مثقفون مغاربة وعرب ينددون بالسقوط الفكري المدوي

بكائية هابرماس حول معاداة السامية

نشر مؤخرا الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، بيانه المثير للاستغراب والاستهجان الموسوم بـ «مبادئ التضامن: موقف» وهو البيان /الرسالة التي وقعها معه كل من كلاوس غونتر وراينر فورست ونيكول ديتلهوف، تضامنا مع إسرائيل في حربها ضد غزة.
مرد هذا الاستغراب هو تلك العبارات التي وردت في البيان والتي تعكس أزمة أخلاقية حقيقية، ليس في ألمانيا وحدها، بل في معظم العالم الغربي، والتي تنم عن انحياز أعمى لسردية إسرائيل، كما تلخص 75 سنة من تاريخ الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي في ما بعد 7 أكتوبر الماضي، خاصة من طرف مفكر وفيلسوف طالما استهلكنا أفكاره ونظرياته حول التواصل والحوار والاعتراف بالآخر، قبل أن تكشف الوقائع المادية ، زيف هذه الشعارات وتختبرها على أرض الواقع، وهي النظريات التي استقبلها المفكرون العرب وتفاعلوا معها من أجل توسيع اهتمامهم بقضايا تمس الفرد العربي والمجتمع كالهوية والديمقراطية وتصحيح المفاهيم السياسية، وتحييد الإيديولوجي والمقدس الكابح أو المحرِّم للتفكير النقدي.
الزميل محمد الأشهب، نقل إلى العربية هذا البيان المشترك، الذي وقعه الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس ومن معه، تحت عنوان: «مبادئ التضامن. موقف»، إعلانا لموقفهم من الحرب على غزة. ومن جملة ما جاء في إعلان المبادئ هذا:
«نعتقد أنه في خضم كل وجهات النظر المتعارضة التي أعرب عنها، فإن هناك بعض المبادئ التي لا يجب أن تكون محل خلاف. وهي مبادئ تشكل أساسا لتضامن مفكَّر فيه ومتعقَّل مع إسرائيل واليهود واليهوديات في ألمانيا… لقد دُفعت إسرائيل إلى الانتقام بهجوم مضاد. لكن كيفية تنفيذ هذا الهجوم المضاد، المبرر من حيث المبدأ، حظيت بمناقشة اتسمت بالكثير من الجدل. فمبادئ من قبيل علاقات التناسب (ضمنيا علاقات عدم التناسب بين حماس وإسرائيل Verhältnismäßigkeit)، وتجنب سقوط ضحايا من المدنيين، وشن حرب مصحوبة باحتمال إحلال السلام في المستقبل، ينبغي أن تكون مبادئ توجيهية. وعلى الرغم من كل القلق على مصير السكان الفلسطينيين، فإن معايير الحكم تزيغ عن الطريق تماما عندما تعزى نوايا الإبادة الجماعية إلى التصرفات الإسرائيلية. وكيفما كان الحال، فإن تصرفات إسرائيل لا تبرر بأي حال من الأحوال ردود الفعل المعادية للسامية، وخاصة في ألمانيا… فالروح الديمقراطية لجمهورية ألمانيا الاتحادية، والتي تقوم على أساس الاعتراف باحترام الكرامة الإنسانية، ترتبط بثقافة سياسية تعتبر الحياة اليهودية وحق إسرائيل في الوجود، عنصرين أساسيين يستحقان حماية خاصة مع استحضار الجرائم الجماعية التي ارتكبت سابقا في الحقبة النازية. ولهذا فالاعتراف بهذه المسألة والالتزام بها أمر أساسي في حياتنا السياسية المشتركة.إن الحقوق الأساسية في الحرية، والسلامة الجسدية، وكذلك الحماية من التشهير العنصري هي حقوق غير قابلة للتجزئة وتسري على الجميع بالتساوي. وعليه يجب على جميع أولئك الذين يقيمون في بلادنا والذين بثوا فيها المشاعر والقناعات المعادية للسامية باعتماد شتى أنواع الذرائع، ويرون الآن فرصة ملائمة للتعبير عنها دون عائق، أن يلتزموا بتلك الحقوق ويمتثلوا لها».
لقد أثارت سقطة هابرماس هاته، عددا من ردود الأفعال المستغربة والمنددة بهذا الانزلاق الخطير الذي ذهب إليه صاحب نظرية التواصل والأخلاق، حيث عبر الفيلسوف المغربي والمفكر عبد السلام بنعبد العالي عن استغرابه مما جاء في هذا البيان قائلا:»
