الافتتاحي الذي ألقاه بكلية الآداب والعلوم الإنسانية الـمحمدية .. الحبيب المالكي: كيف نتملك الـموضوع الـمتوسطي

ألقى الحبيب المالكي، رئيس المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي والخبير الاقتصادي، وعضو أكاديمية المملكة، ورئيس ورئيس مجموعة البحوث والدراسات المتوسّطية (GERM)، صباح أول أمس الأربعاء بكلية الآداب والعلوم الإنسانية الـمحمدية، درسا افتتاحيا بعنوان «كيف نتملك الـموضوع الـمتوسطي». في ما يلي نص هذا الدرس:

السيد رئيس الجامعة،

السيد العميد،

السادة الأساتذة،

أبنائي وبناتي الطلبة،

الحضور الكرام،

يسعدني أن أحضر معكم، هذا اليوم، استجابة لدعوة كريمة من هذه الكلية العامرة النشيطة، من عمادتها وأساتذتها وأطرها، وذلك في إطار سلسلة الدروس الافتتاحية التي دأبت المؤسسة على تنظيمها منذ سنوات حيث استضافت نخبة من أبرز وألمع الباحثين والمفكرين من مختلف حقول المعرفة والبحث والتفكير. وهو ما أصبح، في الواقع، يشكل تقليدا جامعيا ثقافيا تفخر به جامعة الحسن الثاني والجامعة المغربية ككل، ويجعل من الدروس الافتتاحية قيمة مضافة تعزز مكاسب المؤسسة العلمية والثقافية في بلادنا.

ورغم أن الأستاذ العميد الدكتور سي عبد الحميد بن فاروق ترك لي الأمر لأقترح موضوع هذا الدرس، بدا لي أنه ميالا أكثر إلى أن أتحدث، هذه المرة أيضا، في الموضوع المتوسطي، وهو بالتأكيد موضوع أثير لدي، وسبق لي أن تكلمت فيه وحاضرت فيه أكثر من مرة داخل المغرب وخارجه. ومن جميل المصادفات أن أكاديمية المملكة المغربية، التي أتشرف بعضويتها منذ سنة 1992، نظمت مؤتمرا علميا دوليا في ماي 2021 حول “البحر الأبيض المتوسط، أفقا للتفكير”، وشرفتني بإلقاء الدرس الافتتاحي لتلك الندوة الكبرى الهامة. ولذلك، أود أن أتحدث عن المتوسط، وفي المتوسط، ومن خلال المتوسط آملا أن ألامس بعض القضايا التي تهمنا في المغرب مباشرة، وذلك بالنظر إلى موقعنا الجغرافي والجيوسياسي والاستراتيجي، والتاريخي بطبيعة الحال، من حيث إننا بلد متوسطي، بالقوة وبالفعل، لنا ساحل متوسطي يتخطى بقليل 500 كلم. وتعرفون أن هناك بعض البلدان الشقيقة والصديقة تنتمي من الناحية الاستراتيجية إلى المنظومة المتوسطية دون أن تكون مطلة على البحر الأبيض المتوسط أو لها شرفة حتى على المتوسط.

والواقع أن الموضوع المتوسطي ظل يشغلني لفترة طويلة على أكثر من صعيد، ومن زوايا نظر متعددة، سواء على مستوى الدرس الجامعي الاقتصادي أو كمحاضر وباحث ومؤلف، أو على مستوى المسؤوليات الحكومية والبرلمانية والسياسية والثقافية التي تحملتها. ولاشك أنكم تذكرون – بعضكم على الأقل – أنني سعيت، منذ أكثر من ثلاثة عقود، إلى تأسيس بنية تنظيمية علمية فكرية وثقافية خاصة بالمتوسط، هي مجموعة الدراسات والأبحاث حول المتوسط GERM، والتي جعلناها إطارا لعمل مدني مستقل، بمعية عدد من الأصدقاء الباحثين والأكاديميين المغاربة والأوربيين من المغرب وفرنسا وإسبانيا والبرتغال واليونان، وذلك قبل مواصلة انفتاحها على جنسيات متوسطية أخرى بل وامتدادها إلى باحثين عالميين من خارج الفضاء المتوسطي.

والحق أن ما ظل يهمنا في عملنا داخل (مجموعة الدراسات والأبحاث…) هو أن نوفر فضاء للحوار المفتوح وأن نساعد بلادنا على تملك المادة المتوسطية في عمقها وبإشكالاتها ومعضلاتها وتوتراتها المختلفة، فكانت GERM بذلك بنية جديدة ومجددة للتفكير في ما يوحد المتوسط بل وما يقسمه أيضا للأسف، وفي الأسباب والمسببات والنتائج والتداعيات. كما وفرنا بذلك همزة وصل علمية وفكرية تمد الجسور وتقوي العلاقات بين مختلف التخصصات والخبرات المختلفة، سواء فيما بين المفكرين والباحثين أو بينهم وبين نساء ورجال الاقتصاد والمال والأعمال، وعلماء اجتماع وسياسة وإدارة، وقادة مجتمع مدني وغيرهم، فضلا عن الانفتاح على منظمات ومقاولات ومؤسسات أورومتوسطية قصد التعاون العلمي وبلورة أفكار جديدة من خلال ورشات ومختبرات مشتركة للتفكير والإنصات المتبادل.

