طُرَر على درس الأستاذ أحمد التوفيق حول «تجديد الدين في نظام إمارة المومنين»

محمد التهامي الحراق

ألقى الأستاذ أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، درسه الافتتاحي للدروس الحسنية الرمضانية لهذا العام (1445ه/2024م) حول موضوع «تجديد الدين في نظام أمير المومنين»، وقد أثار هذا الدرس جملة تفاعلات وردود تراوحت بين التقدير والتثمين والنقد المسؤول؛ فيما تجاوزت بعض الردود المنفعلة حدود الحوار المعرفي واللياقة العلمية. وإدراكا لأهمية هذا الدرس المعرفية والتشخيصية والاستشرافية، نبسط أمامكم جملة طرر وملاحظات نطرحها للنظر والتفكير والمذاكرة:
مثل سائر دروس الأستاذ أحمد التوفيق، يحتاج هذا الدرس إلى تأن في الإنصات، ورويّة في القراءة، واستجلاء منهجي لتعدد أبعاده وتنوع روافده ودقةِ بنائه. دون ذلك، فإن كل تعامل تجزيئي معه، واقتراب ابتساري من محاوره، لا محالة موقع في سوء فهمه، والشطط في الحكم عليه. وذاك ما سجلناه في عدد من الردود المتسرعة، التي لم تصغ إلى نص الدرس في تعدد وتكامل مداخله الشرعية والروحية والتاريخية والسياسية والفلسفية، بحيث بدا لنا من بعض الردود المتسرعة والمتشنجة أنها، مثلا، لم تلتفت إلى كون المحور الأول من الدرس، والخاص ب»مسألة التجديد كما طرحت عند المسلمين وعند غيرهم في الماضي والحاضر»، والذي جمعَ فيه المحاضر بين الرصد الدقيق والنقد العلمي لأبرز تلك الطروحات؛ هذا المحور النظري والابستمولوجي يعد مُحَدِّدًا رئيساً للمحورين اللاحقين؛ والمتعلقين ب»تجديد الدين في نظام إمارة المؤمنين»، وباستشراف «آفاق هذا التجديد على مستوى الأمة». ومعنى ذلك أن المحاضر أسَّسَ نظريا وابستمولوجيا ونقديا لطرحه، ومن ثم فكلُّ فهم للقضايا العشرين التي أجمل فيها «عمل إمارة المؤمنين منذ أزيد من عقدين من الزمن في باب حفظ الدين وتجديده»، وكلُّ فهم لحديث المحاضر عن أطراف إصلاح التدين من إمامة وأمة وعلماء، تشخيصا وبيانا واستشرافا، لا يمكن أن يكون فهما سليما وسديدا دون ربط ذلك بالمحور الأول المحدِّد للخلفية النظرية والمعرفية للدرس. وهذا هو سبب اختلال وانحراف عدد من القراءات التي اجتزأت، مثلا، القضية الثالثة عشرة من القضايا العشرين المذكورة، وهي الخاصة بالتعامل مع الأبناك، دون اعتبارها ضمن الرؤية الكلية للدرس تأسيسا وتشخيصا واستشرافا؛ مما جعل مناقشتها من زاوية أحادية فقهية وغير تجديدية وغير تكاملية مع باقي زوايا النظر، تجنيا على الدرس، ونقاشا منحرفا يقع خارج الأفق الذي أَطّرَ به المحاضر مقاربته لموضوعه.
