كفى من العبث على حساب المحاماة فهي من صميم العدالة

من مميزات رجال الدولة، في كل التجارب الإنسانية، أنهم بدبرون الشأن العام ويرسمون السياسات العمومية بمسؤولية وطنية، ويقدرون حجم المخاطر التي يمكن أن تترتب عن كل انزلاق قد يتسببون فيه، لأنهم بطبيعة شخصيتهم، يقدرون مصالح البلاد العليا التي هي المصير المشترك لجميع مكونات الأمة في حالتنا الوطنية، نعيش على إيقاع عبث سياسي، غير مسبوق، في التعاطي الحكومي مع مطالب المحامين وقضايا مهنة المحاماة، هذه المهنة الشامخة التي رسخت معها مكاسب قانونية ودستورية، أزعجت الكثير من مراكز القوى المتوجسة من وجود عدالة قوية صارمة وشفافة، قد ترفع سقف العبث بمصالح العباد والبلاد، ولقد وصل هذا العبث مداه مع ما أعلنته وزارة العدل بتنظيم امتحان ثان لمزاولة مهنة المحاماة، رغم أن الأقلام لم تجف بعد عن الحديث في ما جرى من وقائع الامتحان الأول، وعلى حد علمي، وفي علم الجميع أنه لم يحدث قط في عهد أي وزير للعدل في تاريخ البلاد أن تم الإقدام على تنظيم مبارتين لولوج المهنة في أقل من السنة، وكذلك الأمر في باقي بلدان العالم، دونما وجود حاجة موضوعية حقيقية تقتضي ذلك، اللهم إلا الإمعان في تكريس سياسة العبث تجاه مهنة المحاماة ومحاباة مجموعة من الشباب المناضلين الذين أربكوا بإضرابهم القوي عن الطعام، وإصرارهم على صمودهم في وجه استعلاء وزير العدل، الذي رفض الحوار معهم حتى تدخل على الخط كل من المجلس الوطني لحقوق الإنسان، وبعده مؤسسة الوسيط التي وصلت معهم آنذاك إلى اتفاق يقضي بفك الإضراب عن الطعام مقابل التزام الحكومة بإعادة تنظيم امتحان الولوج إلى المحاماة، وبصيغ استثنائية، خارج القانون، وقد نتفاجأ لاحقا ربما بوجود اتفاقات أخرى سيعلن عنها في وقتها، وكل شيء ممكن مع هذا العبث..
والمشكل في الموضوع الذي فجر كل هذا الغضب والقلق مما حصل ليس لأن المحامين يرفضون ولوج الشباب خريجي الجامعات المغربية إلى المهنة وممارسة المحاماة، وتعزيز صفوفها، بالعكس فذلك مفخرة للمهنة وللوطن، فكلنا أو أغلبنا ننحدر من الطبقات الشعبية ومن العالم القروي من الأطلس والريف والصحراء، ومن المغرب العميق، وحققنا ذواتنا في هذه المهنة الشامخة وأكسبتنا مكانة في المجتمع بفضل مقوماتها، وكذلك الأمر بالنسبة للزملاء المنحدرين من الطبقات الميسورة والأعيان. الجميع مؤمن في هذه المهنة بقيم الإنسانية والزمالة والمساواة.
وكل من يروج بخلاف هذا التصور فهو إما إنسان حاقد على المهنة، أو ظالم لأهلها، ولا يعلم حقيقتها وأدوارها، ولا يستحق أن ينتسب إليها وإلى تراثها الشامخ، وهذه المهنة بإمكانها استيعاب مختلف الطاقات الشابة المؤمنة بقيم الحرية والعدالة وقيم المحاماة، تحتاج فقط إلى تنظيم قانوني يليق بها، وتنظيم مؤسساتي يؤهلها لتكون في مستوى التحولات العميقة، التي يعيشها العصر، وكي تساهم في تقوية عدالة البلاد، كي تلعب أدوارها الحقيقية في تحرير المواطن من الخوف والاستبداد، وتجعله يوظف طاقاته وإمكانياته في تقدم الوطن ورقيه.
طبعا ما كان لهذا العبث أن يمر لو أن المؤسسات المهنية كانت في مستوى المسؤوليات الوطنية، الملقاة على عاتقها، وتعاملت بالجدية والصرامة مع مختلف الملفات، التي انشغل بها الرأي العام المهني، في مرحلة ما بعد الحجر الصحي، وما اتخذته الحكومة من قرارات أحادية من محاولة فرض الجواز الصحي على الولوج إلى المحاكم إلى استمرار المحاكمات عن بعد، عبر تقنية التناظر عن بعد، وما واكبها من إخلالات بشروط المحاكمات الحضورية العادلة إلى طرح مسودة مشروع قانون المهنة، إلى المستجدات الضريبية التي جاءت في قانون المالية، ثم إعلان الوزارة، بشكل انفرادي، عن تنظيم امتحان الالتحاق بالمحاماة، دون تنسيق أو تشاور مع المؤسسات الوطنية كما كان متعارف عليه سابق، في هذا الباب، وهو ما تسبب في انفجار أزمة كبيرة، وصلت إلى حد المطالبة
باستقالة وزير العدل في أكبر تظاهرة مهنية للمحامين، أمام وزارة العدل وقبالة مقر البرلمان، وبقيت فصول هذه الأزمة التي عشناها بكل مرارة في مؤتمر الداخلة، وما أسفر عنه من انزلاق وصدمات داخلية، وفي وجه الرئيس المنتدب للسلطة القضائية، الذي اضطر إلى عدم إلقاء كلمته الرسمية في الجلسة الرسمية للمؤتمر، هذا هو السياق المأزوم الذي ترتب عن طريقة التدبير السياسي للملفات التي تخص المهنة، وهي كلها على ارتباط صميم بالعدالة والعمل القضائي وحرية المواطنين وحقوقهم، والولوج المستنير إلى العدالة وترسيخ ضمانات المحاكمة العادلة.

