مسار تعديل مدونة الأسرة، صراع الثابت والمتحول (3)

بدأ العمل من أجل تعديل مدونة الأسرة في إطار ورش قانوني من مراحل متعددة، لاشك أن انطلاقته كانت خطاب العرش لسنة 2022، ثم تشكيل لجنة للإشراف، ثم الرسالة الملكية الموجهة لرئيس الحكومة حول منهجية التعديل ومضامينه.
وأن مقاربة التعديل وآفاقه ، منطلقاته وحدوده، يقتضي وضعه في مساره التاريخي منذ وضع قانون الأحوال الشخصية، ,وصولا إلى مدونة الأسرة الحالية وما أظهره تطبيقها من عيوب واختلالات، مرورا في هذا المسار الطويل بكثير من التحول الذي عرفته الأسرة المغربية كجزء من التحول الذي عرفته بنية المجتمع المغربي ككل عبر عقود من الزمن. وظل المشرع يحاول مواكبة هذا التحول بالنص القانوني الذي لم يكن سهلا أبدا.
في هذه الدراسة نحاول أن نعرض لهذا المسار الاجتماعي والقانوني لوضع الأسرة المغربية خلال حوالي سبعة عقود من الزمن.

مع التطورات السابقة التي لحقت الأسرة المغربية من حيث بنيتها وأنماطها وانعكاس ذلك على الأدوار داخلها بين الرجل والمرأة ارتفعت مطالب إصلاح قانون الأحوال الشخصية ليساير التطور الحاصل على مستوى الأسرة. وهذه المطالب وان لم تكن جديدة وترجع إلى عقود خلت، إلا أنها تزايدت وتعمقت في عقد الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي. وذلك بالنظر إلى عدة عوامل أهمها الموجة الحقوقية العالمية التي عرفتها كثير من دول العالم ومنها المغرب، وظهور فاعلين مدنيين مؤثرين خاصة الحركة النسائية التي ركزت مطالب إصلاحها في تغيير قانون الأحوال الشخصية، وتزامن كل ذلك مع توفر جو سياسي عام سمح بالتعاطي الايجابي مع مطالب الإصلاح بالرغم من اختلاف الرؤيا بين طرف وآخر من أطراف الساحة الوطنية.
وبقدر ما تركزت مطالب الإصلاح حول قانون الأحوال الشخصية تحديدا الزواج والطلاق، فإن الجهات المطالبة بالإصلاح تركزت في الحركة النسائية بالرغم من مساندتها من أطراف أخرى.
ومن جهة أخرى، فإن المطالبة بإصلاح قانون الأحوال الشخصية إنما يدخل في دينامية الإصلاحات والتعديلات التي قام بها المغرب لعدد من المؤسسات والقوانين مع مطلع تسعينيات القرن الماضي والتي طالت قانون الشغل وقانون الحريات العامة وقوانين الانتخابات وغيرها. لكن يجمع المتتبعون على أن أهم تعديل للقانون هو ذاك الذي يخص قانون الأحوال الشخصية. ولربما يعوذ ذلك ليس إلى حجم التعديلات أو أهميتها، بل إلى حساسية الموضوع وتداخل المرجعيات في موضوع له تأثير مباشر على حياة الناس ومستقبل العلاقات فيما بينهم .
وللتفصيل في كل ذلك نعرض في الفقرة الأولى للجهات المطالبة بالإصلاح وخاصة الحركة النسائية ونعرض في الفقرة الثانية لمطالب الإصلاح وتأصيلها.
إن قضية المساواة ومحاربة التمييز كانت منذ مدة طويلة مطلبا لجهات كثيرة.
