لماذا انصرف المثقفون العرب عن كتابة مذكراتهم؟

 

قد تحمل الحرب الإسرائيلية الجارية علnى قطاع غزة  المفكر المغربي المعروف عبدالله العروي على التفكير في كتابة الجزء الخامس من مذكراته التي أصدرها مسلسلة بث فيها مواقفه ومعايشته لأبرز الأحداث العربية سياسياً وثقافياً على أربع حلقات زمنية (1967 ـ 1973)، و(1974 ـ 1981)، و(1982 ـ 1999)، و(1999 ـ 2007).
وكان العروي، الذي يعتبر أحد أبرز المفكرين العرب المعاصرين، أدلى بآرائه وخواطره التي سماها «خواطر الصباح» في شأن الحرب العربية- الإسرائيلية، وكتب في إحداها عام 1967، «بعد 19 سنة قضي الأمر وضاعت فلسطين بكاملها… نجحت خطة إسرائيل: حرب قصيرة وسلام مفروض».
العروي هو واحد من المثقفين العرب القلائل الذين اهتموا بكتابة مذكراتهم ليدلوا من خلالها بآرائهم حول ما عاشوه وعاصروه من أحداث مفصلية على المستوى الشخصي، أو يدبجون فيها شهاداتهم التوثيقية على العصر.
ويرى محللون أن أسباب انصراف المثقفين العرب إلى كتابة مذكراتهم حول مواقفهم في شأن الكثير من الأحداث والمواقف، تتجلى في اكتفائهم بامتلاك الأفكار والرؤى من دون تقييم الأحداث الجارية والتفاعل الإيجابي معها، واعتقادهم أن «المذكرات» شأن ذاتي كما أنها غير مدرة للربح لدى دور النشر العربية.
محاولات قليلة
هي محاولات قليلة من حيث الكم والعدد، حتى من حيث القوة والتأثير، لا تجعل من المذكرات المنشورة للمثقفين العرب وثائق فكرية أو سياسية أو اجتماعية أو تاريخية تنطق بما يعتمل داخل محيطهم ومجتمعهم الصغير والكبير.
وباستثناء محاولات متفرقة في هذا البلد العربي أو ذاك، شهدت صدور ونشر مذكرات مثقفين من «العيار الثقيل» بوزنهم المعرفي والأكاديمي، فإن غالبية المثقفين العرب ينأون عن بذل مجهوداتهم في ديباجة مذكرات شخصية يسردون فيها رؤيتهم الخاصة لأحداث مهمة في بلدانهم، يؤثرون من خلالها على مسارات الرأي العام، أو في الأقل يتركون شهادات للأجيال التي تليهم.
في المغرب تبرز مذكرات العروي التي يشبهها نقاد بكونها «كوكتيلاً» معرفياً يمزج السيرة بالنقد السياسي مع شيء من الاستشراف المستقبلي، مستنداً إلى قاعدته المفاهيمية والمعرفية المتينة، على رغم اعترافه بأنه كتب مذكراته تلك بصفته «ملاحظاً عاجزاً» على حد قوله في مذكراته نفسها.
من جهته، سبق للمفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري أن أصدر مذكراته كمثقف عربي كان شاهداً على تحولات عسيرة عرفها المغرب، خصوصاً في فترة المواجهة بين اليسار المغربي والسلطة الحاكمة، فكانت مذكراته أشبه بشهادة مثقف منتمي إلى هذا التيار على أحداث وتحولات مجتمعه سياسياً وفكرياً وثقافياً.
مذكرات عربية
ومن سوريا يمكن استحضار الأديبة غادة السمان في رواية «كوابيس بيروت» التي اعتبرها كثيرون بمثابة مذكرات باعتبار أنها نشرت في البداية على شكل حلقات مسلسلة في مجلة لبنانية في سبعينيات القرن الماضي، قبل أن يتوقف نشرها، لتعود السمان لإصدارها في شكل رواية.
ووثقت السمان في مذكرات «كوابيس بيروت» الكثير من تفاصيل الحرب الأهلية في لبنان، ومعاناة العديد من اللبنانيين إبان هذه الحقبة الزمنية الأليمة، معرجة على مظاهر الفساد المالي والسياسي الفادح في هذا البلد خلال تلك الفترة.
