قصة : يوم الحفل الكبير في الحب والعزاء والسلوى

عبرنا الجدول فوق الحجر الذي لمعته الأرجل، الأحراش تتكاثف أمامنا وعلينا أن نتلمس طريقا صاعدا. القمة البيضاء ترى من كل مكان. والقبة الخضراء التي تحت الشجرة تجذبنا نحوها كالفراشات نحو الاحتراق. نحن نجذب إلى نواة الأشياء بالعناصر قبل الحس وقبل الوجدان، الحب من الحب وهو جوهر الثمرة ونواتها، وهو بذلك الفاكهة كلها، لونها وملمسها ولذتها، الحب هو كل شيء.
لم يمض زمن على فقدان عزيز، وما زال الحزن يغلبنا ويقوض ظهورنا، عندما تفقد غاليا تحزن وتنكمش روحك كأن نجمتك سقطت في بئر سحيق. بعد الفقد نبحث عن السلوى والنسيان ومن يأخذ بأيدينا نحو الخلاص. ربما الحياة كلها عبور من الفقدان نحو العزاء بالسلوان.
كلما عبرنا الجدول شعرنا أن شيئا ما كبيرا قد انقضى وأن آخر ينتظر. كنا نصنع المسلك ونغني ألحانا حزينة استبدت بنا. خرير الشلالات الصغرى يقوى شيئا فشيئا، وتغريد عصفور أو عصفورة ينعش الفضاء لبرهة جد قصيرة. العصافير تقل هنا في الشتاء.
وحده المشي يغسل كل شيء، الأحزان والمتاعب والمشاريع المؤجلة. عندما نمشي ننسى من أين جئنا ولا يهم إلى أين ذاهبون. وحده المشي يهم، يغسل المزاج وبعض الأحزان ونطلق العنان للمسير.
قالوا لنا عند الولي تنسى الأحزان، نتسلى بالسماع والرقص، ومراقبة الرعاة في النهار والنجوم في الليل.
عند الولي تدرك الحقائق العاطفية دون رقيب ودون حسيب، يأتيك العزاء الذي يقويك لتحارب غيلان الأعداء وغيلان النفس، عندما تجد من يحبك حقيقة تصبح فيلقا بمفردك، العزاء من العزة والقدرة على التقدم إلى الأمام.
وفي الشفق الأحمر مر سرب يمام وناح منادي: يا حبيبي تعالى ترى ما فعله الشوق بي …
وشققنا الأحراش ثم بدأنا في صعود الهول، ولا أحد يكلم أحدا، كنا متخاصمين.
عند كل عبور على الحجارة أتذكر الحياة على أنها عبور كبير، وأن الحجارة حيل تجاوز عقبات المرور. أفرح وأنقبض، وأحزن وأغني. كنت كلما مررت بحجارة الوادي أغني بما أوتيت من صوت مرتفع. وأحيانا أصيح وتردد التلال صياحي وأنتشي وقد أرقص، وقد أسقط كلية أو بقدمي في الطمي والماء.
الذي يهون المشي والصعود والوادي والأحراش، تلك القمة البيضاء.
لحسن الحظ أننا نتفق على المشي، على المشي وحده، أما ما دون ذلك فنحن متخاصمون وجد مختلفين ومتعارضين. الأبيض الذي أراه يعتبره أسود، والورد يفهمه شوكا، والنهار بالنسبة إليه ليل. لكن كنا نسير. وكان هذا الاتفاق يهون من كل شيء؛ من التعب والحر والوحدة وسوء الفهم والتفاهم.
عند نصف الجبل نستدير لنرى الوادي يخترق السهل والقرى المبثوثة هنا وهناك.
– لو أعرف كيف تكونت هذه المساكن أعطي نصف عمري. قال الرفيق.
– هي لا تستنسخ بعضها، منها ما بدأ بدار لرجل، ومنها ما غنمته قبيلة، ومنها ما أسكنه السلطان يحرس طريقه.
– أنت تعرف كثيرا من علوم الدنيا، ولكن تغيب عنك علوم الروح.
– ولماذا نقصد الولي.
وتابعنا السير بجنب شجر تين كثير تسقيه سواقي تدل على القرب من عمل الإنسان. لقد تجاوزنا الأحراش وانفتح مسلك أمامنا هو بدون شك للرعاة وقطعانهم.
-الفرق بيننا وبينهم سعة الرؤيا.
– صحيح الأولياء يسكنون الأعالي ليروا ما يحدث وراء الأفق.
وكذلك الفلاسفة، الأولياء والفلاسفة دينهم الإنسانية، وحتى وإن اعتنقوا طريقة احترموا الأخرى.
وأخيرا وصلنا الأرض المسطحة فوق الجبل، شربنا من ساقية ماء عذب وتبعناها حتى وصلنا العين والشجرة والضريح. ووجدنا القوم يعدون احتفالا ما. رشوا الأرض وفرشوا الفرش ومدوا الموائد الصغرى. وعلت الزغاريد المكان. انتشى صاحبي وأخرج من حقيبته وسائل التجميل وبدأ يتزين. وأنا أيضا بحثت عن شجرة وغيرت لباسي المترب بقفطان أبيض وعمامة صفراء وانتعلت بلغة رمادية، ومشيت بزهو.
استقبلنا الناظر البشوش بترحاب وقال:
– كل من وفد إلينا فهو منا.
ثم انحنى إلي وأسر: ليس هناك ولي ولا هم يحزنون، هنا نشفى بالمحبة، الناس محتاجة إلى التقدير، وهنا نحترم كل شيء؛ العصافير؛ والقطط؛ والأشجار؛ والنحل؛ والنمل، وما بالك بالإنسان.
أخبرت صديقي بما قاله الناظر فابتسم، وهو الذي يبست قسماته بالكآبة والعادة منذ زمان.
لبثنا تحت الشجرة أياما شعرنا فيها أن كل واحد يساوي الكون، وأن المحبة هي التي تبحث عنا وليس العكس.
ونزلنا بعد اليوم السابع التلة متيقنين أننا بحاجة البعض إلى البعض.


الكاتب : بن محمد الكستاني

  

بتاريخ : 29/05/2019