لقد كان المنطلق، منذ خطواتنا الأولى، واضحا : أن نوفر إطارا للبحث والتفكير حول تطور المجتمعات المتوسطية، وتوفير معرفة علمية بالواقع بل بالوقائع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في البلدان المتوسطية، ذلك لأننا ندرك بأن المتوسط الذي نحن جزء لا يتجزأ منه ليس متاحا لنا بالسهولة التي نتصورها.

وفي تقديري، فإن هذا يدل على قيمة البحث، وقيمة العلم، وقيمة الفكر التي ينبغي أن نعزز بها حضورنا الاقتصادي والسياسي والدبلوماسي في المتوسط، وفي العالم.

أود أن أقول إن الاقتناع بأهمية المتوسط ليس جديدا لدي، لكن الإحساس به، بثرائه الحيوي، الجغرافي والتاريخي والحضاري والثقافي، وكذا بهشاشة فضائه وحساسية تأثره بالتحولات الكونية، الجيوستراتيجية والجيوسياسية والجيو اقتصادية، وبتداعيات التغير الديموغرافي والمناخي وأنماط العيش، وبالتعبيرات الثقافية واللغوية والتواصلية الجديدة، هو ما دعانا، ولا يزال، إلى إدراج أهمية وضرورة توحيد وتنسيق الجهود الفردية والجماعية وتكثيف العمل العلمي المؤسساتي بحثا عن تصورات ومخارج وحلول ومقترحات تصنع المستقبل المتوسطي، وتوفر أسباب تنميته المستدامة، وتضمن آفاق استقراره وأمنه وسلمه ورفاه شعوبه وبلدانه.

لقد تساءلت مرة عما جعلني أهتم بالمتوسط وبالموضوع المتوسطي، وكيف حولته تدريجيا إلى نوع من الشغف العلمي والفكري والثقافي والسياسي المشترك مع أصدقاء وزملاء وإخوة لي من المغرب ومن مختلف البلدان المتوسطية. لماذا ينشغل مثقف أو باحث أو مسؤول مغربي بالسؤال المتوسطي ؟ لماذا يحول قلقا فكريا إلى نوع من الشغف يتجاوز الحاجات العلمية والإشباع المعرفي إلى شغف شخصي، يتخطى الاهتمام الاقتصادي الاجتماعي والسياسي إلى اهتمام بالثقافة والإبداع والمجتمع في الفضاء المتوسطي، إلى الموسيقى والمعمار واللباس وفنون الطبخ والأدب وما إلى ذلك.. في المتوسط.

هذا معناه أنني سعيت دائما إلى أن أتشبع بالمتوسط كبعد حضاري إنساني من أبعاد الهوية المغربية ومكون حيوي، شديد الأثر على الشخصية المغربية، وأكثر من ذلك أخذت على عاتقي أن ألفت الانتباه إلى ضرورة أن نتملك الموضوع المتوسطي، ولماذا وكيف نتملك هذا الموضوع، وكيف نجعل المتوسط موضوعا حاضرا بقوة وباستمرار لدى النخب المغربية الجديدة، ولدى عموم المغاربة. بمعنى ألا يحضر المتوسط بيننا كما لو كان اهتماما ظرفيا أو تاكتيكيا أو موسميا، خصوصا وأن للمتوسط كجغرافيا وكتاريخ وكعمق جيوسياسي وبعد استراتيجي تعالقات وروابط ممتدة ومتشابكة مع أروبا، ومع إفريقيا، ومع العالم.

ومن هنا، آثرت أن يكون موضوع هذا الدرس الافتتاحي في معنى أن نتملك الموضوع المتوسطي. وبالطبع، لا أريده أن يكون درسا تلقينيأ، وإنما أريده كنوع من الحديث التلقائي الذي أتقاسم فيه النظر الشخصي، وأتقاسم بعضا من الأفكار والمشاعر، وبعضا من المعنى.

أن نتملك المتوسط هو أن نتملك ميراثا جغرافيا وتاريخيا وحضاريا وثقافيا.

أن نتملك المتوسط هو أن نتملك الفكر المتوسطي، والأنساق الفلسفية والروحية والرمزية المتوسطية.

أن نتملك المتوسط أيضا هو أن نجعل من فضاء عمومي فضاء شخصيا يكون علينا أن نتمثله (Représenter) تمثلا شخصيا، وأن نمثله أفرادا وجماعات، وذلك بموضعته في العقل والفكر والوجدان، وأن نفهمه، ونتفهمه عند الضرورة.

ولا ينبغي أن أنسى أن المتوسط كان فكرتنا المدرسية الأولى. في درسنا الجغرافي الأول في الصفوف الابتدائية، في المدرسة المغربية (وأنا أولا وقبل كل شيء إبن للمدرسة العمومية)، تعلمنا أن البحر الأبيض المتوسط يحد المغرب شمالا، أي أنه بعد أساس من أبعاد الجغرافيا المغربية، وفهمنا مبكرا أنه مكان تاريخي من الأمكنة الأكثر تداولا في دروس تاريخ المغرب، ورسمنا المتوسط مرارا باللون الأزرق حين كنا نتعلم كيف نرسم خريطة المغرب ونحن صغار في المدرسة، في مسقط رأسي في مدينة أبي الجعد.

