هل نملك فعلا هوية بيداغوجية؟

 

منذ استقلال المغرب، سنة 1956 وإلى يومنا هذا، مرت طرق التدريس المغربية، وربما الشيء نفسه بالنسبة للعديد من الدول العربية، الباحثة عن قفزة في مجال التربية والتعليم، من منعرجات عديدة، نادرا ما نؤرخ لها وندقق في تراكماتها وكيفية البحث في تطويرها وفق حاجيات مجتمعية دائمة ومتغيرة بشكل سريع، لاسيما في هذا الزمن الحاضر الذي نعيش فيه، حيث التكنولوجيا المتدفقة تتحكم في الرقاب وتجعل منها رقابا منحنية غير مبالية بما يجري حولها.
بعد استقلال المغرب، كان هاجس الجهات المسؤولة توفير بنية تحتية وبشرية تنسجم مع طبيعة شخصية المغربي الذي قاوم المحتل وصنع العديد من البطولات الشعبية والرسمية لينزع استقلاله، وهو ما يدرسه حاليا وضمن مواد دراسية عديدة كالتاريخ والعربية… إلخ.
خلال هذه المرحلة، ومرحلة الستينيات والسبعينيات وإلى حدود بداية الثمانينيات، كانت المقاربة بالمضامين، السمة المهيمنة التي ميزت تعليمنا المغربي. طريقة، لم تبتعد في المجمل عما كان سائدا في الكتاب القرآني (الجامع). كانت(وربما لاتزال كما سنرى) تركز على الحفظ والتقيد بالمضامين والاستظهار والحرص الشديد على إعادة ما قدمه المدرس. كان هذا الأخير هو مصدر المعرفة. وحده الذي يملك المعلومة. ووحده الذي يفسرها وفق ما لديه من مرجعيات تربوية عامة.
أجيال عديدة تربت وفق هذه الطريقة. كانت المحتويات المدرسية يعاد كتابتها، وهي الوحيدة التي يقوم فيها المتعلم وفق معيار ما قدمه المدرس.
كانت المدرسة العمومية الفضاء الوحيد الذي يتعلم فيه كل المتعلمين، لا فرق بين غني وفقير. الكل يجلس على الطاولات الخشبية المعروفة والعقاب نفسه (فلقة) يشمل الجميع بطريقة ديموقراطية أو ظالمة. يوزع علينا المداد والطعام اللذيذ كل صباح، وصمت رهيب داخل القسم، وشخصية المدرس كانت ضمن “المقدس”، بل استمرارية لشخصية الفقيه الذي لا حق لنا، ونحن نتعلم أبجديات الكتابة وحفظ ما تيسر من القرآن الكريم (في الكتاب القرآني)، أن نسائله خارج ما يعلمنا، وإلا سنذوق ما لذ وطاب من عصا كانت لا تفارق يداه اليمنى، وإن قدر لك أن ضربت بها، فشرارة النار ستتراقص بين عينك، وإن علمت أسرتك بذلك، فبدورها ستكمل لك الضربات المتبقية والنتيجة “ستتعلم الرقص من شدة الضرب”.
طبعا هذه الحقبة كانت تتميز بما يمكن أن أسميه “بدمقرطة” الفقر في صفوفنا كمتعلمين. في حينا لم تكن إلا سيارة واحدة. وفي حينا أيضا، لم تكن إلا تلفزة واحدة (في بداية شرائها). ما يقرب من أسرة أو أسرتين، هما من كان ضمن، ما يمكن تسميته، تجاوزا، بالطبقة المتوسطة والباقي كان يستمتع بالفقر نفسه، موزعا بين الجميع وبشكل “عادل” وغير مسبوق.
ربما الأجيال التي تعلمت في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، إلخ، يدركون جيدا مغزى ما أقول، ومن ولد وفي فمه ملعقة من الحليب الكامل، وفي جيبه هاتف ذكي، وسيارة التعليم الخاص تنتظره كل صباح أمام بيته، حيث يخرج تحت قبلات أمه وأبيه، وبين ذراعي الخادمة التي تسهر على تربيته وإيصاله ووضغه في مقعده.. إلخ، ربما هذه الأجيال لا تعرف سر ما أكتب.
طبعا في أواسط الثمانينيات، ستعرف المدرسة المغربية رحلة طريقة تدريس “جديدة” تتعلق بالمقاربة بالأهداف. هذا لا يعني أننا “تخلصنا” من طريقة المضامين أو طريقة الكتاب القرآني (الجامع)، بل تعايشت الطريقتان وربما إلى يومنا هذا.
هكذا بقي حال طرق التدريس بمدارسنا في المجمل، مع العلم أننا في التسعينيات من القرن الماضي دائما، سننفتح على عالم المقاربة بالكفايات. أكيد، حالنا هو حال كل الدول العربية، التي تستورد التقنيات وما يحوم حولها من ثقافات وطرق لباس وأكل وعيش…إلخ، وذلك ضمن الرؤية الخلدونية المعروفة، أي، رؤية الغالب والمغلوب.
لم نتمكن في عالمنا العربي والإسلامي ككل، من تطوير الإرث التربوي الذي تركه الأجداد. توقفت الصلة بيننا وبين تراكماتهم، ولم تعد حاضرة إلا في مجالات تتعلق بالدراسات والبحوث والأطاريح الجامعية، إلخ. ولينا وجوهنا شطر الغرب، لنأخذ منه ما تيسر وما يتساير مع طبيعتنا وإمكانياتنا.