لما كان المحور الأول من الدرس مُحَدِّدا للمحورين التاليين، وجب علينا الانتباهُ إلى أن الأستاذ التوفيق، بعد أن أصَّل مفهوم التجديد في الحديث النبوي، ووقفَ عند تعدُّدِ مدلوله بحسب علماء الأمة بين التجديد الفردي والجماعي، وبَيْنَ الحُكْم العادل وفهم النصوص، وأجملَ تعلُّق موضوعه بالنصوص أو فهمِها أو العمل بها؛ نجدُه يعرضُ بكثافةٍ لبعض معالم الإصلاح والتجديد عند نماذج من المصلحين والمجددين المسلمين في العصر الحديث، وخصوصا بعد صدمة الحداثة حين وجدوا أنفسَهم في مواجهة الغرب وحضارته. ها هنا نجد الأستاذ التوفيق يوجّه نقدا تركيبيا لهذه الطروحات الإصلاحية والتجديدية به يؤسس لبيان «تجديد الدين في نظام إمارة المومنين».وهو نقد كشف فيه عن قصور عملِ هؤلاء المجددين سواء في تقديم تحليل عميق لعلاقة المسلمين بالغرب، أو في فهم الحضارة الغربية بكل مكوناتها، أو في فهم ديناميتها الداخلية في العلم والفكر والسياسة والاجتماع؛ وكذا قصورهم في فهم مفارقاتها بين خطابها القيمي التحريري وممارساتها في سياق الاستعمار والاستغلال الاقتصادي؛ مما جعل المحاضر يَخْلُصُ إلى أن الأمر المطروح على المجدِّدين لا يتعلق بالتبعية للحضارة الغربية أو رفضها بل بالسؤال الرئيس: هل الهدف من الأخذ بالحضارة الغربية مادي أم أخلاقي؟؛ ولم تقف مراجعة الأستاذ التوفيق لتلك الطروحات التجديدية عند نقد انسجانها بثنائية التبعية للغرب أو رفضه؛ بل ذهب إلى حد نقد بعض ما زاد في عقمها، مثل رفعها لبعض الشعارات دون الاهتداء إلى مضامينها الصحيحة، كما هو شأن شعار «الإسلام صالح لكل زمان ومكان»؛ أو كما هو شأن كلام الإمام مالك في قوله: «لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما أصلحَ أولَها»؛ حيث بَيَّنَ المحاضر أن الشعار الأول لم يغب قط عن علماء الأمة، لكن بعض المصلحين فهموه بما لا يستوعب التاريخ وتحولاته دون أن يتعارض ذلك مع أساسيات الدين، مثلما بيَّنَ المحاضر أن الإشكال في الشعار الثاني هو «التشخيص الدقيق للعنصر الكيماوي الذي أحدث الصلاحَ في الأول»، والذي حدده في العنصر الجوهري الذي هو التزكية.
هكذا، يبدو من الإضاءات الوجيزة السابقة أن عدمَ استحضار مركزية العنصر الأخلاقي في الإصلاح من جهة، وعدمَ اعتبار التحول التاريخيّ والابستيمي في التعامل مع التجديد من جهة ثانية، وعدمَ مراجعة مضامين بعض الشعارات التي تُفهَم خارج الاعتبارين الأخلاقي والتاريخي من جهة ثالثة، وعدمَ الذهاب إلى روح التجديد في الدين والمتمثلة في الوصول إلى الحياة الطيبة التي وعدَ بها القرآنُ الكريم من جهة رابعة…كل ذلك جعلَ دعواتِ التجديدِ عقيمة، الأمر الذي استطاع تجديدُ الدين في نظام إمارة المومنين استيعابَه، ومن ثم تفادي الوقوع في آفاتِه بدءا من الجواب على المسألة الأعوص؛ وهي «مشروعية النظام السياسي بمقياس النموذج الأمثل في تاريخ الإسلام»، والتي عولجت في النموذج المغربي باختيار نظام إمارة المومنين منذ عهد الأدارسة. في سياق هذا المنظور الرحب يأتي رصدُ المحاضرِ للقضايا العشرين ضمن حديثه عن تجديد الدين في إمارة المومنين، وكذا تشخيصُه واستشرافه لعمل ثلاثية الإمامة والأمة والعلماء؛ والتي تناولها في المحور الثالث.