وأبدعت الأديبة الفلسطينية فدوى طوقان في مذكراتها المعروفة بعنوان «رحلة جبلية… رحلة صعبة»، حتى إن هناك من اعتبرها تضاهي من حيث الأهمية مذكرات الأديب المصري الشهير طه حسين «الأيام»، وفيها تعرضت لواقع المرأة العربية وآمالها وآلامها، لتكون وثيقة ثقافية وإبداعية ناطقة.
من جهته، أصدر المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، الذي يعد وفق كثيرين أحد أبرز المثقفين الفلسطينيين والعرب في القرن الـ 20، مذكرات وسمها بعنوان «خارج المكان» التي تلج إلى خبايا القضية الفلسطينية ما بعد 1948، ومن خلالها للوضع العربي السياسي المهزوم.
وأيضاً في مصر وثق الكاتب المصري المعروف محمد سلماوي في «يوماً أو بعض يوم» تفاصيل العديد من الأحداث التي شهدتها مصر خلال حقبة زمنية مهمة تمتد بين ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى حدث مقتل الرئيس المصري السابق أنور السادات، مؤثثة بأسلوبه الصحافي السلس مدعوماً بصور شخصية وعائلية».
أما في تونس، فيمكن استحضار كتاب «الثقافة محنة لذيذة» للناقد خميس الخياطي كمذكرات للمثقف التونسي الذي واجه النظام السلطوي، وسرد فيها آليات المواجهة والتواري، لكن أيضاً عدد من خلالها بأسلوب «ساخر أسود» مواطن ضعف العقل العربي.
نبش في المذكرات
يقول في هذا الصدد الكاتب المغربي عبده حقي إن أسئلة عديدة يثيرها النبش في كتابة المذكرات باعتبارها جنساً أدبياً مغموراً من فروع السيرة الذاتية مثلها مثل اليوميات، سرد توثيقي بضمير المتكلم عن أبرز محطات العمر بحلوها ومرها، بأفراحها وآلامها بنجاحاتها وإخفاقاتها، إلا أن ما تفتقره «المذكرات» بمقارنتها بجذعها الأصل «السيرة الذاتية» هو ذلك النفس الروائي المفتوح على التخييل والبلاغة والشعرية الأدبية.
واعتبر حقي أن «المذكرات تقليد أدبي غربي بامتياز، واقتبسه الأدباء العرب من خلال جسور المثاقفة والاطلاع على الآداب الغربية، وعلى الخصوص أدب الرحلات الفرنكفوني والأنغلوساكسوني».
ووفق الأديب ذاته، من أشهر إصدارات المذكرات العربية «خواطر الصباح» للمفكر المغربي عبدالله العروي، ومذكرات «الجمر والرماد» للكاتب هشام شرابي، و»رحلة جبلية» لفدوى طوقان، و»مولود ميت» لأروى صالح، و»الرحلة» لرضوى عاشور.
واستدرك المتحدث «أشهر هذه المذكرات هي التي كتبها المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري في سلسلة شهرية اختار لها اسم «مواقف» صدرت على مدى أشهر، وهي تجمع بين التجربة السياسية والفكرية والثقافية والحياة الخاصة، وقد أرادها أن تكون شهادة على عصره».
ويرى حقي أنه لا يمكن الاعتماد على مذكرات المثقفين والأدباء العرب كشهادات على العصر لأسباب عدة، في مقدمتها ندرتها الملحوظة بامتياز، وانصراف الكتاب العرب رأساً إلى جنس السيرة الذاتية باعتبارها كتابة نخبوية تلتئم في متنها جل أصناف البوح والإبداع الأدبي، وأخيراً على مستوى النشر والتلقي إذ تعتبر «المذكرات» شأناً ذاتياً بالأساس وليس لها بعد مجتمعي وغير مدرة للربح لدى دور النشر العربية».
أسباب قلة مذكرات المثقفين العرب