أي أدوار بقيت للمؤسسات المهنية

من الأسئلة المتعلقة، والتي تعج بها الساحة المهنية، في ظل هذا الوضع المقلق على مصير المهنة، هو سؤال الثقة في المؤسسات المهنية.
هذه الثقة التي انفرطت واهتزت بشكل مخيف بسبب الأداء السيء لرئيس الجمعية وغيابه عن أهل المحطات القوية في الدفاع عن قضايا المهنة ومشاركته في تمرير العديد من المشاريع التي طرحتها عليه وزارة العدل، بشكل ترتب عنه تذمر كبير لدى الغالبية العظمى من المحاميات والمحامين.

الآن ما العمل؟

الآن والمرحلة هي مرحلة انتخابية بامتياز، حيث أن مجالس الهيئات الحالية لم يتبق من عمر ولايتها سوى أقل من 6 أشهر، لإجراء انتخابات مهنية جديدة لفرز مجالس جديدة ونقباء المرحلة المقبلة، وهي المرحلة التي تقتضي فتح نقاش عميق موضوعي يلامس الانتظارات الحقيقية للمحامين يعيد الثقة بالنفس والثقة في المؤسسات، كي تلعب أدوارها الحقيقية في إدارة الشأن المهني، وفي العلاقة مع المجتمع وقضاياه على اعتبار أن المحاماة كانت دائما في قلب المجتمع، ولم تكن منعزلة عنه، وأن تستعيد المهنة إشعاعها وريادتها الحقوقية والمدنية، باستقلالية، بعيدا عن كل النزاعات الانتهازية التي تسربت إليها وشوهت صورتها في المجتمع، وتستعيد المهنة قدرتها على ترسيخ قيم النزاهة والاستقامة التي تآكلت بسبب شيوع مظاهر الفساد ومظاهر الريع بكل أشكاله الظاهرة والمستقرة، والمهنة قادرة على النهوض من جديد، فهي كطائر الفينيق ينبعث من الرماد، فهي رسالة حية ومناضلة بطبيعتها، ولو كره الكارهون ورغم كيد الكائدين.


الكاتب : محمد المموحي

  

بتاريخ : 10/06/2023