ولكن علاقتي مع المتوسط ستتعزز مع الوقت، من خلال القراءة والسفر والمشاهدة والمتابعة، وستصبح الجغرافيا المتوسطية حاضرة بقوة في فكري وحساسيتي ووجداني من خلال دراساتي الجامعية في باريس، والعلاقات القوية التي أصبحت لدي في الأوساط الطلابية، ومنها طلبة مغاربيون وفرنسيون وإسبان وإيطاليون ويونان وغيرهم. ففي الجامعة الفرنسية، وفي باريس بالخصوص وفضاءاتها العلمية والأكاديمية والإعلامية وتظاهراتها الثقافية والفنية والسياسية، لا يصبح المتوسط وحده أقرب إلى الطلبة بل ينفتح الأفق كله على العالم المعاصر.

هناك، لا يبقى الفضاء المتوسطي مجرد جغرافيا بحرية، وإنما يصبح معرفة وموضوع معرفة.

هناك كذلك، تلتقي المرجعيات الفكرية والفلسفية والاقتصادية والاجتماعية المتوسطية مع مخزون الذاكرة والتكوين الذاتي الذي حملته معي من المغرب المفتوح على المتوسط، وعلى المحيط، وعلى الصحراء، وعلى الأفق المغاربي.

وكما سبق لي أن أشرت في مناسبات سابقة، وبالخصوص في درسي الافتتاحي في أكاديمية المملكة المغربية (2021)، فإن فكرة المتوسط تبدو لأول وهلة قادمة من إحساس بعيد. ولكن التشبع العلمي بهذه الفكرة يتخطى بسرعة الإحساس الرومانسي ليتحول المتوسط إلى مفهوم علمي متعدد الأبعاد، مفهوم جغرافي، تاريخي، سوسيوثقافي، سياسي، اقتصادي واستراتيجي، أي يصبح تمثلا معرفيا كاملا. وبالتالي لا يبقى مجرد تمثل شخصي أو نتاج ذكاء فردي، حصوصا وأن المرء – كما يقال – لا يكون ذكيا بمفرده (On n’est pas intelligent tout seul) بل ينبغي أن يتعلم ويقرأ ويقارن ويختبر الأفكار والتجارب بعضها مع بعض، ولابد أيضا أن يراجع ويعدل ويصحح ويصوب باستمرار. وبذلك فقط يتحقق المتوسط بوصفه فضاء وذاكرة، واقعا واستعارة، جغرافيا سياسية بل يصبح المتوسط قارة ذهنية وبسيكولوجية قائمة الذات تتجلى في جميع مظاهر وتعبيرات حياتنا كمتوسطيين، كمغاربة بروافد حضارية وثقافية واجتماعية ودينية متوسطية، إلى جانب مكونات وروافد أخرى بطبيعة الحال نص عليها موضوع دستور بلادنا سنة 2011.

إن الاسم ذاته الذي نطلقه على هذا البحر لم يكن بريئا ولا محايدا. ولم
يكن دائما واحدا أو موحدا عبر تاريخ الاستعمالات. وكما تعرفون، فإن
(La méditerranée) أي “البحر الذي يتوسط الأراضي”  يسمى بحرنا
(Mare Nostrum) بالنسبة للرومان، والبحر الأكبر بالنسبة للعبرانيين، والبحر الأبيض بالنسبة للأتراك العثمانيين في جنوب بلادهم بينما يقابله بحر أسود في شمالها. وأكثر من ذلك، هناك من أشار إلى أن قدماء المصريين كانوا يسمونه “الأخضر الكبير”. وكما قال فرنان بروديل، فإن المتوسط هو “ألف شيء في الوقت نفسه، وليس منظرا واحدا بل مناظر لا تعد، وليس بحرا واحدا، وإنما هو متتالية من البحار، وليس حضارة واحدة، ولكنه حضارات متراصة بعضها فوق بعض”. وحتى على المستوى الجغرافي، لم تتوقف حرب الجغرافيا حتى اليوم عن مراجعة الخرائط والجهات، فالمتوسط جهة تضم جهات فرعية  : جنوب شرق أوروبا، أفريقيا الشمالية، المغرب الكبير، المشرق العربي أو يصبح في لغة سياسية أخرى هو : أوروبا، شمال أفريقيا والشرق الأوسط.

إذن، هذه الأسماء ليست مجرد تسميات مجانية في تاريخ المتوسط، وإنما كانت تعبيرا عن منافسات وصراعات ومحاولات هيمنة من هنا أو من هناك. كانت في العمق حرب خرائط وصور جغرافية وهي حرب لا تزال متواصلة حتى اليوم. فالخرائط والأطالس والمعاجم والموسوعات تلعب دورا ثقافيا وعلميا وبيداغوجيا بالتأكيد، لكنها تعبر عن المؤسسات التي تنتجها وإرادات الدول التي تأمر بإنجازها وترعاها، وتصبح خرائط للمتخيل الجماعي، وتتحول إلى تعبيرات وكليشيهات يومية تؤثث خطابنا وتؤثر في أفكارنا ومواقفنا.