الناظر في القضايا العشرين التي بسطها المحاضر في المحور الثاني يجدها شاملة لمسائل الإمامة ومشروعية الحكم، وحفظ الكليات الخمس من حماية للنفس والعقل والعرض والدين والمال، وكذا صون الحريات العامة، وضمان موقع الاجتهاد في نظام إمارة المومنين، وتحصين الأسرة ومكانة المرأة، والعناية بالمسائل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وحماية القيم الروحية والخصوصية المغربية في بناء حضارة الإسلام، ورعاية نهج الوسطية في العقيدة، وحماية الأرض كجزء من حماية الدين، ثم صيانة الروابط العلمية والدينية والمشترك العقدي والمذهبي مع بلدان إفريقيا. كل هذه القضايا طرحها الأستاذ التوفيق بتركيز وتكثيف، يلخص مسارا تجديديا قاده أمير المومنين على مدى أكثر من عقدين، وأحدث طفرة دينية في المغرب؛ سواء في الخطاب أو المؤسسات أو الوظائف أو المكانة الروحية والإشعاعية العالمية للنموذج التديني المغربي. وعلى أساس هذا الرصد راح المحاضر يتناول المحور الثالث المتعلق بتشخيص واستشراف عمل ثلاثية الإمامة والأمة والعلماء؛ حيث ركز في هذا التشخيص والاستشراف على مشروع “تسديد التبليغ” الذي تبنته مؤسسة العلماء، والذي يقوم على أمرين؛ الأول هو شرح جملة من الحقائق للناس مثل أهمية العمل في الدين، وتحمل المسؤولية إزاء الله والنفس والمجتمع، والتحلي بالتوحيد بوصفه سبيل الحرية، وتثمير العبادات في السلوك، وطلب الحياة الطيبة التي وعد بها الله سبحانه المتحقق بشرطي الإيمان والعمل الصالح. والثاني شرح السلوكات المطلوبة من الناس لبلوغ الحياة الطيبة المنشودة؛ مثل المداومة على محاسبة النفس، واعتبار برهان الإيمان هو الشكر وبرهان الشكر هو الإنفاق، وأداء حقوق الله من خلال أداء حقوق الغير وحقوق النفس، واعتبار الأولوية في أكل الحلال هي الإخلاص في كل عمل مأجور وفي كل العقود والمعاملات، واعتبار العمل بالقانون من المعروف والإخلال به من المنكر، وتجنب جميع أنواع التبذير. وقد أكد بذلك المحاضر على الدور التخليقي الذي يجب أن يضطلع به العلماء، مقالا وحالا، وبتعاون مع كل من الأسرة والمدرسة والمؤسسات المدنية والروحية التي تشاطر المؤسسة العلمية نفس المقاصد. وقد أكد الأستاذ التوفيق على مركزية البعد التخليقي في مشروع تسديد التبليغ، ودوره في تحقيق التجديد، والذي مداره تحرير الإنسان من الأنانية، “هذا التحرير، كما يقول المحاضر، الذي وصف بفضله الإسلام في العهد الأول بأنه فتح مبين”، مضيفا: “وإذا تجدد هذا الفتح فسيكون أجره، إن شاء الله، في صحيفة هذا النظام الذي هيأ له الظروف والأسباب”. وهو البعد الذي يعتبر حاجة كونية لمواجهة ثقافة الاسترقاق الاستهلاكي الذي يهدد الإنسانية المعاصرة في هويتها الروحية والإنسانية، كما يؤكد ذلك عدد من حكماء الفكر المعاصر.
ليس القصد من هذه الطرر تلخيص درس غني وكثيف مثل درس الأستاذ التوفيق حول “تجديد الدين في نظام إمارة المومنين”، ولكن الغاية، هي استبعاد تلك المقاربات السطحية الاختزالية التي لا تنظر إلى هذا الدرس في تكامل أبعاده وضمن رؤيته الكلية التي تستوعب الدين والتاريخ والسياسة والفلسفة والأخلاق، والتي تأخذ في اعتبارها مصادر انتماء الأمة في الماضي وحركيتها للإجابة على إحراجات الحاضر بنظر متجدد في الواقع والمآلات، مثلما تأخذ في الاعتبار المحاورة النقدية للمرجعية الفقهية والمعرفية والتاريخية الموروثة، وكذا المرجعية الفكرية والفلسفية الغربية الحديثة، مع البحث عن الصلات والجسور بينهما، والتركيز