من رسائل عبد الكبير الخطيبي إلى غيثة الخياط 21 : الرسالة 58: دائما أجازف باقتحام المجهول في اللغة

«مراسلة مفتوحة» سلسلة منتظمة من الرسائل المتبادلة بين عبد الكبير الخطيبي وغيثة الخياط، طيلة أربع سنوات (1999-1995). انضبت المراسلات لموضوعة «التحاب» أو الانجذاب كما يفضل الخطيبي ترجمتها، وانطلقت من أرضية محددة «كتاب التحاب» Le livre de L’Aimance لعبد الكبير الخطيبي.
كتاب «مراسلة مفتوحة» قدره في عنوانه، الانفتاح والانزياح، فأثناء المبادلات التراسلية، وقع حدث خطير جدا، في الحياة الأسرية للكاتبة غيثة الخياط، وهو وفاة ابنتها الوحيدة. وبدل أن يتوقف المكتوب L’écrit، انفتح على أبعاد أخرى، وانزاح إلى موضوعات غير مدرجة قي الاتفاق المشترك والعقد الضمني بين الكاتبين. «إنه عقد ضمني، بشكل من الأشكال، يقول الخطيبي، تركناه مفتوحا على كل الاحتمالات». انتصرت الكتابة على الموت. وحولته الكاتبة إلى موضوع للكتابة ومادة للمبادلة التراسلية، كما هو واضح في رسائل للخياط ترثي فيها ابنتها الوحيدة «عيني» وتتفجع على أمومتها المفقودة وتنتقد فيها الممارسة الطبية، وهي الطبيبة في اختصاصات متعددة.
حضرت تيمات وموضوعات لم تكن مبرمجة من قبل: الفن، العداوة، السياسة، الزمن، السفر، الألم، العلم، الطب…إلخ.
صحيح أن الخطيبي رجل حوار، حوار منسق ومنظم سواء مع نظرائه أو قرائه أو طلبته. يتعلم حتى من طلبته. يمدد الحوار والمحادثة بتجربة الكتابة ويعده موردا للإغناء والتثمير يقول: «ففي بعض الأحيان يحدث لي أن أكتب أشياء بعد محادثة، كما لو أنني أمدد بالكتابة الحوار. وفي أحيان أخرى يمنحني الآخرون أفكارا، لأن في التبادل هناك اللغة. والحالة هذه، فاللغة تعيش في الجسد، وفيما أسميه الذكاء الحساس للجسدl’intelligence sensible du corps، ويترجم بالانفعالات، والأحاسيس، وطريقة الكلام، والأسلوب، كل ذلك مصفى بواسطة الذكاء الحساس للجسد؛ وبذلك فإننا نراه في طريقة الكلام، وفي طريقة الكتابة. فالحوار مؤصَّل في الحياة، وفي اليومي.»
لا تقرأ مراسلات الخطيبي والخياط خارج السياق العام للمسألة النسائية، أي المرافعة عن قضايا المرأة ومناصرتها، وإن كان هذا الكتاب ليس الوحيد الذي يتحدث فيه الخطيبي عن المرأة، فتحدث عنها في أعمال أخرى فكرية وإبداعية من قبيل: الاسم العربي الجريح، حج فنان عاشق، كتاب الدم… علاوة على التشجيع، الذي يخص به النساء، بتقديم أعمالهن، وإشراكهن في برامج إعلامية، كما لا تخفى نسبة الكثافة في كتابات النساء عن أعماله!
يقول الخطيبي: «هناك بطبيعة الحال إرادتي في الدفاع عن المرأة وعن صورتها وما تمثله، والقول بأننا يُمكن أن نتحاور. ومن جهة أخرى كنت دائما أتساءل عن مكانتي فيما يخص علاقتي بالمرأة عموما، أو بأي امرأة على الخصوص. ولابد أن أجيب عن هذا السؤال كل يوم. عندما تكون هناك شفرة للتواصل، سواء أكانت مع الرجل أم مع المرأة، إذ ذاك يُمكننا جعل الحوار يتقدم في المجتمع. وهذا فيما يبدو حيوي لأن هناك إما الصمت أو استغلال للمرأة، لأنه عندما نعرف هشاشتها في الصورة التي تكونها عن نفسها يُمكننا دائما أن نجعلها قابلة للعطب. إذن أولئك الذين يتلاعبون بعلاقتهم مع النساء يتحاشون الحوار؛ فهم يستخدمون هذا الضعف لمصالحهم الخاصة».