وقد أبالغ قليلا أو كثيرا، فأزعم أننا لم نقرأ، بما يكفي وكما ينبغي، التصورات الخرائطية المتوسطية المعاصرة، سواء منها تلك التي تنتجها بعض الدول المطلة على المتوسط : الأوروبية وضمنها التركية بالطبع، أو الخرائط الاستراتيجية الكبرى التي تشبه الرسم على الماء (أقصد الأمريكية والصينية والروسية مثلا). بمعنى أن علينا أن نتخفف من الرؤية الأوروبية التقليدية للمتوسط، وأن ننصف تاريخنا الجغرافي العربي الإسلامي ومنه تراثنا الجغرافي المغربي الهائل الذي يتجسد في الصور الذهنية الجغرافية والخرائط التي رسمها الجغرافيون والرحالة وفي مقدمتهم الشريف الإدريسي وابن بطوطة والحسن الوزان (Léon l’Africain). والحق أن بعض المؤرخين والجغرافيين والباحثين ينسون أن التسمية العربية للمتوسط (بحر الروم) حين أطلقها العرب كانوا يفكرون أساسا في جيرانهم البيزنطيين المسيحيين، وحين غدا اسم المتوسط ثابتا على ألسنتهم وفي كتاباتهم التاريخية والجغرافية لم يكونوا فقط يفكرون كالجرمان في أنه “بحر بين الأراضي”، أي بين ثلاث قارات (أوروبا وأفريقيا وآسيا)، وإنما في كونه بحرا يتوسط مساحات حضارية وثقافية متعددة من داخل البحيرة المتوسطية ومما يعبرها أيضا.

ورغم أنني أعتبر نفسي في تاريخ المتوسط من المعجبين بإنتاج فرنان بروديل Fernand Braudel، أتساءل دائما لماذا أهمل المؤرخ الفرنسي الكبير الذي كان أهم وأبرز المؤرخين الذين أولوا اهتمامهم العلمي ووهبوا حياتهم
كاملة للمتوسط وللتاريخ المتوسطي، أقول لماذا أهمل أهمية وثقل الحضور السكاني للمسلمين في المتوسط ؟ ولماذا قلل من إدراك العرب والمسلمين لهذا البحر، لا بوصفه مساحة مائية، وإنما فضاء ممتدا في الجغرافيا وفي المتخيل حققوا فيه عددا من الفتوحات وعمليات الانتشار وإعادة الانتشار، خصوصا عندما كان العالم بالنسبة إليهم قارات ثلاثا فحسب !

ما من شك في أن بروديل أحب المتوسط، وتشبع به علميا في حقل التاريخ، لكن علينا ألا ننسى أن منطلقه في ذلك كان بالأساس في الجزائر، المسماة آنذاك بـ “الجزائر الفرنسية” إبان المرحلة الكولونيالية. فقد تم تعيينه أستاذا للاجتماعيات في إحدى إعداديات مدينة قسنطينة قبل أن يعين من جديد في ثانوية في الجزائر العاصمة. وبرز لأول مرة كمؤرخ سنة 1930 في المؤتمر العلمي الكولونيالي الذي انعقد في الجزائر بمناسبة مرور مائة سنة على احتلال الجزائر في 1830، وشارك فيه عدد وافر من الباحثين الفرنسيين، سواء منهم غلاة الكولونياليين أو بعض المتنورين مثل شارل أندري جوليان وبروديل نفسه الذي كان قد بدأ يقترب من مدرسة الحوليات (Les annales) الفرنسية التي أسسها في ستراسبورغ كل من لوسيان فيـڤر (L. Fèbvre) ومارك بلوك (M. Bloch) بل وكان محسوبا فكريا على المرجعية الاشتراكية الديموقراطية. وكان واضحا ما أبداه، في ذلك السياق، من أسف لضعف الدراسات حول الوجود الفرنسي في كل من المغرب وتونس بينما تم إهمال ما سماه بـ “قضايا الأهالي (Les indigènes)” التي كانت تستحق في نظره عناية علمية أكبر وأعمق. ومع ذلك، لم نجد في قائمة انشغالاته العلمية اهتماما بالمجتمع المسلم، كما كان يسمى، ولا أدنى إشارة إلى الأحداث والمجازر الاستعمارية التي ارتكبت آنذاك. بمعنى أنه كان في طور التكوين وبناء شخصيته العلمية مثلما كان يدرك المسموح به في ظل إبدالات (Les paradigmes) تلك المرحلة.

وإذن تبلورت  في ذهن بروديل فكرة أطروحته حول المتوسط، في صيغتها الأولى، عندما كان لا يزال أستاذا في الجزائر. والأصل في هذه الأطروحة هو مداخلته في مؤتمر 1930 حول “إسبانيا والشمال الأفريقي بين سنتي 1492 و1557″، وهي مداخلة – علي أن  أقول ذلك – لم تعبر عن نمط تفكير جديد ومختلف.

ولعلنا في حاجة اليوم ربما – وهذه إحدى مهام مؤرخينا المغاربة ذات الأولوية – إلى القيام بزيارة نقدية من جديد إلى مكتبة بروديل دون أن يعني ذلك مطلقا تبخيس أهمية مشروعه التأريخي الذي جدد به، بتكامل مع مشروع زملائه في “مدرسة الحوليات”، آليات الكتابة التاريخية.

