متواليات الفراشة

كنتُ راقَصْتُها حتى الهزيعِ الأخيرِ من الليل، متوثبةً كاللهب بين يديَّ فراشةً ملونةً تغيب في الأزهار، وتختفي في الأشجار، وتعود زاهيةً تحط على شَعْري تَحْسَبُه سِدْراً مخضوداً مُثْقَلا  بحلو النَّبْقِ، والبراعم الخضراء البليلة. أطرافها أجنحةٌ، جذعها غُصن بانٍ، ورقة موزٍ عريضةٌ غامزةٌ تنكسر تحت يديَّ مذعورةً، منتشيةً وهي تَهُمُّ بالطيران، ورأسها مدفون في تِبْرِ الأضواء المتراقصة على كتفيها العاريين العاجيين، ومِشَدَّتِها الورديَّةِ التي تشهق لرؤيتها عيون الجدران، فكيف بعيني اللتين أكلهما الضوءُ  والعطرُ والنَّفَسُ المُخْتَلِجُ بين أنفها وأنفي، وصدرها وصدري، ويدي وخصرها، وأرجلنا المئةِ التي تُحَيِّرُ أرْجُلَ الأكْروباتِ، وقدَميْ أمهر لاَعبٍ يمتلك ذهب الكرة، وهتاف الملايين في بقاع الأرض.