وقبل ان تتبلور رؤى المجتمع المدني، بل وقبل تشكيل هذا المجتمع المدني بالشكل الذي هو عليه اليوم، كانت مطالب المساواة انشغالا سياسيا حزبيا حملته مجموعة من الأحزاب الوطنية واشتغلت عليها ضمن برامجها. ذلك ان قضية المرأة بالنسبة لهذه الأحزاب كانت جزءا من تصورها للديمقراطية إذ كانت تعتبر الديمقراطية ناقصة طالما ان نصف المجتمع (المشكل من النساء) لا يتمتع بكامل حقوقه. وقد كان هذا المنحى عاما لدى الأحزاب الوطنية بغض النظر عن خلفياتها الإيديولوجية وتصوراتها السياسية، وما إذا كانت يمينا أو يسارا. وبغض النظر عن نتيجة المطلب الأساسي هل هو مساواة أم عدالة، بخلفية دينية أو بخلفية إيديولوجية وسياسية يسارية، الأكيد ان جميع الأحزاب تضمن برامجها فكرة إنصاف المرأة.
ولعل التعاطي مع قضية المرأة من منطلقات سياسية ليست حديثة بل تعود إلى عهد الاستعمار، حيث ان الممارسات السياسية للمرأة نفسها كانت من خلال المشاركة في العمل الوطني لتحرير المغرب والتي كانت تؤطرها الحركة الوطنية. وظهرت التنظيمات الأولى للعمل السياسي النسائي في أحضان الأحزاب السياسية القائمة آنذاك كجمعية أخوات “الصفا” التابعة لحزب الشورى والاستقلال والاتحاد النسائي التابع لحزب الإصلاح الوطني.
بل إن دعم العمل النسائي لم يكن حكرا على الأحزاب فقط بل حتى الدولة اختارت نفس النهج، إذ في أواخر الستينات تأسس الاتحاد الوطني النسائي بدعم من الدولة لسد الفراغ الذي عانت منه المرأة في مجال التأطير، بعدما شهدت البلاد عدة اضطرابات وأزمات سياسية بين الدولة والمعارضة ألقت بظلالها على العمل النسوي لكن منذ مطلع السبعينات سيتطور الأمر، إذ بدأت القضية النسائية تتخذ طابعا أكثر وضوحا. بل أن هذه القضية لم تعد مطروحة في المغرب فقط وإنما اتخذت منحى دوليا، وحازت اهتمام المنتظم الدولي ومختلف الهيئات الأممية حيث تم عقد أول مؤتمر دولي حول المرأة بالمكسيك سنة 1975، واعتبرت العشرية الممتدة بين سنة 1975 وسنة 1985 عقدا دوليا خاصا بالمرأة، ثم توالت المؤتمرات الدولية وابرام الاتفاقيات وصدور عدد من الصكوك الدولية والإقليمية كلها تهدف إلى النهوض بأوضاع المرأة من خلال المناداة بالمساواة ومحاربة التمييز.
وقد تفاعلت مع هذا الاهتمام الدولي الأحزاب والتيارات السياسية المغربية، ونتج عن ذلك نقاش وطني فكري وإعلامي لكنه اتخذ أبعادا سياسية بين تيارين: تيار حداثي يعتمد في خطابه على المرجعية الدولية لحقوق الإنسان وما تضمنه للمرأة من حقوق وآليات لحمايتها، وتيار ديني يعتمد في خطابه على النصوص الدينية وما تضمنه من تكريم للمرأة. وعلى اختلاف زاويتي النظر، وقع تقاطب سياسي كبير وسط المجتمع ترجم على مستوى المواقف في عدد من قضايا الأحوال الشخصية، وظهر واضحا على مستوى الشارع بمناسبة طرح الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية.
وخلال كل تلك المراحل وبعدها وإلى اليوم تظل قضايا الأحوال الشخصية مجالا للتقاطب الفكري والسياسي بين مختلف الفرقآء.
وإذا كان الأمر كذلك، وان تلك القضية اشتغلت عليها الأحزاب السياسية ومكونات أخرى، إلا ان أهم من ارتبط عمله وتطوره بقضية الأحوال الشخصية تبقى هي الحركة النسائية. التي نقف فيما يلي عند نشأتها وتطورها ومكوناتها ومجالات اشتغالها.

