مع الشاعر محمد الجباري في ديوانه الجديد: «أصفى من مرآة».. الصوت الخفيض لتكسير فوضى الصمت

محمد الجباري.. اسم متفرد في عالم الإبداع الشعري الوطني الراهن. برز كصوت متناغم مع ضرورات بناء التجربة وصياغة متونها المخصوصة في أسئلتها وفي أدواتها وفي رؤاها وفي آفاقها، وقبل ذلك في انشغالاتها الدقيقة المنصتة لنبض الذات، ولأشكال التفاعل مع المحيط ومع الوسط ومع آليات التلقي للتراث الثقافي والرمزي المهيمن.

برز اسم الشاعر محمد الجباري على صفحات الملاحق الثقافية للجرائد الوطنية خلال ثمانينات وتسعينيات القرن الماضي، وتعزز بانخراطه في مغامرة تنظيم تظاهرات شعرية وطنية مؤسسة داخل جمعية قدماء تلاميذ ثانوية الإمام الأصيلي بمدينة أصيلا خلال نفس الفترة الزمنية، في ما يمكن وصفه بمخاض الولادة والانبثاق والتميز بعيدا عن ضجيج المنابر والقبائل والألوان. وقد أثمر هذا النهر الدافق، صدور ديوانين اثنين، أولهما سنة 1996 تحت عنوان «جذور مائية»، وثانيهما سنة 2002 تحت عنوان «الرعشات».
لم يستسلم الشاعر محمد الجباري لانسيابية تمارين البدايات، ولم يركن ليوطوبيات قبيلة الشعراء، ولم يطمئن لتقليعات «الحداثة المعطوبة» حسب التعبير الأثير للشاعر محمد بنيس، ولكنه اختار صوته الخاص، الهادئ، الشفيف، المشتغل على ذاته وعلى استعاراته التي «نحيا بها»، قبل أن يتوج كل ذلك بإصدار ديوان شعري مطلع سنة 2021، تحت عنوان «أصفى من مرآة»، وذلك في ما مجموعه 86 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. وإذا كنا لا نزعم امتلاك أدوات تقديم قراءة نقدية تخصصية على مستوى تقويم أدوات «صنعة كتابة الشعر»، مما يظل أمرا متروكا لذوي الاختصاص، فإن الانفتاح على مضامين هذا الإصدار الجديد يندرج في إطار الحرص على تجميع عناصر كتابة التاريخ الثقافي الوطني بشكل عام، والتوثيق لإبدالات تاريخ الذهنيات المحلية لمدينة أصيلا المحتضنة لشغب الشاعر محمد الجباري. فكتابة هذا التاريخ لا تستقيم إلا من خلال تجميع عطاء الذوات الموزعة والمتفردة في مجالات الإبداع المفتوحة على رحابة التأصيل لمعالم الهوية الثقافية للمدينة، في الشعر وفي الكتابات النثرية وفي التشكيل وفي المسرح وفي السينما… وفي هذا الجانب بالذات، تنهض أسئلة المؤرخ لتفكيك بنية النصوص الإبداعية، كاشفة عن معالم ثرائها الرمزي المنتج للاستعارات وللدلالات وللصور البلاغية، ولأشكال الارتقاء بالوعي الفردي والجماعي من مستواه الحسي اليومي، إلى مستوياته التجريدية والتخييلية والجمالية الصانعة لمعالم البهاء في هويتنا الثقافية الراهنة.
اختار الشاعر محمد الجباري في إصداره الجديد الإنصات لصخب ذاته الهادئة، ولصمت محيطه القاتل. كما اختار الانزياح لضوضاء الأسئلة المقلقة في نسق تأملاته المعيشية واستيهاماته التي ارتبطت بتجاربه مع الحياة ومع الإبداع، حيث يتداخل ضغط الواقع المعيش مع رحابة فعل التخييل المترامي في ضفافه وفي ظلاله. هي تأملات تحتفي بفردانياتها وبحميمياتها، عبر انفتاح سلس على صوت المحيط، بلغة شفيفة، انسيابية، مشرعة على آفاق التأويل، مما يجعل من قصيدة محمد الجباري نصا مفتوحا على قراءات متباينة، وعلى تأويلات متداخلة، ثم على أشكال متعددة للافتتان بقيم الجمال في النصوص الشعرية، وفي المضامين الإنسانية التي تقوم عليها بنية النص. ومن هذه الزاوية، يمكن للبحث في تاريخ الذهنيات المنتجة للحس الجمالي وللرموز المجردة، أن يجد منطلقات إجرائية للتأمل وللتفكيك وللتأويل، ثم للاستثمار. ولكي نقترب من آفاق هذا السقف الناظم لنصوص محمد الجباري، يمكن الاستدلال ببعض النماذج المنتقاة من الديوان موضوع هذا التقديم.
ففي نص «إلى حيث أبغي»، يقول الشاعر:
«يأتي الحزن
يأتي الفرح
لا فرق..
يسطع النجم
أو يسقط
سيان..
في الشارع
الأقنعة
لا شكل لها
وأنا مشدودا إلى حركة الجناح
لا أعبأ بما تخفي
علبة الحظ
أمضي
إلى حيث أبغي
أميل جهة يرق القلب
حيث الشرفة
عين تطل على المدى
والأفق
مرفأ آمن» (ص ص. 27-28).

وفي نص «لا أثر على الطريق»، نقرأ:
«كأنما نمشي
بلا أقدام
لا أثر على الطريق
ولا غناء يؤنس الخطى
هل كنا نمشي
على قارعة الهباء؟
ليس في الأفق
قمر
يشهد على مرورك
فوق الظلال المترامية
في أنحاء العاصفة..
ليس جميلا
أن تعبر الحياة
دون تلويحة
من يدك..
لا أثر على الطريق
طواها الغسق
وتمحو ملامحها
مخالب الريح» (ص ص. 43-44).
وفي نص «خذ كتابك»، يقول الشاعر:
«كتابك
لغز كينونة
تقرأه لوحدك
كما تشاء..
تقرأه بصوت عال
حين يكثر الضجيج
تعبر سطوره
في صمت
حين يهدأ الصخب
كتابك مفتاح
فاقبضه
ولو بالرمق
ليكون لك
لا لغيرك
خذ كتابك
اقرأ كتابك
انثر ما بين السطر
والسطر
فرحك الصغير
وشهقتك العالية» ( ص ص. 71-72).
ومن مقاطع نص «احتمالات أخرى»، نقرأ:
«سقوط أوراق الأشجار
أكثر إيلاما من الغياب..
هكذا هي الحياة
تحيا
ولو بالألم
لتُسعد
من يؤلمه سقوط
أوراق الشجر…» (ص. 78).
ثم يضيف في نفس النص:
«الحالمون
لا يهدؤون
إما ينقشون الصخر
أو يرقدون تحت الرماد
كالجمرات
توقد النار
بعد انطفاء» (ص. 82)…
وعلى هذا الإيقاع تنساب قصيدة محمد الجباري، راسمة عوالمها الفريدة، وتأملاتها المنتجة للقيم وللتمثلات. هي قيم وهي تمثلات ناظمة لإواليات الصوغ الشعري ولأدوات الكتابة الخاصة بالأستاذ محمد الجباري، الإنسان والمثقف والشاعر الباحث عن نصه المشتهى وعن أفقه الإبداعي المنتظر.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 11/06/2021