إهداء إلى مراد الخطيبي

صديقتي،
أجل، من الأفضل، لكل طرف منا، الرد سريعا، على كل رسالة تصله. فحين أبطئ في جواباتي، فذلك لأنني لا أكون جاهزا، بما يكفي لمستوى مبادلة حقيقية. استبطان كلام الآخر، وتلقيه مثل هبة، كان حلمي دوما أن أستحق هذا المقصد.
تأخيراتي(؟) هي توقفات أكثر منها قطائع. موجة الحياة تحمل مشاعرنا وزبدها. ما العمل في زمن متسارع، وهو يحيك قماشه العنكبوتي؟
حاليا، أنا نفسي، في طور كتابة سرد طويل وأحسبه شيقا. لكنني كنت دائما أجازف، باقتحام المجهول في اللغة. أنا مقتنع، بناء على التجربة، أننا نكتب لننسى. لكن الأثر يتذكر. فهذا العبور من النسيان إلى الأثر هو ما يعطي لحياة الكاتب سعة وفسحة.
قضيت الصيف معظمه بالرباط، منهجسا ببداية هذه الرواية. يا لغرابة عملية بناء الشخصيات! في نفس اليوم، حصل لي أنني عمدت إلى حذف شخصية، ثم إعادتها من جديد. في الواقع، إن الشخصيات ما هي سوى مواقف، ووضعيات، عقدات بين الكلمات أكثر منها شيء آخر. غير أنني في لحظات معينةّ، أحس أن هذه الشخصيات، توقظ في داخلي وضعيات حقيقية عشتها. وبالتالي شيء ممنوع، يشرع في الكلام من دواخلي. أولا، لا أقوم بالربط بين الماضي والنص، الذي أنا بصدد كتابته. فحين يتوقف الماضي في ذاكرتي، آنذاك أكون مندهشا ومبتهجا، بفعل القدرة على النسيان oubliance، إنها كلمة جميلة.
أجل، لم لا إعداد أنطولوجيا لشواعر هذا القرن؟ إنها فكرة رائعة. هذا يتوقف على اختيار الأشعار، وتعاقبها، وتنوعها على الجدارية التي تنوين إقامتها.
قرأت» قصيدة الطفل» Le poème de l’enfant غير أنني لم أحط بها، في الوقت الحالي. أعلم أن كتابتك تسير نحو الإغواءات الجميلة للغة وانجذاباتها؛ الشعر يرعى جملك، يقطع مرددا النفس، والإيقاع. والشاعر أو الشاعرة هو ذاك أو تلك، من يحمل السر، سر الاسم والجرح.
قي كل نص-جدير بهذه التسمية- نستطيع أن نشعر بخط من القوة، يعزز فيه الحركة. جملة داخلية لبقية الجمل كلها، ترتج بين الصمت والوعد. لهذا فكلام الشعراء يوجد في هذه اللحظات الأبدية الخاطفة، التي ترتج في نشيدها.
أرى أنني في هذه الرسالة لا أتحدث سوى عن الأدب. لكن ما المانع من ذلك؟ ألم تكن الكتابة غير هذه الألفة الفعالة لهذا التراسل! مركز ثقله؟ التحدث إلى الغير، هو تحفة وأعجوبة، عندما نقابله في صمته وعزلته. نكتب مائلين جانحين إلى الفراغ، الفراغ المشع الذي ينفتح على وعد. بهذا أحييك.
مودتي.
عبد الكبير


الكاتب : ترجمة وتقديم: محمد معطسيم

  

بتاريخ : 21/06/2021