معرض « مرئي -غير مرئي» بمكناس: جمالية النقص وفنيات المحو

برواق المعهد الفرنسي بمكناس، يعرض الفنانان عز الدين عبد الوهابي وإدريس رحاوي بشكل مشترك خلال الفترة الممتدة من 18 يناير إلى غاية متمّ شهر فبراير 2024 آخر أعمالهما الفنية، وتأتي ثمرة هذا المعرض الثنائي من ذلك التفاعل التشكيلي بين تجربتي الفنانين لفترة من الزمن داخل « جمعية شبكة الفن – أ – 48 « التي استطاعت خلال العشرية الأخيرة أن تساهم بقوة في منح مدينة وجدة الألفية وجهة شرق المملكة عموما هوية تشكيلية واضحة المعالم عبر تثمين التجارب التشكيلية المحلية واستضافة عدد من الفنانين التشكيليين من المغرب وخارجه في إطار الملتقى الفني و التشكيلي « أوريونطا / Orienta « الذي استطاع أن يحقق خلال دوراته السبع المنجزة لحد الآن تراكما فنيا ملحوظا، أضحى يلفت انتباه كثير من النقاد والمهتمين.
وإن كان الفنانان معا يلتقيان تحت يافطة المعرض الذي يحمل شعار « مرئي -غير مرئي « في رصد اختلاجات وهندسات الجسد في حركيته، فإن كل واحد منهما على حدة يخوض غمار هذه التجربة التشكيلية المشتركة وفق رؤياه الفنية ومواد اشتغاله الخاصة به ليلتحم كل واحد منهما بالثاني في سنفونية تشكيلية متناغمة تضمن لكل منهما حضوره وخصوصيته، وتمنح المتلقي/ المشاهد سلاسة وانسيابية في المرور من عمل تشكيلي إلى آخر. إذ يواصل الفنان عز الدين عبد الوهابي في أعماله الجديدة المعروضة استخدامه لمادته التشكيلية التي برع في تطويعها الفني والمتمثلة في بناء عوالم تشكيلية بقواقع البيض وقشوره بما تحمله هذه المادة من هشاشة وقابلية للكسر ليقدم لنا وجهة نظره الجمالية في تمثّل عالم معولم يتسم بدوره بذات الهشاشة التي تتميز بها المادة التشكيلية المستعملة، عالم هشّ لما يشهده من حروب وتسابق نحو التسلح وإثراء غير محسوب العواقب من غير اعتبار للجوهر الإنساني وللرغبة البشرية في تثبيت دوافع طمأنينة العيش المشترك على كوكب الأرض، لنجد أنفسنا أمام أعمال فنية بأجساد هشة أيضا، غير واضحة المعالم، أجساد منقوصة ومنخورة وغير مرئية بما يكفي، كما يلتجئ عبد الوهابي في حال استعمال الصباغة إلى استثمار الشكل البيضوي بما يعنيه ذلك من إحالة وإيماء إلى شكل الأرض وإلى ما تطرحه البيضة من أسئلة الوجود والعدم، لنكتشف في العمق تلك الرؤيا التي تنتظم وفقها وداخلها أعمال هذا الفنان، تلك الرؤيا التي تسعى إلى البرهنة على أن الفن هو صمام أمان للإنسانية، بما يتسع له مفهوم الفن من أشكال وأنواع تعبيرية مختلفة، مما يسوّغ للمشاهد فهم تأثيث الفنان لخلفيات عدد من أعماله بمقتطفات شعرية مقروءة حينا وغير مقروءة حينا آخر، فيظهر بجلاء جانب من ذلك التعالق بين التشكيل والشعر والسينما والصورة والفلسفة، ذلك التعالق الذي يعد واحدا من الخصائص الفنية للتجربة التشكيلية للفنان عز الدين عبد الوهابي برمّتها.
فيما يظل الفنان إدريس رحاوي بدوره في أعماله الجديدة المعروضة وفيّا لمادته التشكيلية الأثيرة المتمثلة في» الفحم الحجري»، تعبيرا عن احتفائه الفني بمسقط رأسه مدينة الفحم « جرادة»، واستثمارا لذلك اللون الأسود البرّاق الذي يحمل بين ذراته شحنة قوية من الوفاء والحنين والالتزام الاجتماعي والفني بقضايا وأسئلة مصير مدينة منجم الفحم ومآلاتها، كما يحمل جمالية وحرارة نابعتين من الأرض، حيث كان إدريس منذ حوالي عقد ونيف من الزمن سبّاقا إلى بناء عوالمه وتجسيداته التشكيلية باستعمال مادة الفحم الحجري، حتى أنه أصبح أيقونة للتشكيل بالفحم عبر عدد من الأعمال والمعارض الفنية اللافتة، إذ يمكن أن نسوق هنا على سبيل التمثيل عمله « مأدبة الفحم» الذي تم عرضه بمعهد العالم العربي بباريس سنة 2014 في إطار معرض فني « المغرب المعاصر»، هذا العمل الذي نال إعجابا واسعا ومنح إدريس رحاوي إلى جانب أعمال أخرى مماثلة هوية واسما وموقعا في الساحة التشكيلية المغربية، حيث إن هذا العمل حظي بحميمية خاصة لدى صاحبه لأنه يحمل رقم والده المنجميّ» ماتريكيل 38555» كما يوثق لذكرى « السْكيب» الأليمة سنة 1982 التي ذهب ضحيتها عدد من عمال مناجم الفحم بجرادة. غير أن الجديد في الأعمال