من جانبه، يؤكد الأكاديمي والمفكر السياسي المصري عمرو الشوبكي أن الغالبية العظمى من المذكرات هي لزعماء وسياسيين أو صحافيين وأدباء، بينما مذكرات المفكرين وكبار المثقفين بخاصة في عالمنا العربي تظل قليلة إلى حد الندرة.وعزا الشوبكي هذه القلة إلى عدة أسباب منها أن هناك قناعة لكثير من المثقفين العرب أن مشروعهم الأساسي يكمن في امتلاك أفكار أو رؤى تحلل الواقع وتعمل على تغييره، ولهذا لم يعطوا أولوية كبيرة للسيرة الذاتية وتفاصيل الواقع المعاش، لأنهم ـ حتى في عقلهم الباطن ـ يتعاملون على أنهم أصحاب رؤى كلية تتجاوز هذه التفاصيل، وأن دورهم الحقيقي يكمن في إنتاج المعرفة والأفكار.
ويشرح الأكاديمي عينه قائلاً «عقلية من يحلل الواقع أو يسعى لتغييره أو يكتب في النظريات السياسية ومطلع على العلوم المختلفة يعتبر أن دوره في الإنتاج المعرفي وليس السير الذاتية، بخلاف الزعماء والسياسيين الذين عادة يعتبرون أن دورهم هو التأثير في هذا الواقع، وأن جمهورهم يهتم بمعرفة سيرهم الذاتية وتفاصيلها».
وزاد الشوبكي بأن «جمهور السياسيين والزعماء وكبار الصحافيين والأدباء أكثر اتساعاً من جمهور المثقفين الذين تقيم أعمالهم غالباً بالقيمة العلمية وليس بالشعبية الكبيرة كما يحدث مع كبار السياسيين، فمثلاً بلد مثل مصر معظم زعمائها المعاصرين كتبوا مذكرات وسيراً ذاتية من سعد زغلول حتى أنور السادات، لكن كبار المثقفين والباحثين لم يفعلوا ذلك، لأن لديهم تصوراً أن عموم الناس لن يهتموا بسيرهم الذاتية، وأن إنتاجهم المعرفي يخاطب بالأساس النخب».وخلص المتحدث إلى أن هناك استثناءات من هذه القاعدة، وهناك مثقفون كبار أثروا تأثيراً كبيراً في مجتمعاتهم وانخرطوا في حركات سياسية وكانت لهم «جماهيرية ما»، ولكن لأن خلفيتهم في المعرفة والفكر لم يحاولوا في معظمهم أن يكتبوا مذكراتهم الخاصة وسيرهم الذاتية.
نهاية المسار
من جهته، يرى الأديب والكاتب المغربي مصطفى لغتيري أن المذكرات تعد جنساً أدبياً قائم الذات، ارتبط أساساً بالسياسيين، يكتبونها في نهاية مسارهم السياسي، كشاهدين على فترة حكمهم، وتلقى هذه المذكرات رواجاً كبيراً لدى الجمهور، لأنها تكشف خبايا يتلهف الناس عموماً لمعرفتها، بخاصة حين يتعلق الأمر بشخصيات مؤثرة، خلقت جدلاً كبيراً خلال ممارستها السياسية».ويكمل لغتيري «يتطلع الجمهور لفهم بعض المحطات الغامضة في حياة هذه الشخصيات، أو تلك التي خلقت الحدث من دون أن يعرفوا خلفيات ما حصل، فتكون المناسبة سانحة بعد التخفف من ثقل المسؤولية أن يقدم السياسي بعض المعلومات الجديدة أو في الأقل وجهة نظره في الموضوع».
وزاد المتحدث بأنه «غالباً ما يلتجئ هؤلاء السياسيون لكتاب محترفين من أجل تدبيج مذكراتهم، لذا من الصعب الحكم على قيمتها الأدبية باستثناء الجانب التوثيقي الذي يكون جيداً ومفيداً لفهم بعض الأحداث السياسية وحيثياتها، وقد يكون محفزاً لكتابة سيناريوهات أفلام تتناول مسار تلك الشخصيات».
أما في الثقافة، يضيف لغتيري، فظهرت مذكرات اختار أصحابها أن تكون مؤذنة بنهاية مسارهم، فعمدوا إلى كتابة مذكراتهم كأنهم بذلك يبرئون الذمة مما حدث في حياتهم من أحداث، خصوصاً إذا كان هذا الكاتب ممارساً للسياسة إضافة إلى الكتابة كما فعل الجابري، أو في الأقل يقدم كاتبها توضيحاً لبعض المحطات في حياته، بخاصة تلك التي يكتنفها بعض الغموض».
وخلص المتحدث إلى أن «هذه المذكرات قد تكون مفيدة في تتبع المسار التكويني للمثقف وعلاقاته ببقية المثقفين، وبالوسط الثقافي عموماً، وهي ذات منفعة كبيرة في التأريخ للأدب وللثقافة عموماً»، وفق تعبيره.

عن»الاندبندنت عربية»


الكاتب : حسن الأشرف

  

بتاريخ : 27/04/2024