الكـلام الـمـباح فـي هـامـش الـحـرية الـمـتـاح

أحمد المديني

يستدعي منا العام الجديد، بل يلزم كلَّ ذي عقل وحِسٍّ تدبير بأن يتخذ وقفة الحساب وموقف المساءلة. عادة، تفعل هذا الشركات وأصحاب التجارة لضبط أرقام معاملات البيع والشراء، وقياس الربح والخسارة، فلا تجارة بدون متابعة وحساب، وكذلك لا دولة ولا مجتمع بدونهما. إنها البداهة عينُها، لكن حيث تسود النُّظُم الحديثة وتُدبَّر شؤونُ الناس بعقلانية، كذلك بسياسةٍ عادلة ونهج ديموقراطي، يَعرِف كلٌّ فيه موقعَه ودورَه ومسؤوليتَه وحقوقَه والتزاماتِه، يتأتّى هذا بمؤسسات تُشرِّع وتنفّذ وتراقِب وتحاسِب عند الزّلل وتقوم بالجَرْد في الوقت المناسب. نملك من هذا الكثير من حيث الشكل، لكن من جهة الفاعلية والمردود كأنما صفر اليدين. هكذا تبدو الدولة الحديثة في المغرب ـ وفي عموم العالم العربي الذي ننتمي إليه ـ الشكلَ العصري للدولة الوطنية بالمعنى الهوياتي والسياسي أقرب إلى بهرجة وبصورة خطاطات ومساطر تنفيذية لم يعد يعني واضعيها والعاملين في إطارها وجود الموضوع وفهم الجوهر، بقدر ما يدغدغ بطرَهم الأرقام والرسوم البيانية للإنتاج والنمو والفائض أو العجز التجاري والأموال المحوّلة، ورطانات اقتصادية مالية ماركتينغية أخرى ببيانات تصدر في تقارير وتروّجها صحف موالية، وقد يُطلق البخور أوتُتلى عليها الفاتحة، وما عليهم إذا لم تفهم البقر!
لكن يحدث أن « البقر» يريد أن يفهم أحيانا، ويعرف لماذا وإلى متى سيستمر يُحلب، خاصة، من قوم لا يفهمون في المرعى ولا يُحسنون الرّعي. أن يفهم هل وجودُه مغزاه أنه موكول إلى قوم يقودونه على غير هدى، ولا يفهمون معنى الوجود أبعدَ من الحاجات اليومية كالأنعام. ينظر في الشاشة الصغيرة فيرى قاعةً لمبنى فخم مهيبٍ ومنصة يتناوب عليها خطباءُ يتراشقون بالكلام وكانوا قبل الوصول إلى هذه المحطة قد وعدوا بجنات عدن وشرَوا من يُشرى وتوعدوا من لا يُباع، لا يحفَلون بهم ما داموا ضمِنوا كرسيّهم الوثير، هم مجرد رعاع.
تنقل إليه الشاشةُ الصغيرة صورة قاعة مستطيلة خلفها وزراء يتصدرهم رئيسهم، وهم لا يطيلون النظر في الوجوه، يجدون الصورة مسئِمة، ويسمعون كلاما مُعادا يتحسّسونه مغلفا بالسيلوفان، يُغري بنعومته ولونه، لكن ما البضاعةُ داخلَه؟ ومن سيفوز بالكعكة؟ ويشك في النصيب؟ الشك هنا ليس ديكارتيا أي سبيلا لاختبار بغية الوصول إلى يقين. لا، لقد فُقِدَ اليقين، وهذا أخطر ما يمكن أن تصل إليه جماعة، بعد أن كابدت اليأس ولم يبق إلا أن ترقص فوق حطام آمالها وأحلام أبنائها رعتها طويلا في الصّحو والمنام وتناسلت أكثر وأكبر في تجمّعاتٍ وهتافاتٍ ولافتاتٍ وقاعاتٍ الانتظار، وحتى تحت الركلات وباللكمات، بحسن نية فقط لا غير، من أجل الحفاظ على الأمن العام والتصدي للشغب الذي يقوم به من يطالبون بقليل من الشغل، وقليل من العلاج، وقليل من السكن، وقليل جدا من الحب، وأقلّ من قدرة قول لا ضد نعم الراكدة من سنين مثل بحيرة آسنة، ولا يساقون إلى الدهاليز ويُلقى بهم إلى العدم، ثم سيأتي بعدهم أقوامٌ آخرون ويتكرر الفيلم الركيك، فيطفئون الشاشة ويموتون إلى الأبد.