انحدرتْ فينا الموسيقا، وأخذتنا إلى مهاوي الذُّهولِ، رأيناها وما رأيناها. رأيناها ماء رحيقا رفيعا ينسرب في الجفاف العميم الذي يغزو العالم من حولنا، ماء زُلالاً يغمرنا بالحنو الذاهل الذاهب بنا إلى الأجواز: الملائكُ في الانتظار، والجنّ في أبهى زينة يغْطس. الليل شَرَكٌ، والعَطَشٌ مَرْكبٌ مُعَدٌّ لِيُقِلَّنا إلى روح الأرواح حيث الخشبُ هواءٌ يتهادى، والشراع ضوء يغمزُ والطيور نساءٌ عامراتٌ بالفتنة يَفْسَحْن لنا الطريقَ إلى العشب النَّديِّ بما أتاهُ من رذاذ الموسيقى، وَنأْمَة الريح العطشى، وحر التأوه والشهيق الصامت المتبرعم بين سنابل الشمس، وشجر الظل، وبنات الغمام.
هي بين يديَّ، وليست بين يديَّ، أتحسسها فأنْصَعِقُ ولا أعودُ إليَّ كأنما هُزِمْتُ في لقاء الشهوة، كأنما زَعْزَعَني الجذعُ الحريرُ المتموج، ورَجَّني الصدرُ الممتليء مَنّاً وسلوى وحلوى، فلا أعود إليَّ.
أراها ساحرةً تعلو ثم تعلو مخلفة ضبابَ الينابيع في إثرها في الصباحات الباردة الشتوية بين أيدي الوهاد والشعاب والجبال الزرقاء من فرط البرد والشدو المخفي بين الأعشاش الضائعة المنثورة بين الأحجار والأشجار. أراها، تراني، ضاحكةً كنبع ينبثق من وردة السِّرِّ والأساطير، وكمثل غيمة تقطر بِشارةً وندى، تُغْدِقُ عليَّ خيرَها جميعَه، وتتوَلاَّني بفضلها إذْ هي من يعطيني الحياةَ، ويمدني بماء الاستمرار، ونار الغواية والوجود، أرها فلا أراني، وأرتاب في الأمر لحظةً كأنما غشاوةٌ تعلوني، وتبطش بي ساحرةً تَمْسَخُني خلاءً، ولا إنيَّةَ ولا كينونةَ إذْ تَعْدِمُني فَتَعْدمَ وجودي. وها هي ذي تعود إليَّ الروحُ المحلقة بين الأدخنة الخرافية، وتِبْر المرأة التي بين يديَّ، يختلج هُدْبي، ويستدعيني للحك أنفي، وينزل الوَعْلُ رفيقاً بي. قَدَمُها في قَدَمي. الضوءُ يَحْرِقُني والعطرُ يُؤَرْجِحُني فإذا المسرحُ أغنيةٌ، والميدانُ المُتَعين المرسوم إيقاعٌ مجنونٌ، والضوءُ وَهْجٌ وحكايا، والنساء مزاميرُ وناياتٌ يرتمين على فُجاءاتي وَدَهَشي، والمعشوقة اللاَّهبَةُ الملتهبةُ تُدْخِلُني أتونَ المعبد، وتطلعني على سر الأسرار، تُدَثِّرُني بالشوق الدفين، بالشوك الخرافي الناعم، وتُزَمِّلُني بجسدها الذهبي المُشْرَبِّ بالفضة والزنبق، وماء الشلالات الغامضة، ودانتيل الفجر الملائكي، وحرير «الأوفيدا»، و»الكاموسترا» الهندية. لست «لاَتْسو» حكيم الطّاو، ولا «طاغورْ»ْ حكيم الرؤى السندسية، ولا الشاعر المنسي في دهاليز القرون الغافيات مَنْ تَرَك لحنا أزليا في سمع الوجود، ومزمارا مسحورا في حنجرة الأبدية. لكنني شاعرُكِ وحدكِ يا مليكتي، شاعرُك الذي كَفَرَ بالكل من أجلكِ، من أجلِ أن تَدَعيهِ يتسلق لَبْلاَبَكِ، ويركضُ في براريك، ويطبع قُبْلةً تُحْييه على شفتيكِ، ونحن نَنْفَتِلُ على مِغْزَلِ الهائل «موتسارتْ»، ونذوبُ كالشمع في زجاج القَدَرِ المُحْكَمِ الغِطاءَ، والثلجُ في الحدائق الليلية المهجورة.
جسمك الهشُ الخفيفُ الرهيفُ النورانيُّ المُتَعالي يأكلني ويُطَوِّحُ بي. جسمكِ نهرُ موسيقا يجري معي أتَخَلَّلُه ومع الموسيقا التي نسمع سويّا فتمسح المسافة بيننا حدَّ: «لوْ مَرَّ سيفٌ بيننا لم يكن يعرف هل أَجْرى دمي أمْ دَمَكْ». نهرٌ يدور بي، يَشُقُّني ويصْقُل بهجتي كحُصْوَةِ العصفور وقد تَرَمَّزَ وَتَشَفَّفَ  واخترقَ دائرة الصياد، وَكَسَرَ ماسورةَ الحلم.
عَجَلَة بابِلْ بي تدورُ مجنونةً لا تترك للهاث وقتا يسترجع فيه بدْءَهُ ومنتهاهُ، والمرايا على دفاترنا تنبس بالشعاع المختزن، بالصورة معكوسة كإله النرجس أو كزهر اللّوتِس. السلامُ على توحدنا، السلام على تداخلنا وصبيبنا العَطِرِ الحائم كالنسيم الهفهاف على شراشف الموائد، وأستار المقابض، وعلى وَجَلِنا وخجلنا، وعُرْيِنا البَدْئي الأوَّلِ. السلامُ على تاج جمالكِ تضعينه على مفرق شعرك، على حرير بهائك، تضعينه على تَلَّتَيْ صدرِك، على شفيف الكتاب يصعق الضوءَ ويُرْدِيه إذْ لا شريكَ للضوء غيرُ ضوئِكِ، الوحيدُ  في الأضواء ضوؤك، النافذُ الفاعلُ في الحواس والمسام رِضاكِ، وقبولك واختلاطك بدمي. الذروةُ ما تعلمته من درسك، الميلادُ، الأعيادُ، التجددُ، التوقدُ، التمددُ، التعينُ، التخفي، من درسك. ما بقيَ، فللطّينيينَ غَيْرَنا، الفانين، اللّجوجين اللهوفين على الرغيف والركوب كالعجماوات. ما صار صِرْتُ كأنني، للتو، أُخْلَقُ، أُعَلَّق بين سَماوَيْنِ، أهْجِسُ بالحال مآلا رفيقاً ورضِيّاً صار وسار بي إلى الوعد بالتمرغ في الضوء، والتعفر بإبريزِ حضوركِ، ولهيب جسدكِ، وخفة روحك أيتها الساكنة فيَّ، معلمتي التي حذفتْ ما تعلمتُ، واقْتَصَّتْ لي من كذّابين أفّاقين ضربوا عَمىً على بصري، وكادوا يصلون بصيرتي لوْلاكِ.. لو لم تُنْقِذيني، وَتَحْرُسي ضياعي  وتَصَدُّعي كما لو كنتِ إلاهةَ معبدِ دلْفي حيث عرفتُ نفسي إذْ عرفتكِ.
وَجْدي وبُحْراني وهيامي في بحرك يا نهري، ويا أيتها العاصفة التي تُهَزْهِزُ غَفْلتي، وتُنَمِّرُ وَثْبَتي، وتشدني إلى إزارها مثل رضيعٍ يُخَرْمِشُ بأنامل الماء النهدَ الذي يُرْضِعُهُ، وينام على دِفْئِه الوثيرِ بعد أن يُشْبِعَ جَوْعَتَه، ويُطْفيءَ غُلَّتَه.
– هل أفقتِ…..؟
– صباح الخير، سيدتي


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 31/01/2020