لا يمكن لقارئ هذه «المبادئ» أن يتصور أنها صادرة عمن يعتبر فيلسوف «الفضاء العمومي»، وصاحب «نظرية التواصل»، وسليل «المدرسة النقدية»، الذي سبق له أن اتخذ موقفا مشرفا عندما أعلنت الحرب على العراق. ما يثير الاستغراب، هو أن فيلسوفا في حجم هذا الرجل يُدخل كل ما جرى قبل السابع من أكتوبر ضمن «ما قبل التاريخ»، ليعتبر أن تلك هي البداية التي ينبغي أن يعلن بصددها «مبادئه»، أي النقاط التي ينبغي الابتداء منها وبها وانطلاقا منها، ليهتدي بها كي يحدد موقفه ويعلن تخوفه من معاداة السامية، مضيفا أنه «قبل أن يسن هذه المبادئ، كان هابرماس مشهورا بكثرة حديثه عما كان يدعوه «أخلاقيات الحوار»، وآداب المناقشة. ولكن ها هو يضع أمامنا خطوطا حمراء لا ينبغي تجاوزها، أو على الأقل، مساءلتها، والحفر في خلفياتها حتى إن كان ذلك الحفر يغوص في ما اعتبره هو داخلا في «ما قبل التاريخ».
المفكر المغربي محمد المعزوز توقف أيضا عند هذا البيان، معتبرا أنه «موقف موصول بتمثل أغلبية المفكّرين الغربيين للعرب كقوم وللإسلام كدين ولفلسطين كسياسة، تأكيدا منهم على صيغة التّعارض والتّمايز الاستعلائي الذّي يجعل الغرب دائما هو الأقوى وموئلا مطلقا للعقلانية. كما أنّه موقف مستمد من نزعة استشراقية يجعل من موضوع العرب والشّرق مادة معرفية لدعم التحيز الإيديولوجي والسياسي تبريرا لكل مواقف الغرب وقراراته ضدّ العرب». وأضاف المعزوز أن «الوقت قد حان لخلق مسافة نقدية مع فلاسفة الغرب بالاجتهاد في خلق منظومة فكرية وفلسفية عربية مضادة لشناعة تبرير همجية إسرائيل من داخل التداول الفلسفي الغربي»، وأن «وزن المعرفة بميزان المعرفة فقط، وإهمال وزنها بميزان السياسة والإيديولوجيا، كما فعلنا في جامعاتنا العربية، خطأ تاريخي ومعرفي قد تمّ ارتكابه ولم نجن معه إلا أنّنا كنّا طلابا نجباء نرّدد بزهو ما تعلّمناه منهم في الفلسفة والعلوم الإنسانية؛ ونسينا أن المعرفة إذا لم تكن إنسانية تنتصر للقيم الثابتة للبشرية، تبقى مجرّد لغو وهذيان».
الباحث بمركز المقاصد للدراسات والبحوث بالرباط، محمد عوام اعتبر أن المفكر أو الفيلسوف ينبغي أن يكون حرا ونزيها وإنسانيا في ما يكتب ويصدر من مواقف.وأضاف عوام في تصريح صحفي: « الفكر لا يكون حرا، إلا حين التحرر من الانتماء إلى جهات تؤثر عليه أو تفرضه مضمونه، بل الفكر الحر هو الذي تحكمه الضوابط والمبادئ العقلانية، ويخضع للمعايير والضوابط العلمية.
ونبه عوام إلى أن الهيمنة الصهيونية على الغرب، خاصة على المستوى السياسي والاقتصادي والإعلامي «جعلت أقلام العديد من المفكرين تابعة لهذه الهيمنة، وأنتجت ما نحن بصدده الآن من مجاملة للصهيونية عبر الإصدارات والمواقف».
فؤاد غربالي، أستاذ علم الاجتماع السياسي بتونس، اعتبر بيان هابرماس « رسالة تضامن صريح وشديد الوضوح مع جرائم الاحتلال في غزة، « مؤكدا أ أن «موقفه يتقاطع مع عتاة اليمين العالمي الصهيوني». وذكر غربالي في مقال نشره عبر موقع «الميادين» اللبناني، أن البيان اكتسب أهميته من القيمة الفكرية لهابرماس ذاته كفيلسوف ذائع الصيت، ووريث مدرسة فرانكفورت النقدية للشمولية الشيوعية والنازية والرأسمالية، وأكبر منظري مقولة الديمقراطية التداولية.
وتابع: «إلا أن المضمون يشكل فضيحة أخلاقية ومعرفية وتعديا على حقائق تاريخية، ليس أقلها أن القضية الفلسطينية، وهذا ما تتجاهله الرسالة، هي نتاج ديناميكية تاريخية تمتد على مدى أكثر من 7 عقود من الاحتلال والاستعمار والاستيطان والتهجير». ونبه غربالي إلى أن «بكائية هابرماس حول معاداة السامية لا تعدو أن تكون مزايدة محاكاتية بعبارة رينيه جيرار، لتؤكد فكرة الضحية التي تستخدم كسردية لدى مجموعات الضغط الصهيونية لتبرير جرائم الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني».
نور الدين الأشهب، أستاذ الفلسفة بجامعة ابن زهر بالمغرب، في تصريح لموقع «أنفاس بريس» شجب موقف هابرماس الذي «عبر عن موقف يرتبط بالوضع الحالي دون الإشارة إلى الجرائم التي ارتكبت في حق الشعب الفلسطيني لعشرات السنين»، مضيفا أن «موقف هابرماس متحيز، وغير مستحضر للماضي ولا للداخل الإسرائيلي الذي تسيطر عليه حكومة يمينية متطرفة».


الكاتب : ح. الفارسي

  

بتاريخ : 02/12/2023