1 – نشأة الحركة النسائية المغربية

كما سبق القول فإن قضية المرأة اشتغلت عليها جهات كثيرة. لكن الحركة النسائية كان لها تركيز على القضية باعتبار المشتغلات بهذه القضية معنيات بها أساسا. لطالما اشتكين من كون هذه القضية تستغل من طرف الأحزاب السياسية لحسابات سياسية، وليس على أساس مبدئي لخدمة هذه القضية.
وهذا الأمر لا يخص المغرب فقط، بل ظهر في دول كثيرة وكان من الطبيعي ان تؤثر كل الظروف في ميلاد حركة نسائية مغربية. وقد ساعد في ذلك مجموعة من العوامل.
عرفت قضية المرأة تداولا واهتماما كبيرا منذ نهاية القرن التاسع عشر بالمشرق العربي، وقد وصل صدى ذلك النقاش والاهتمام إلى المغرب عن طريق البعثات العلمية التي كانت تذهب إلى الشرق للدراسة وخاصة إلى مصر. فكان لذلك صدى لدى النخب المغربية. وخاصة بعض الأحداث والكتابات وبعض المفكرين، إذ كانت قد خرجت اول تظاهرة نسائية في مصر سنة 1919 مطالبة باستقلال البلاد وتحرير المرأة، وهي الفكرة التي روج لها رواد النهضة خاصة رفاعة الطهطاوي الذي نادى بتعليم المرأة منددا بحالة الجهل والأمية التي تعيشها المرأة مقارنة بنظيرتها في الغرب.
ودعا الشيخ محمد عبده إلى تعليم الفتيات وإصلاح أوضاعهن طبقا لما تنص عليها الشريعة الإسلامية. وكان قاسم أمين أكثر دفاعا على قضية المرأة وتحريرها، وكان لكتابي “تحرير المرأة” و”المرأة الجديدة” سجالا وصدى كبيرين في العالم العربي ككل.
وظهرت كاتبات رفعن لواء النضال من اجل تحرير المرأة وكان في مقدمتهن هدى شعراوي التي جمعت بين النضال الاجتماعي والنضال السياسي مطالبة بحرية المرأة، وكانت أول من طالب بالسفور وإزالة الحجاب وهدى شعراوي هي من نقل جهود المرأة من طور الكتابة إلى التنظيم حيث تشكلت أول هيئة منظمة تتحدث باسم المرأة وحملت اسم “لجنة الوفد للسيدات”.
وأسست هدى شعراوي سنة 1923 الاتحاد النسائي المصري، بل تطور الأمر إلى إنشاء حزب نسائي مصري من طرف بعض المنشقات عن الاتحاد النسائي المصري.
وغير هذه المجهودات في مصر كثيرة ومتعددة، والتي كان لها صدى واسع في المغرب. ليس فقط عند المفكرين بل حتى عند الجهات الرسمية، إذ أنه سنة 1908 وضع السلطان عبد الحفيظ مشروعا لإصلاح أوضاع المرأة المغربية استمده من التجربة العثمانية في تركيا ويبدو تأثير الشرق واضحا في بعض الجمعيات التي كانت موجودة انذاك مثل جمعية “أخوات الصفا”. جاء في كلمة مديرة الجمعية في مؤتمرها الأول “لقد كنا ننظر إلى نهضة أخواتنا في الشرق وما هن عليه من رقي، ثم ننظر إلى أنفسنا وما نحن عليه من تأخر، فنتساءل هل نحن أقل ذكاء وتربية من أخواتنا في الشرق… لسنا أقل ذكاء ولا تربية غير أننا لحد الآن لازالت تنقصنا كثير من المؤهلات التي تتمتع بها اختنا بالمشرق العربي” وكانت هناك جمعيات أخرى وقطاعات حزبية كلها تأثرت بالنقاش الذي كان مثارا بمصر وغيرها من دول المشرق العربي.
كما سبق القول كان من بين أكثر العناصر تأثيرا في قضية المرأة على طول مسارها ولوج المرأة إلى المدرسة وتلقيها العلم. علما بأن الأمر لم يكن سهلا، إذ أن التعليم في بداية القرن العشرين في المغرب كان تقليديا ومحدودا حتى بالنسبة للذكور، أما بالنسبة للإناث فكان من الناذر تجاوز مرحلة المسيد أو المرحلة الابتدائية، لذلك انتبهت الحركة الوطنية مبكرا إلى أهمية التعليم وأدرجته في مطالبها وضمن اهتماماتها. وتضمنه أول مشروع دستور لسنة 1908.
وان كان المشروع نص في مادته 84 على أن “المدارس الوطنية ثلاث رتب: 1-المدارس الابتدائية وهي ضرورية في كل بلدة وقبيلة كبيرة وصغيرة للذكور والاناث… 2-المدارس الثانوية وهي لازمة للذكور فقط.”
لكن الوضع سرعان ما سيتطور، في المرحلة الاستعمارية، حيث ستؤسس الحركة الوطنية المدارس الحرة. وتلجها اعداد من الفتيات. ورغم معارضة بعض الجهات والأشخاص على ذهاب الفتاة في التعليم إلى أبعد من المرحلة الابتدائية، إلا أن تلك المعارضة سيتجاوزها الواقع، وترتفع نسبة الفيات المتمدرسات سواء في المرحلة الابتدائية او المرحلة الثانوية. وهكذا سينتقل عدد الفتيات في المرحلة الثانوية من 23 تلميذة سنة 1945 مقابل967 تلميذ، وفي المرحلة الابتدائية 10267 مقابل 31229 تلميذ ليصل سنة 1950 إلى 23586 تلميذة في المرحلتين الابتدائية والثانوية ونتيجة هذا العدد المهم الذي ولج المدارس ارتفع وعي النساء منذ ذلك التاريخ وانخرطن في العمل الجمعوي والسياسي.