على المشترَك لتثمير ما هو كوني في ثقافتنا هنا والآن. لذا، مثلا، لم يكن حديث الأستاذ التوفيق في القضية الثالثة عشرة عن التعامل مع الأبناك حديثا فقهيا أو من باب الفتوى، وهو المبجِّل لمشيخة العلماء والحريص على احترام الاختصاصات الحصرية لمؤسسة المجلس العلمي الأعلى، بل كان ذاك الحديث تنبيها إلى اعتبارات اقتصادية وتاريخية وفلسفية لابد من النظر فيها عند الحديث الديني في مسألة التعامل مع الأبناك؛ وذلك لتجاوز الإحراج الذي يقع فيه المسلم اليوم، سواء في تعاملاته الفردية أو ضمن المنظومة الاقتصادية العالمية. وهو في ذلك يستأنس بما ذهب إليه أحد كبار المصلحين الباكستانيين العالم فضل الرحمن الذي قدم المشورة للحكومة الباكستانية حول الفوائد البنكية، معتبرا “أن الحل ليس هو منع أبناك الفوائد تحت الضغط الشعبوي الذي يغذيه فقه متهرئ ملوث بالسياسة، بل الحل في تنمية الاقتصاد حتى تضعف الفجوة بين العرض والطلب”. الأمر الذي لا يعني أبدا إبداء السيد الوزير لنظر فقهي في مسألة الربا، فقد استشهد بكلام أمير المومنين الذي ما فتئ يؤكد فيه أنه “لا يحلل حراما ولا يحرم حلالا”، كما أشار إلى أن من “تجديد إمارة المومنين في هذا الباب إحداث معاملات بنكية تسمت بالمالية التشاركية”، والتي يعتبر المرجع في عملياتها هو المجلس العلمي الأعلى الذي أصدر لحد الآن أكثر من مائة وسبعين فتوى في الموضوع، وإنما القصد من إشارة الوزير معاودة التفكير في مدى مطابقة مفهوم الربا لكل أشكال المعاملات البنكية وخصوصا فوائد القروض؛ وذلك باستحضار حكمة التحريم وعلاقة القرض بالضرورة والفائدة بالأجل والاستثمار ونمو الاقتصاد؛ والنظر قبل هذا وذاك في آليات اشتغال المنظومة الاقتصادية المعاصرة وفق المقاصد والكليات الشرعية، مع اعتبار مقومات هذه المنظومة المختلفة جذريا عن الواقع الذي عالجه فقهنا الموروث، ودون استبعاد أي بعد من الأبعاد المحددة اليوم لهذه المعاملات البنكية ضمن الدينامية الاقتصادية المعاصرة، والتي صارت واقعا بشريا عالميا.
السؤال في درس الأستاذ التوفيق كما نراه، وفي العمق، ليس سؤال تحليل أو تحريم، بل سؤال إقدار المسلم اليوم على التفكير السليم في قضايا معاصرة انطلاقا من كليات الدين، والاجتهاد في نحت مخارج تخرجه من إحراجات واقع شكيزوفريني انفصامي بين إيمانه وواقعه، مما يؤثر على معنى إيمانه وروح تدينه أخلاقا ومعاملات. لقد فتح السيد الوزير، بجرأة وإيمان، أفق النظر التجديدي من داخل الدين في هذه المسألة، مما يقتضي نقاشا جديا وجادا وتجديديا، لكن يبدو أن السياق التجاذبي بين فريقين نقيضين أحدهما يرفع شعار “الخوف من الدين”، والثاني يرفع شعار “الخوف على الدين”، إذا استعرنا لغة المحاضر في درس حسني سابق، وكذا خلط غالب الفريقين بين الدين الوحياني المتعالي الخالد والتدين بما هو فهم وممارسة بشريان تاريخيان للدين…، وكذا عدم استيعاب الكثيرين لتحولات الواقع المعاصر معرفيا وتاريخيا واقتصاديا وتواصليا، وعدم التقاطهم لروح هذا الدرس الافتتاحي أصولا وتحليلا واستشرافا، وعدم استحضارهم للخلفية التاريخية والفلسفية والروحانية والكونية التي تحكم تجديد الدين في نظام إمارة المومنين؛ كل ذلك يجعلنا نسير نحو تفويت فرصة نفيسة لمناقشة علمية وجدية حول جم من المسائل بشكل علمي وتنويري وتجديدي منتج وخلاق، وخال من العنف اللفظي والرمزي، سواء منه الممارس باسم الدين أو باسم الحداثة.

الكاتب : محمد التهامي الحراق - بتاريخ : 26/03/2024

التعليقات مغلقة.