وباختصار وفي العمق، فقد اعتبر بروديل أن “المتوسط بحيرة غربية  حيث الإسلام فيها دخيل”، إذ يظل بالأساس من فعل الصحراء، مكانه الأصلي، ويبقى “مضادا للمتوسط” في آخر المطاف*. وفي نظره، فإن “قلب الإسلام هو الفضاء الضيق من مكة إلى القاهرة، إلى دمشق وإلى بغداد، فالإسلام هو الشرق الأدنى  (Le proche-Orient)”، لينضاف بروديل بذلك جوهريا إلى عدد من المؤرخين والرحالة والأدباء والدارسين في القرنين التاسع عشر والعشرين الذي ظلوا ينظرون إلى المتوسط كبحر خاضع للهيمنة الأوروبية. وهي نظرة تكشف عن نقص خاص لدى بروديل في الوعي بالحضارة وقيمها وأصولها. وعلى كل حال، في كتاب للتاريخ، من 300 صفحة يخصص منها بروديل 60 صفحة للمحيط الجغرافي بينما تظل الإشارات إلى البعد الحضاري قليلة وضحلة. وسوف لا ينتبه إلى هذا النقص إلا متأخرا جدا في كتابات لاحقة ومتفرقة بدءا من سنة 1977.

وكاقتصادي، ينبغي أن أقول ذلك، كان للرجل أفق فكري واسع يجعلك تقرأ تاريخه، متوسطه إن شئنا القول، فتجد نفسك تقرأ تاريخا سياسيا، وتاريخا اقتصاديا، وتاريخا اجتماعيا، وتاريخ العلوم والفنون والآداب والذهنيات. ولكن هل كان هذا التاريخ شيئا آخر غير تاريخ “مدرسة الحوليات” ؟ تلك المدرسة الحديثة في كتابة التاريخ التي كان ينظر إلى مجلتها (الحوليات Les Annales) كمنبر نضالي بحساسية تقدمية يسارية في ظل ركود الإسطغرافيا الفرنسية المحافظة، وبأفق اقتصادي اجتماعي ثقافي كان يجد في نفسي كطالب وفي نفوس أبناء جيلي مكانا خاصا من الإعجاب والتفاعل والامتنان.

ولكن ما هو أبعد من اجتهادات بروديل أو غيره من مؤرخي المتوسط والباحثين المعنيين بالشأن المتوسطي هو كيف نعيد النظر، بصفة عامة، في تمثلاتنا (les représentations) للمتوسط التي تقادمت، وبالخصوص كيف نتخطى “أسطورة المتوسط” المهيمنة في الذهنيات السائدة، والتي تشكلت عبر مسار تاريخي معين متعدد الأبعاد، ومن خلال ما راكمته بعض التعبيرات الفنية التي ظلت تحتفي بالمتوسط، بجغرافيته وفضاءاته وموانئه وحواضره.

لابد أن أقول إن المتوسط الراهن كتصور أو كمفهوم شكله الشمال المتوسطي أساسا، وقد تساءل البعض* عما إذا لم يكن هذا التصور الأوروبي للمتوسط سببا من أسباب فشل الاندماج الجهوي الأورومتوسطي، وأنه حان الوقت لمراجعة هذه النظرة الأسطورية إلى متوسط افتراضي وإعادة الأسطورة المتوسطية إلى حجمها الطبيعي، ولم لا التوجه نحو بناء جديد لنموذج متوسطي جديد يأخذ بالاعتبار الرحم الحضارية لهذه المنطقة، ومسارها التاريخي والثقافي والاجتماعي، وخصوصياتها الجغرافية السياسية والاستراتيجية، والتفكير في مستقبلها بمنظور شمولي.

اليوم، أصبحنا نعيش في المتوسط سيرورة اقتصادية تكنولوجية، سياسية، اجتماعية وثقافية دولية مندفعة، سيرورة العولمة في بعدها الجديد، والتي انطلقت ثم انتشرت خلال النصف الثاني من القرن العشرين، خصوصا في أعقاب نهاية الحرب الباردة.

وكما نعلم في علم الاقتصاد، تتميز العولمة باندماج الاقتصاديات المحلية في اقتصاد السوق العالمية حيث تتواجد مختلف أنماط الإنتاج، وحيث يتم تشكيل وتكوين حركات وتنقلات رؤوس الأموال على نطاق دولي شامل. ويتم ذلك عن طريق الدور المحوري الذي تلعبه الشركات متعددة الجنسيات والتنقلات الحرة للأموال المواكبة لتطور مجتمع الاستهلاك.

أنصار العولمة يعتبرونها توفر فرصا كبيرة أمام التحديات الكبيرة للتنمية الحقيقية لمختلف بلدان العالم، إذ عرفت الدول التي أنجحت اندماجها في نظام العولمة تطورا سريعا على المستوى الاقتصادي، وكذلك على مستوى التقليص من معدلات الفقر. على سبيل المثال، وبناء على تطبيق فعلي لسياسات الانفتاح على الخارج، فإن أغلب دول شرق آسيا التي كانت مصنفة ضمن الدول الفقيرة جدا في العالم قبل أربعين سنة أضحت دولا ذات دينامية وازدهار كبير. إضافة إلى ذلك، وفي سياق تحسن ظروف العيش، فقد كان من الممكن العمل على تطوير وتقدم السيرورة الديمقراطية، والاقتصادية، وكذلك التقدم على مستوى مختلف الإشكالات المتعلقة بالبيئة وظروف العمل.