من العناصر الأساسية التي أثرث في مسار الحركة النسائية المغربية ولوجها المبكر إلى العمل السياسي من بوابة النضال الوطني ضد الاستعمار. وقد شاركت المرأة في هذا النضال سياسيا في المجالس والمنتديات والعمل على رفع الوعي في صفوف المغاربة عامة كما شاركت فعليا في العمل المسلح، وشهد على ذلك لوائح النساء اللائي استشهدن واعتقلن في كل مناطق المغرب.
كل هذا زاد وعي النساء بأهمية تحررهن، وساهم في ربط قضية تحرير الوطن بتمتع النساء بحقوقهن.
كانت تلك أهم العوامل التي أثرت في نشأة الحركة النسائية المغربية في بداياتها الأولى وتطورها. لكن خلال مراحلها المتعاقبة، ساهمت عوامل أخرى في تطور تلك الحركة واحتلالها مكانة مؤثرة في المجتمع خاصة في العقود الأخيرة. ولاشك أن أهم تلك العوامل الموجة الحقوقية التي اجتاحت العالم مع ما رافق ذلك من ظهور حركات ومنظمات دولية وتوقيع اتفاقيات وإعلانات ركزت على قضية المساواة ومحاربة التمييز ضد المرأة. كل ذلك كان له صدى وتأثير على الحركة النسائية المغربية في تفاعل مع تطور الحياة في مستوياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
إذا كان موضوع المساواة ومحاربة التمييز والنهوض بأوضاع المرأة اهتمت به جهات كثيرة سياسية وثقافية ومدنية، وان وزارات ومؤسسات عمومية وضعت له لجانا وآليات ضمن هياكلها، إذا كان الأمر كذلك، فإن الجهة التي ركزت عملها أكثر على الموضوع وبشكل أساسي هي الحركة النسائية. علما بأن الحركة النسائية منظومة واسعة ومتنوعة في الإيديولوجيات والخلفيات الفكرية، ومتنوعة أيضا من حيث التجربة والتواجد الوطني أو المحلي، ومن حيث الحجم والقدرة على التأثير في صناعة القرار. وهي ايضا مختلفة ومتنوعة من حيث مدى استقلاليتها في قرارها أو في تدبيرها أو في ماليتها.
وبالرغم مما يظهر من اسمها (الحركة النسائية) فإن هذه المنظومة تضم أيضا الرجال الذين يتبنون قضية المرأة والذين يشتغلون ضمن هياكل كثيرة من الجمعيات النسائية. أيضا هذه الحركة تعمل بدعم مستمر من الحركة الحقوقية التي تعتبر قضية المساواة ومحاربة التمييز، إحدى القضايا الأساسية ضمن برامج عملها.
ونظرا لتعدد مكونات هذه الحركة فإنه يصعب حصرها بالاسم، إذ ان كل الأحزاب لها قطاعات نسائية وكل النقابات لها لجان نسائية، ولا تكاد تخلو مدينة من المدن من جمعية نسائية أو أكثر، وحتى الجمعيات التي تشتغل على الشأن العام في شموليته، فإنها عادة ما تكون لها لجنة خاصة بالمرأة تهتم بكل جوانب القضية النسائية، فتعتبر تلك اللجنة جزءا من الحركة النسائية حتى وان كانت الجمعية الأم تختص في مواضيع كثيرة أخرى.
ونظرا للتعددية الكبيرة المذكورة أعلاه، والتي تجعل من الصعب ذكر كل مكونات الحركة النسائية.
يمكن القول إن تطور الحركة النسائية المغربية ارتبط بعاملين اثنين: تطور الحياة الديمقراطية في المغرب من جهة، والتعاطي مع قانون الأحوال الشخصية (بغض النظر عن التسميات التي يحملها) إلى الحد الذي يمكن معه اعتبار تاريخ الحركة النسائية المغربية هو تاريخ النضال من اجل الديمقراطية، وهو من جهة أخرى تاريخ تطور التعاطي مع قانون الأحوال الشخصية. مع الإشارة إلى أن النضال النسائي عرف في مراحله الأولى رفضا بخلفية فكرية منغلقة رفضت حتى مجرد تعليم المرأة في المرحلة الثانوية، كما أنه عرف في مرحلة لاحقة الرفض كنضال له خصوصية. وكان السعي نحو تذويبه في النضال العام. لكن فيما بعد تجاوزت الحركة هذه المعيقات ونحتت مكانتها كمكون مدني له خصوصياته وأهدافه التي قد تلتقي مع اهداف مكونات أخرى دون ان تذوب فيها.
لكن رغم ذلك فإن المتتبع لهذه الحركة منذ نشأتها يلاحظ انه خلال السنوات الأولى من الاستقلال عرف النضال النسائي الفتور والتراجع بعدما تم دفع الحركة إلى التركيز على العمل الاجتماعي والخيري، وربما يرجع ذلك اساسا إلى تعقد الوضع السياسي في المغرب في نهاية الخمسينات وبداية الستينات وانه كان من الصعب ان تكون لهذه القضية أولوية حتى عند النساء المشتغلات عليها.


الكاتب : الدكتور البصراوي علال نقيب هيئة المحامين بخريبكة

  

بتاريخ : 11/11/2023