طبعا، ونحن نستهلك المفاهيم فهي تمر من “قنطرة” الترجمة. وهنا “مصيبة” أخرى يعاني منها “المغلوب” حضاريا. فعليه أن يبحث عما يقربها إلى شبكته المفاهيمية. تكثر الترجمات وتتعدد ويصبح الحقل التربوي هنا “متعدد” الولادات (حقل لقيط). لأننا لم نبتكر ولم نبدع المفهوم بل هو مولود من رحم آخر وفي تربة أخرى ولمتعلم غير متعلمنا.
أواسط الألفين، سيحاول القيمون على الشأن التربوي أجرأة المقاربة بالكفايات. محاولة ربما وفي اعتقادي، كانت دفعة مهمة ومحاولة نوعية لتقوية الفعل الإصلاحي التربوي بمدرستنا المغربية العمومية. حط الرحال، في ما بعد، الخبير الدولي كزافيي روجرز، مصحوبا بفريقه الدولي والهادف إلى ترسيخ ثقافة تربوية تتعلق ببيداغوجيا الإدماج. ببساطة هي مقاربة رامت تنزيل المقاربة بالكفايات بشكل ملموس يمس طريقة تدريس المدرسين.
لأول مرة سيصبح المدرس مطالبا بتغيير جلده التربوي داخل القسم سواء تعلق الأمر بتخطيط جذاذته أو تدبير ما ورد فيها من تعلمات أو تقويمها. تكوينات متعددة متتابعة في كل أنحاء المغرب. تم التعميم في عهد الوزير أحمد أخشيشن والوزيرة (المنتدبة) لطيفة العبيدة. رهان التكوين ربح خلال هذه المرحلة. كنت شاهدا على العديد من مراحل التكوين ومساهما فيه. تتبعت العديد من محطاته ومنذ بدايته إلى أن تكونت حكومة مغربية جديدة، أسندت فيها حقيبة التعليم إلى المرحوم محمد الوافا، حيث تم إيقاف هذا التكوين وكل ما تم تقديمه وصرفه من أموال باهضة جدا.
أكيد، ودوما وكمدرسين، وبشكل عام طبعا، نحاول في البداية الاحتماء بالقديم ورفض أي شكل من أشكال التجديد، بل وفي حالات عديدة نربط ترقيتنا بكل ما يقدم لنا من تجديد وجب القيام به لفائدة المتعلم، ويوظف هذا ضمن رؤية نقابية، عليها طبعا أن تناضل من أجل تحقيق المفيد لنساء ورجال التعليم.
تربينا في ظل هذا الظروف. ولا أدري من “وسوس” للوزير المرحوم بضروة توقيف و”طرد” الخبير كزافيي من المغرب باعتبار أن ما كان يقوم به هو وفريقه وتحت راية الوزيرين السابقين، لم يعد مرغوبا فيه ولم يعد صالحا لنا. توقعنا بعد هذا التوقف، أن يتم تنزيل أفضل مما كان. ربما تم “التصفيق” لقراره آنذاك، بعد أن كنا بصدد تغيير جلدنا البيداغوجي، وبدأنا في مغربة بيداغوجيا الإدماج، بل بدأت الأسر تتكيف مع “دفتر الوضعيات الإدماجية” وتغيرت معايير التقويم وبناء التعلمات… إلخ.
ككل تجديد، وفي تاريخ التجديد التربوي والأدبي والثقافي والعلمي والرياضي، إلخ، نجد المدافع عنه والرافض له، ولاعتبارات عديدة فيها الذاتي والموضوعي، إلخ. لكن رحل الوزير محمد الوفا إلى جوار ربه، وتوقف المشروع بل “طرد” صاحبه وتم صرف مبالغ مالية هائلة جدا دون الاستفادة من التراكمات ومحاولة، على الأقل الاشتغال بها، إلى أن يتم التوافق على مشروع بيداغوجي جديد.
وفق ما سبق نتساءل هل نملك فعلا هوية بيداغوجية؟ هل فعلا تمكنا ومن خلال العديد من المحطات الإصلاحية وما رافقها من مرجعيات قانونية (آخرها القانون الإطار 51/17)، من تحقيق هوية بيداغوجية مفيدة للثلاثي المعروف (المدرس والمتعلم والمحتوى المدرس)؟
يبدو لي أن المقاربة بالمضامين والمقاربة بالأهداف وما يروج من ثقافة تربوية تتعلق بالكفايات التي تتصارع فيها المرجعيات الأنجلوفونية والفرنكوفونية، مثلث، به من الممكن استخراج بعض العناصر التي هي بمثابة جواب للسؤال الذي طرحته منذ البداية.
صحيح أن البعض منا لازال يوظف العديد من المفاهيم المنتمية لمشروع كزافيي الذي توقف (مثل الوضعيات، الخ)، لكن ماذا لو تمكننا في السابق من اتمام مشروع بيداغوجيا الإدماج وحاولنا طبعا مغربته وتطويره وفق حاجياتنا المجتمعية الجديدة لاسيما بناء قنطرة تربوية تربط بين ما يتعلم المتعلم في قسمه وما يحتاجه في حيه وبيته ودربه ومدينته وقريته ووطنه، ككل، من مهارات مركزة على شخصيته وقيمها وحالاته النفسية والوجدانية والوطنية والإنسانية والكونية ككل؟.
ويبقى السؤال مطروحا هل نملك هوية بيداغوجية؟

أستاذ التعليم العالي
المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين الدار البيضاء


الكاتب : الحبيب نصري

  

بتاريخ : 17/02/2022