وكما هو متوقع،  فإن العولمة التي جعلت من فضاء المتوسط مختبرا لتداعياتها، وكذا مجمل التحولات الكبرى الجيوسياسية والجيواقتصادية، كان مآلها تعميق الفوارق لا الداخلية فحسب بين الأغنياء والفقراء، وإنما بين الشمال والجنوب كذلك، فتلاشى التضامن الحقيقي مع بلدان الجنوب، وتعسكرت العلاقات الدولية فأصبحت مجتمعاتنا قائمة على هاجس الخوف لا على نعمة الثقة، وبرزت ظواهر طفيلية خطيرة كالعنف والجريمة المنظمة وتهريب البشر والمخدرات والأسلحة، وانتشرت الشعبوية التي أضحت تعمق القلق وتشيد المزيد من الجدران النفسية التي تفصل بين الهويات والثقافات والجنسيات. وهناك تراجعات مرعبة على مستوى الأفكار والمفاهيم (مفهوم الدولة، مفهوم الأمة، مفهوم الحرية، مفهوم العقل…). كما تحولت بقايا الحرب الباردة من أوروبا إلى الشرق الأوسط صوب سوريا، العراق، اليمن، وليبيا كذلك، ما جعل القرن الواحد والعشرين قرن القطائع بامتياز، وهو ما يشير إلى بروز تقاطبات جديدة في المحيط الهادي، وربما انبثاق عالم جديد من آسيا. وهو ما يساعد على فهم تراجع المتوسط كقطب اقتصادي مؤثر، وكمرجع كوني فكري حضاري وسياسي ليصبح تدريجيا جدارا بدل أن يكون جسرا للتواصل والحوار بل أصبح مرتعا لحروب أهلية مدمرة فرضت نفسها نتيجة هذه التداعيات الخارجية وتلاقيها مع مجمل الأسباب الداخلية.

والأخطر أن التصدعات الاقتصادية والاجتماعية التي تخترق المتوسط وتبعد ما بين بلدان الشمال الأوروبي عن البلدان المتوسطية النامية في جنوب وشرق المتوسط إلى حد أننا رأينا بلدانا تتساقط مرتكزات نظامها الاقتصادي والمالي وبلدانا أخرى تواجه شبح الإفلاس.

ونحن عندما نتأمل ظاهرة الهجرة والهجرة غير النظامية في المتوسط عبر خطوطها واتجاهاتها المتعددة، ندرك كيف تحول المتوسط إلى مختبر عالمي في هذا الإطار. فالأسباب متعددة، منها ما هو جغرافي، ديموغرافي (سكاني)، سوسيو-اقتصادي، تاريخي، أمني، مناخي من بين أسباب أخرى كثيرة. ولا تعتبر روافد الهجرة في هذه المنطقة حصرا من وإلى البلدان المتوسطية. وبالتالي، فإضافة إلى نوعيتها كمواطن للهجرة الصادرة (émigration)، تعتبر بلدان الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط فضاءات لعبور الهجرة بالنسبة لمهاجرين منحدرين من بلدان غير البلدان المتوسطية في الضفة الجنوبية.

من جانب آخر، أضحت آثار التقلبات المناخية كفيلة بتضخيم جوانب الأزمات المشار إليها، مع أثر مضاعف. حيث ستتقوى المشاكل الموجودة في بلدان الجنوب تحت تأثير الاحتباس الحراري الكوني الذي يؤثر بالأساس على مناطق النصف الجنوبي للكرة الأرضية، الذي يحتضن 3 مليارات من الساكنة العالمية. ومن الواضح أن قارتنا الإفريقية وكذا الشرق والمحيط الهادي والجنوب الآسيويين من المناطق التي ستتعرض لأسوأ التأثيرات المناخية.

سيؤثر الاحتباس الكوني كذلك على الصحة العمومية لساكنة الدول النامية. وتتوقع التقديرات في المستقبل ارتفاعا للأمراض والأوبئة والوفيات الناجمة عن الأمراض المعدية الناتجة عن موجات الحرارة والجفاف، من بين أسباب أخرى.

وطالما أن الدول النامية تعوزها الوسائل المالية والتكنولوجية الضرورية للتكيف مع تأثيرات التغيرات المناخية، وعلى الرغم من أن سياسات التخفيف يمكنها أن تبلغ نجاحا ما في المدى المتوسط والبعيد، ستبقى كمية كبيرة من الغازات الدفيئة دوما متركزة في الغلاف الجوي وستستلزم عقودا لكي تتلاشى. إذن، سيستمر عدد معين من التأثيرات المناخية في أفضل الحالات، وتزداد حدة الحاجات للتأقلم تبعا لذلك، ما يخلق هجرة أخرى بيئية نحو بلدان المنطقة الأورو متوسطية. ومن الآن أصبحت الهجرة البيئية ورهاناتها تتطلب اهتماما متناميا في أجندة السياسات العمومية الوطنية والدولية.