المعروضة لهذا الفنان يتمثل في المزاوجة والمزج هذه المرة بين مادة الفحم والنقش بمادة الحناّء من جهة، وبين اللوحة كما هي متعارف عليها تشكيليا والمنحوتة باعتبارها إمكانية فنية لاستنطاق الجسد في بعده الشهواني من خلال تشكيله في أبعاده الثلاثة مما أضفى على أعمال رحاوي الجديدة أبعادا ودلالات مستجدة تحتفي من زاوية أولى بالجسد من خلال رمزية نقش الحناء الطافحة بحمولتها الاجتماعية والثقافية الاحتفالية التي تتخذ من الجسد جغرافيا للفرح والمتعة، وتحتفي من زاوية ثانية باللذة، لكن ليست أي لذة، ولا تلك اللذة الإيروتيكة الفجّة، ولكن تلك اللذة المستحقة التي تجعل من عامل منجم الفحم قادرا في اليوم الموالي على اختراق ظلمة الأنفاق بمصباح على الجبين ، لذلك فإن المزاوجة في هذه الأعمال الفنية بين مادتي الفحم والحناء يمنحها نوعا من التوازي الخلاق المدرّ للجمال وقدرا أخّاذا من الكونتراست بين الأسود والحنّائي، كما يمنحها قسطا وافرا من التوازن التشكيلي بين المتعة والحرمان، بين الظلمة والنور، وبين اللذة والوجع، وهذا طبعا ليس اختيارا جماليا مصطنعا أو مستعارا بالنسبة لفنان مثل إدريس رحاوي الذي خبر تفاصيل حياة مدينة منجمية مثل جرادة بواجهاتها وأحيائها الخلفية واحتفالاتها ونضالاتها وإحباطاتها وأحلامها وآلامها وآمالها.
لكن، ومع كل ما يمكن أن يتبادر إلى الأذهان ويظهر للعيان من تنافر بين المواد التشكيلية المستعملة عند هذا الفنان وذاك في أعمال معرض « مرئي -غير مرئي»، فإنهما استطاعا في النهاية أن يحققا تناغما تشكيليا موفّقا وانسجاما موضوعاتيا مقنعا، وتكاملا فنيا باعثا على الاستمتاع، حيث يصل هذا التلاحم التشكيلي بين الفنانيْن إلى أبهه تجلياته في العمل الفني الذي يقدم خارطة العالم على رقعة شطرنج تتوزعها – بشكل إيحائي مفتوح على كل القراءات- مادّتا قشور البيض والفحم الحجري وكأنّ الفنانين يريدان أن يجعلا من تمثّل العلم اليوم لعبة تشكيلية، كأنهما يصرخان فنيّا في وجوهنا : هذا هو العالم الآن بكل هشاشته وأوجاعه. كما يتجلى التناغم التشكيلي بين الفنانيّن معا حين نكتشف أنها يلتقيان عند ما يمكن نسميه « جمالية النقص» أو فنيّات المحو أي بعكس ما ننتظره من ذلك الجمال الذي يصنعه الاكتمال، حيث يشتغلان معا على «جسد منقوص»، جسد مرئي يوحي باللذة عند إدريس رحاوي وجسد غير مرئي في الغالب يوحي بالوجع عند عز الدين عبد الوهابي، مما يبعث في المتلقّي تلك الحيرة الإيجابية التي تقود إلى التساؤل: هل هذا الجسد الناقص هو في وضعية تشكّل أم في وضعة تحلّل، هل هو جسد في مرحلة التكوين أم في مرحلة التلاشي والاندثار.. هذا السؤال الذي يفتح أفقا تفاعليا مع الأعمال المعروضة، ويؤسس لأعمال فنية لاحقة للفنّانين.
هذا، ويشار إلى أن الفنان عز الدين عبد الوهابي الذي يشتغل أستاذا للفنون بمدينة أميان الفرنسية ورئيسا لـ «جمعية شبكة الفن – أ- 48 « ، يتميز بمنهجيته الفنية متعددة الأشكال والتعبيرات، إذ يجمع في تجربته التشكيلية بين الصباغة والنحت والفيديو والتجسيدات إلى جانب الاهتمام بالحقل النظري في مجال الفنون، من خلال ممارسة النقد التشكيلي حينا وتثمين عدد من التجارب الفنية حينا آخر، علاوة على انخراطه في تنظيم وإدارة المعارض الفنية داخل المغرب وأوروبا خاصة، مما جعله يقترب أكثر فأكثر من موقعه كـ» كوميسير» لعدد من المعارض من إثارة وضعية الفنون بين المركز والهامش، والانتباه إلى تلك العلاقة الممتدة بين التشكيل والتاريخ والفلسفة والشعر والسينما وغيرها. أما الفنان إدريس رحاوي ابن مدينة المناجم جرادة الذي يشتغل مديرا لملحقة مدرسة الفنون الجميلة ومديرا لرواق الفنون بوجدة، فيجمع أيضا في تجربته بين الصباغة والنحت والتجسيدات والفيديو والصورة بلغة تشكيلية قائمة على الحركة والإيقاع مع ميل واضح نحو الاقتصاد في الألوان التي يهيمن عليها اللون الأسود عنوان مدينته العريض، ويعتبر إدريس رحاوي رائدا في استعمال الفحم مادة تشكيلية بالمغرب، إلى جانب استدخاله خلال السنوات الأخيرة لمادة الحناء في بناء عوالمه التشكيلية.


الكاتب : سامح درويش

  

بتاريخ : 29/01/2024