البحث عن لقمة عيش يحرم الرضع من حليب الأمهات الموظفات والمستخدمات

في ظل انعدام مرافق خاصة في فضاءات العمل لاحتضان الصغار والاهتمام بهم

تعيش العديد من الأمهات المرضعات معاناة على أكثر من مستوى، خاصة منهن الموظّفات والمستخدمات والعاملات في مختلف القطاعات، اللواتي تفرض عليهن ظروف العيش والسعي وراء القوت اليومي، الابتعاد عن رضّعهن لساعات طويلة خلال اليوم، مما يحرم هؤلاء الصغار من حليب الأم ومن حنانها ومن الرابطة التي تزيد متانة وقوة خلال عملية الإرضاع، ويعجّل بالتوجّه نحو الرضاعة الاصطناعية التي تصبح بديلا، رغم كل الجهود التي تُبذل من أجل منح الرضيع ولو الحدّ الأدنى من حليب الأم.
وضعية تستفحل حدّتها يوما عن يوم، لأن الهجرة نحو الرضاعة الاصطناعية ليست بالضرورة اختيارا أو «موضة» كما هو شائع، وكما ترغب في ذلك العديد من النسوة اللواتي يضعن أجسادهن وقوامهن فوق كل اعتبار، فهناك أمهات يكابدن بالفعل المشاق لأجل عدم حرمان فلذات أكبادهن من حليب طبيعي. نساء يستيقظن في الساعات الأولى من صباح اليوم، خاصة اللواتي يشتغلن بعيدا عن مقر سكناهن ويتطلب تنقلهن وسيلة مواصلات أو أكثر، فتقوم كل واحدة منهن بسحب الحليب من ثديها، بشكل يدوي أو بالاعتماد على آليات كهربائية، وتضعه في الثلاجة للحفاظ عليه، ثم توصي من سيظل في البيت، أمّا كانت أو جدّة أو بنتا، إذا ما توفرت هذه الإمكانية لكي تقوم بمنحه للصغير متى استفاق وعلت صرخاته أرجاء البيت طلبا للرضاعة.
حليب على المستوى الكمّي، لن يشفي غليل الرضيع بكل تأكيد، خاصة إذا ما كانت عودة والدته لا تكون إلا مساء، فبعض النسوة لا يرجعن إلى بيوتهن، خاصة المستخدمات في معامل ومرافق تجارية وغيرها مختلفة، إلا بعد غروب الشمس، عندما تتجاوز عقارب الساعة الثامنة أو التاسعة، حسب نوعية العمل وبعده الجغرافي. بالمقابل تكون وضعية عدد الموظّفات أقلّ حدّة، بحكم التوقيت الإداري، والاستفادة من ساعة للرضاعة، التي كفلها القانون للمرضعات لمدة 24 شهرا، وفقا للقانون 30.22، الذي جاء ليرفع سقف الترخيص الذي كان محددا في 18 شهرا في السابق، والتي تظل رغم ذلك غير كافية، خاصة إذا ما رغبت إحدى الأمهات في تقسيمها ما بين الفترة الصباحية والزوالية، الأمر الذي لا يتأتى خاصة في مدن كبرى، تعيش الاكتظاظ والاختناق المروري الذي يحوّل حياة سكان المدينة إلى جحيم بسبب حجم الضغط والتوتر والسعي للتوفيق بين المتطلب الأسري وواجب الأمومة والواجب المهني؟
وضعية مقلقة، تؤكدها لغة الأرقام التي تصدرها وزارة الصحة والحماية الاجتماعية، التي أكدت في هذا الإطار أنه وفقا لآخر مسح وطني للسكان وصحة الأسرة لسنة 2018، لا تمارس الرضاعة الطبيعية المبكرة خلال الساعة الأولى بعد الولادة على المستوى الوطني إلا بنسبة 42 ٪، وتبين المعطيات الرقمية كذلك أن 35 ٪ فقط من الأطفال يستفيدون من الرضاعة الطبيعية الحصرية. وإذا كانت الوزارة وبتنسيق مع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية قد أطلقا حملة منذ الخامس من يونيو والتي ستمتد لمدة شهر إلى غاية الخامس من يوليوز لتشجيع الرضاعة الطبيعية فإن هناك العديد من الإكراهات الفعلية التي تعترض سبيل الحفاظ على هاته الخطوة، والتي لا يمكّن القانون في صيغته الحالية من تحقيق هذا الهدف، كما أن وضعية بنيات وفضاءات العمل، الفقيرة من حيث البعد الاجتماعي، والتي يتم النظر إليها بكونها ترفا وأمرا ثانويا، لا تقدّم أية قيمة مضافة، والحال أن كل بنية شغل، في القطاعين العام والخاص، يجب أن تراعي هذه الخصوصية وأن تحتضن فضاء خاصا بالرضع والأطفال الصغار، فهناك كثير من النساء الموظفات والمستخدمات اللواتي لا يتوفرن على من يمكنه المكوث مع صغارهن والاهتمام بهم، ولولا «التضامن الاجتماعي» في إطار «الأسرة المركّبة» لتعذر على الكثير من الأمهات الاستمرار في العمل، وهو ما وقع للعديد منهن فعلا، اللواتي اضطررن للانقطاع عن الشغل بسبب هذا الإكراه.
واقع يحبل بالإكراهات، ويتطلّب اليوم معالجة موضوعية، بعيدا عن الحملات العابرة، لأن الأمهات في حاجة إلى وقع عملي لكل المبادرات المسطّرة، يوفر لهن فضاء يضعن فيه صغارهن تحت المراقبة والمتابعة والاهتمام، خاصة وأن الرضاعة الطبيعية تحمي النساء من الإصابة بسرطان الثدي الذي يعتبر مرضا ثقيلا ومكلّفا للفرد والمجتمع على حدّ سواء، فيستطعن بذلك إرضاع الصغير كلّما كانت الحاجة لذلك في إطار زمني معقول، لا يؤثر على سير العمل، ويتيح كذلك الاحتفاظ بالأطفال إلى حين بلوغهم السن الذي يسمح بولوجهم إلى مؤسسات الروض، ويضفي المزيد من الأنسنة على مؤسسات العمل التي يكون الكثير منها فضاء لاستنزاف الطاقة والجهد والرفع من مستويات الضغط والتوتر عوض توفير الإمكانيات التي تتيح للموظف والمستخدم العمل بشكل يمنحه تحفيزا أكبر ينعكس إيجابا على حجم العطاءات والمردودية.


الكاتب : وحيد مبارك

  

بتاريخ : 13/06/2023