وفيما يهمنا نحن، في المغرب، فيعد تدبير إشكالية الهجرة متسما بالواقعية، محترما لحقوق الإنسان وآخذا بعين الاعتبار واجب التضامن. وخلف هذا التبصر، هناك وعي بأن حركية الساكنة في الفضاء وعبر العصور، تخضع لمنطق طبيعي من التنظيم الذاتي، وأن مقاربة شاملة وعقلانية لهذه الظاهرة من شأنها أن تبين أوراقها الرابحة أكثر من إكراهاتها.

وتقدر الجالية المغربية المقيمة في الخارج ب 4.5 مليون نسمة، ما يعني أن 1/7 من المغاربة يعيشون في الخارج. هذه الظاهرة قديمة وحديثة في آن واحد. حديثة لأنه في سنة 1998، لم يكن مغاربة العالم يتجاوزون 1.7 مليون شخص. كما أنها قديمة لأن الشعب المغربي، الذي يتميز بكونه متعددا ولايتجزأ، اغتنى عبر القرون بروافد وإسهامات متنوعة مدعوما بتموقعه الجغرافي، في ملتقى القارات.

والمقلق أكثر أن الحديث الذي يطفو من حين لآخر عن أن المتوسط يظل “بحيرة سلام” تكذبه أسباب التوتر التي لا تتوقف، وبالخصوص التطورات المؤسفة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي بكل أبعادها التراجيدية والدموية الخطيرة، وكذا السباقات إلى التسلح وما يرصد لها من ميزانيات ضخمة متزايدة. ففي سنة 2019، تجاوزت الاستثمارات العالمية في مجال الدفاع 1،9 مليار دولار وهو رقم قياسي جديد، منها 54% لفائدة الحلف الأطلسي، وهي نسبة تفوق مجموع ما رصدته وصرفته الصين والهند وروسيا.

ومع ظهور وباء كورونا – كوفيد 19 – بدا أن عددا من المحللين قد بدأوا يتفاءلون من أن القوى الكبرى ومعظم البلدان المنخرطة في سباق التسلح ستنهج نهج التضامن الإنساني في مواجهة الأزمة الصحية المقلقة، وستعيد النظر في موازنات التسلح والحد من هذا السباق المكلف سنويا، لكن هذه الأماني والتطلعات سرعان ما أصيبت بالخيبة. فقد بدا واضحا أن السباق لم يتوقف بل عكس المتوقع ارتفعت الأرقام.

هكذا نجد أنفسنا اليوم أمام متوسط مغاير تماما، ولم نعد أمام المتوسط الذي كان مجرد مقولة (Catégorie) محددة في أذهان الجميع بل صرنا أمام مفهوم متعدد للمتوسط خلقته تمثلات متعددة، متناقضة غالبا، دون أن تكون متلائمة بالضرورة مع التجربة، تجربة الواقع وتجربة المتوسط وتجربة العالم. وبالتالي فالواقع لم يعد هو الواقع. وأكثر من ذلك، فالنظرة الجيوسياسية القديمة تغيرت. لقد كانت هذه النظرة تعنى برصد وتحليل مختلف المنافسات بين الدول حول جغرافيا معينة، وتشترط أو تفترض أن هناك أرضا حقيقية أو فضاء ملموسا يجري التنافس حوله قصد السيطرة عليه وعلى مقدراته. فكرة الأرض هذه التي كان لابد منها ليتحقق كل تحليل جيوسياسي سليم، اتسعت لتشمل اليوم أشكالا جديدة من الأراضي الافتراضية كالفضاء السيبرني (Le cyberspace) والأنترنيت وما إلى ذلك، فضلا عن المنافسات من أجل الهيمنة الاستراتيجية والاقتصادية والسيطرة على المساحات والمجالات الحيوية، والتحكم في مسارات التبادل التجاري والعلمي والطبي … وما شابه ذلك.

المتوسط نفسه لم يعد يعني اليوم ما كان يعنيه في الماضي، أي بلدانا تطل على هذا البحر وتقـتسم مياهه وخيراته ومسالكه. فلدواع استراتيجية وجيوسياسية وأمنية، هناك دول متوسطية اليوم لا تطل بالضرورة على المتوسط ولا تحاذي سواحل ومياه المتوسط، وانتقل عدد الدول المتوسطية من اثنين وعشرين دولة إلى أكثر من ذلك بالحديث عن مناطق وجزر وحتى دول من خارج المتوسط لها عضوية بشكل أو بآخر في المتوسط (البرتغال، الأردن، موريطانيا…).

وفي تقديري، فإن “إعلان برشلونة” سيبقى أفقا للتفكير والمبادرة والعمل المشترك رغم أنه ظل ومازال يواجه مصاعب جدية بسبب الوضع في الشرق الأوسط وتداعياته وتوتراته وانفجاراته التي لا تتوقف، فضلا عن حالة الركود التي ظلت متواصلة لفترة طويلة، إلى أن جاءت قمة رؤساء دول وحكومات المجموعة الأورو-متوسطية (قمة باريس 2008) التي وضعت تصورا جديدا وفق مقترح الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي بإنشاء “الاتحاد من أجل المتوسط” (UFM) الذي واجهته بدوره حالات من الانكماش وضعف المبادرة وانعدام الجرأة ومحدودية الالتزام السياسي، فضلا عن استمرار تداعيات أزمة الشرق الأوسط والأوضاع الاقتصادية والأمنية والاجتماعية والسياسية، إن في شمال المتوسط أو في جنوبه، خصوصا في المنطقة المغاربية التي ظلت خاضعة لعناد غريب لا منطق له سوى خلفيته البسيكلوجية والذاتية لدى البعض. وطبعا نحن نعرف الكلفة العالية لاستمرار عرقلة بناء اتحاد مغاربي حتى الآن، وهو ما عبر عنه عدد من القادة المغاربيين، كل بطريقته، وكان من الأوائل جلالة الملك محمد السادس والرئيس التونسي الأسبق السيد منصف المرزوقي أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة.