لا ضرورة، إذن، من البحث عن المعنى ما دام ليس في الساحة موضوع، فالمعنى لا يوجد من هلام، من سديم، هذا ما يُراد لبعض الأرض أن تصبح عليه، فإذا صاح غاضبٌ أو صحا ميت اكتشف أنه دُفن قهراً وقسراً حين ذهب إلى إدارة مثلا أو وقف يصرخ أمام البرلمان، ربما حلم ذات يوم أنه في الهايد بارك اللّندني، وإذ به يجد كسوة جاهزة على مقاس؛ ذا كفنُك. سيرى الأبيض شعاعا، ويفتح له الشعاعُ طريق ضوء يمشي فيه منتشياً تأتيه من مكان ما خلف الأقواس خُطب رنّانة، ورئيسٌ مصقاع يظن أنه أخيرا سيزفّه رغم الكفن إلى حلمه وهو إنما أرسل معه بضعة طُلْبة يشيّعونه بتبارك الذي بيده الملك وهم يهرولون ليفرَغوا إلى قصعة الكسكس ويفرغ لموت في الحياة طويل انتبه إليه بعدأن عمّ السراب واستوى الماء والخشب.
أعي أني لست على ما يرام. العالم جميعُه على غير ما يرام. لن أعلّق هذا على شمّاعة الوباء، فنحن مَرتعٌ للأوبئة من عهد عاد، وكم تقلبت على أوجاعها مسكينة هذه البلاد، الأجداد والآباء والأحفاد، دماءٌ سالت وكم تجرّحت أكباد، ثم يُستنسخ الشريط مُحوّراً والأصلُ باقٍ لا مناص له منه، هو زاد المَعاد. ثم كمن يفيق من خُمار رديء، يصعقني بصوته، بشكله القميء: ماذا يفعل الجلاّد إذا لم يشحذ سوطه في لحم العباد؟ وماذا ستكتب أنت إن كففتُ أنا عن قتل الجياد؟ وهل تراني أترك النص وآوي إلى الطّرّة، فأنا المتن والموضوع والمعنى، والباقي أوغاد!
وسأعترف للمرة الأولى بإعجابي برئيس حكومتنا، لم أعلم ببساطة وسلاسة، ولو لم يكن رجل أعمال ناجح، لزدت سذاجة، أعوّضها بطيبة الروح وذلاقة اللسان، وما هذا إلا لأنه وقت كان يخوض حملته الانتخابية ويعبِّئَ لحزبه، وهو طارئ عليه، وهي بدعة مغربية؛ وقتئذ أعفى نفسه وأراح مستشاريه، واختصر برنامج السياسة وطريق الحكم في شعار(عبقري). كلمة أمازيغية جامعة عنده مانعة هي(أغراس). وقد استفتيت عارفين ثقاة في أمازيغيتنا فعرّبوا الكلمة كالتالي: «الطريق المستقيم، وله معنى مجازي للمعقول» وسألت عن نقيض الكلمة فعلمت أنها» الماقول، أو سخروض». وبعد أن انقشع غبار المعركة ونال الرئيس المُنى حرت أين أضعه وحزبه وحكومته وسياسته جمعاء، بالأحرى ماذا أختار له من الكلمتين، إلى أن بدأ بعض فريقه يُبعدني عن سخروض ويهديني إلى أغراس. هل تعرفون معناها العميق؟ إنه: لا يوجد في السياسة ولم يبق بعد اليوم مرجعيات ولا إيديولوجيات. ببساطة مذهلة كانت ستوقظ من قبورهم مونتسكيو وفولتير وتوكفيل وماركس ولينين وبن بركة الذي بلا قبر أيضا، ليسمعوا هذا الإعجاز:» انتهى عهد الإيديولوجيات!». عجبا، وإذن، لِم الأحزاب والانتخابات والبرلمان وكلية العلوم السياسية وحقوق الإنسان ومطالب الديموقراطية والعدالة الاجتماعية؟من سيفتح فاه بعد هذا سيُلقَم حجرا، أو يُدخل جُحرا، وأفضل للمطالبين بأي شيء أن يسمعوا وزيرا مفوّها يعفينا جميعا من نكد الأيام، قال لا فُضّ فوه:» الحكومة تنكبّ على إعداد البرنامج الاستراتيجي لحقوق الإنسان»، وأضاف بشجاعة الفرسان أنهما معا سيعملان على:» توسيع هامش الحرية». شكرا معالي الوزير أن تتيح لنا فرصة قول المباح في هامش حريتك المتاح.

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 19/01/2022

التعليقات مغلقة.