لقد أصبحنا اليوم أمام واقع جديد، وفي مواجهة إشكالات ومعضلات وتوترات بل وأمام أنظمة سياسية جديدة في جنوب المتوسط ؛ تقريبا أصبح المتوسط أمام شبه قطيعة مع ما طبع المنطقة من توازنات سابقة، وأمام إبدالات مختلفة (des paradigmes) في إنتاج الخطاب والأفكار، وفي اقتراح المشاريع والمبادرات. كما أصبحنا في حاجة إلى سياسة أورومتوسطية جديدة وشجاعة لمواجهة هذا الواقع الجديد، والتفكير في حلول جريئة للصراعات القديمة الجديدة، خصوصا الصراع العربي الإسرائيلي، وقضية وحدتنا الترابية، الوضعية الليبية، الوضعية في سوريا وغيرها. هذا فضلا عن متطلبات القرن الواحد والعشرين الأمنية والرقمية، وأسلحة الدمار الشامل والحد من التسلح، ومخاطر الإرهاب، والتطرف الديني والفكري، والفساد الاقتصادي والسياسي، والهجرة غير المنظمة وتنامي العنصرية والشعبوية واستقواء اليمين المتطرف.

فالمشروع المتوسطي، المشروع الأورومتوسطي، لا يمكنه أن يكون إلا مشروعا إنسانيا وحضاريا وسلميا، مشروعا مستقبليا وعقلانيا ينتصر لإبن رشد لا للـتهافت الفكري ؛ للعقل الأرسطي، للتعدد الثقافي واللغوي لا للانغلاق والمحلية ؛ للحوار الحضاري وتحالف الحضارات لا لصدامها ؛ للانفتاح وحرية التنقل وتدبير تدفقات الهجرة لا للنزعات الحمائية اليمينية والإمعان في خطط التأثيرات
المتشددة ؛ لتكامل الاقتصادات لا لتناحرها الجشع ؛ للتنمية العلمية المتبادلة والنشر العلمي المشترك وتكامل الكفاءات في البحث والابتكار والتعاون الأكاديمي والجامعي لا لهجرة الأدمغة وترحيل الأطر وتبخيس الحساسيات لدى مثقفينا وباحثينا ومبدعينا وفنانينا.

علي أن أقول، على سبيل الختم، إن المتوسط كان دائما بالنسبة إلى المغرب لا مجرد واجهة بحرية، وإنما كان ومازال يخترق كياننا الوطني كله وسيظل. وقد كان جلالة الملك محمد السادس منذ أكثر من عشرين سنة اعتبر أن المغرب يتنفس من خلال ثلاث واجهات: المتوسط، والأطلسي والصحراء. والواقع أن تاريخ المغرب تأثر بالمتوسط في الشمال وبالصحراء في الجنوب، ويمكن أن نلاحظ الآن أن هناك ربطا جدليا بين استرجاع الصحراء المغربية والانشغال بالمتوسط و الأطلسي، الذي بدوره يجب الاهتمام به بشكل خاص خصوصا، بعد خطاب جلالة الملك الموجه  إلى الأمة بمناسبة الذكرى 48 للمسيرة الخضراء ؛ فالمغرب عزز واجهته الأطلسية باستكمال وحدته الترابية، وعزز هذه الواجهة أيضا عمقه الإفريقي وتواصله مع ساحله الغربي. ولم يقف جلالته عند هذا الحد، بل اقترح إطلاق مبادرات على المستوى الدولي تهدف إلى تمكين دول الساحل من الولوج إلى المحيط الأطلسي، مضيفا أن: “نجاح هذه المبادرة يبقى رهينا بتأهيل البنيات التحتية لدول الساحل. ” إذ أصبح المتوسط والأطلسي معا محركا اقتصاديا قويا من خلال تركيز الاهتمام على قطاعات حيوية واعدة في الشمال، فضلا عن القيمة النوعية المضافة التي تحققت بفضل العودة إلى البيت الأفريقي، إذ أكد المغرب على مواصلة دوره الحضاري والثقافي جسرا للتواصل بين الشمال والجنوب، جسرا للحوار والتلاقح والتثاقف، جسرا لامتداد الرمزيات والأفكار والمعاني المشتركة.

شكرا على حسن تتبعكم

* Voir : Claude Liauzu : La Méditerranée selon Fernand Braudel , CONFLUENCES Méditerranée – n°31 – Automne 1999 – p.186.

*  voir : Jean-Yves Moisseron, Manar Bayoumi : la méditerranée comme concept et représentation, in Revue Tiers Monde , n° 29, janvier-mars 2012 – p.180.


الكاتب : الحبيب المالكي

  

بتاريخ : 17/11/2023